انهزامية المثقف وبؤس الإرادة: تحليل فلسفي–اجتماعي لخطاب فرقد الأغا حول تشخيص أزمة الوعي واستعادة الفاعلية الرسالية للمثقف.
بقلم الكاتب العراقي:
حكيم زغير الساعدي
الملخص
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مقال المفكر التنويري فرقد الأغا «انهزامية المثقف وبؤس الإرادة» بمنهج اجتماعي– فلسفي، للكشف عن البنية النظرية الكامنة خلف خطابه حول أزمة المثقف العربي المعاصر. تبحث الدراسة في طبيعة الدور الذي شغله المثقف تاريخياً، وكيف تحوّل هذا الدور في السياق الراهن إلى وضع من “الانسحاب”، وما يستتبعه ذلك من تمدد قوى التجهيل والطائفية والانحطاط الثقافي.
كما تُبرز الدراسة الرؤى الإصلاحية الجديدة التي صاغها الأغا، خصوصاً في إعادة ربط المثقف بالناس وبالقيم، وتقديم خطاب بديل يجمع بين العقلانية وروح الدين. وتخلص إلى أنّ الأزمة ليست أزمة فكر بقدر ما هي أزمة إرادة ورسالة، وأن إعادة بعث دور المثقف شرط لإصلاح البنية الاجتماعية.
مقدمة
يحتل المثقف موقعاً محورياً في تشكل الوعي الجمعي ومسار التحولات الاجتماعية، وقد ظلّ عبر التاريخ يمثل القوة التي توازن بين المعرفة والقيم، وتعيد إنتاج الوعي في لحظات الانعطاف الحضاري. غير أنّ الواقع العربي المعاصر يشهد تراجعاً حاداً في تأثير المثقف، واتساعاً في الفجوة بينه وبين الناس، وسط صعود أنماط من التجهيل المنظم، وتنامي الخطابات الطائفية، وهيمنة القوى الرجعية على المنابر الدينية والسياسية.
في هذا السياق، يأتي مقال المفكر فرقد الأغا «انهزامية المثقف وبؤس الإرادة» ليقدّم رؤية نقدية جذرية لدور المثقف وأزماته، وليعيد طرح السؤال المركزي: لماذا تفشل النخب في أداء دورها الرسالي رغم ما تمتلكه من معرفة؟
تسعى هذه الدراسة إلى تحليل هذه الرؤية، وتفكيك بنائها النظري، واستنباط ملامح المشروع الإصلاحي الذي يقدّمه المفكر .
إشكالية الدراسة :
تتمحور الإشكالية في البحث عن طبيعة الأزمة التي يعاني منها المثقف، والعوامل البنيوية والنفسية التي دفعت إلى تحوّل دوره من قيادة الوعي إلى الانسحاب والانكفاء. وتنبثق عنها الأسئلة الآتية:
1. كيف يصوّر فرقد الأغا المثقف ودوره التاريخي؟
2. ما ملامح “الانهزامية” التي يحمّلها للمثقف؟
3. كيف يفسّر علاقة المثقف بالمجتمع والدين والسلطة؟
4. ما الرؤية الإصلاحية البديلة التي يقترحها؟
5. وما مدى اتساق هذه الرؤية مع النظريات الاجتماعية والفلسفية الحديثة؟
منهج الدراسة
تعتمد الدراسة منهجين متكاملين:
1. المنهج التحليلي-الفلسفي: لتفكيك المفاهيم المركزية (المثقف، الانهزامية، التجهيل، الإرادة، الرسالة) ودراسة منطق طرحها.
2. المنهج السوسيولوجي النقدي: لقراءة النص في سياق علاقات المثقف بالمجتمع، وتوازنات القوة، وآليات الهيمنة الثقافية والدينية.
—
أولاً: تصور المثقف ودوره التاريخي
يضع الأغا تعريفاً مركباً للمثقف، يتجاوز التعريف اللغوي أو الوظيفي، ليقدّمه باعتباره:
فاعلاً أخلاقياً،
صاحب رؤية نافذة،
قادراً على تشخيص مشكلات عصره،
ومسؤولاً عن تقديم حلول ناجعة ٠
هذا التحديد ينسجم مع مفهوم المثقف العضوي لدى غرامشي(1) ، الذي يرى المثقف جزءاً من البنية الاجتماعية، لا منفصلاً عنها.
لكن الأغا يلاحظ أنّ مثقف اليوم ابتعد عن هذا النموذج، وتحوّل إلى كائن استعراضي يستهلك المعرفة دون أن يحوّلها إلى تغيير.
—
ثانياً: الانهزامية كأزمة إرادة لا أزمة معرفة
يؤكد الأغا أن أزمة المثقف ليست ناجمة عن نقص في الأدوات المعرفية، بل في بؤس الإرادة وغياب الفعل.
ويبيّن مظاهر الانهزامية في عدة مستويات:
1. التبرير الذاتي: المثقف يفلسف انسحابه ويبرر تقاعسه.
2. الخوف من المواجهة: يخشى الاصطدام بالسلطة أو الجمهور.
3. الانغماس في النقد السلبي: استهلاك اللغة دون تغيير الواقع.
4. الانفصال عن الناس: تحوّل الخطاب إلى نخبوية مغلقة.
من زاوية فلسفية، يطرح الأغا هنا إشكالية الحرية الداخلية: المثقف يعرف الحقيقة لكنه لا يمتلك الإرادة لتمثّلها، وهو ما يذكّر بفكرة كانط حول “العجز الذاتي عن استعمال العقل”.
—
ثالثاً: الجهل كمنظومة اجتماعية مقدسة
إحدى أهم أطروحات المقال هي أن الجهل لم يعد مجرد ظاهرة، بل تحوّل إلى «بنية مقدّسة».
وهذه البنية تُنتجها عوامل متشابكة:
تخلّي المثقف عن دوره،
هيمنة السلطة السياسية،
احتكار رموز دينية منحرفة للخطاب الديني،
استثمار الجهل لإدارة الجماهير.
من منظور سوسيولوجي، يشخّص الأغا انتقال الجهل من حالة معرفية إلى آلية سلطة؛ أي إلى أداة تستخدمها قوى سياسية ودينية لتضليل المجتمع وكبح الوعي.
رابعاً : المثقف والدين بين القطيعة والتوظيف
يفتح النص ملف العلاقة المعقدة بين المثقف والدين في المجتمعات الإسلامية.
ويطرح مبدأين رئيسيين:
1. معاداة الدين تؤدي إلى عزل المثقف عن الناس
لأن الجماهير ذات وجدان ديني، ورفض الدين يعني رفضاً لثقافتها.
2. الصمت على الانحراف الديني يسلّم الخطاب لرجال الدين المتطرفين
فيتحوّل الدين إلى أداة قمع وتجييش.
يطرح الأغا بديلاً يقوم على: “تنقية الدين، وترجمة قيمه العقلانية، وإحياء بعده الأخلاقي لتنوير المجتمع”.
وهذا التوجه يعيد دمج العقل بالتقاليد، على نحو يوازي مشاريع الأفغاني ومالك بن نبي، لكنه يتجاوزها بالإصرار على أن الإصلاح يبدأ من المجال الديني نفسه.
—
خامساً: تفكك الدور الإصلاحي للمثقف
يوضح النص أن المثقف قد تراجع عن دوره التاريخي في:
مواجهة الطائفية،
فضح الفساد،
حماية الشباب من الخرافة،
توعية الجماهير،
صنع بدائل فكرية.
والنتيجة، اتساع نفوذ القوى الرجعية، وسيادة ثقافة الانحطاط، وتكريس التبعية والخوف.
يمارس الأغا هنا نقداً مزدوجاً:
نقداً للمثقف كفرد،
ونقداً للبنية الثقافية التي جعلت المثقف مستسلماً.
—
سادساً: الرؤية الإصلاحية في خطاب الأغا
تتضمن المقالة مجموعة حلول تشكّل ملامح مشروع إصلاحي فكري:
1. إصلاح المثقف ذاته
مراجعة أدواته وأساليبه.
التخلص من الانهزامية.
استعادة الإرادة والجرأة الأخلاقية.
2. إعادة بناء العلاقة مع المجتمع
تبسيط الخطاب.
الانفتاح على حاجات الناس.
تجنب التعالي الفكري.
العمل الميداني لا الخطاب التجريدي.
3. استعادة الخطاب الديني من القوى المتطرفة
كشف المفسدين باسم الدين.
تحرير الوعي الجمعي من التلاعب الطائفي.
إعادة تقديم القيم السماوية بروح عقلانية أخلاقية.
4. مقارعة قوى التجهيل
فضح آليات التلاعب بالعقول.
تحصين الشباب فكرياً.
إنتاج خطاب معرفي يعيد الاعتبار للحقيقة.
5. بعث نموذج “المثقف الثائر”
لا بوصفه محارباً سياسياً، بل بوصفه:
رائداً أخلاقياً،
مفكراً يمتلك إرادة التغيير،
قادراً على إعادة الأمة إلى مسار الوعي.
—
سابعاً: تقييم نظري لأطروحات الأغا
تنسجم رؤية الأغا مع عدد من المنظورات الفكرية:
مع غرامشي في اعتبار المثقف فاعلاً عضوياً.
مع مفكري النهضة في ضرورة إصلاح الخطاب الديني.
مع مدرسة النقد الاجتماعي في تحليل الجهل بوصفه آلية سلطة.
ومع الأخلاقية الكانطية في ربط الفعل بالإرادة.
لكنها تتفرد في:
تحميل المثقف نفسه مسؤولية الانهيار،
الدعوة إلى ثورة روحية–فكرية مزدوجة،
الجمع بين البُعد القيمي والعقلاني معاً.
—
النتائج
توصلت الدراسة إلى النتائج الآتية:
1. أزمة المثقف العربي هي أزمة إرادة ورسالة قبل أن تكون أزمة فكر أو أدوات.
2. الجهل أصبح بنية قوة، ويتغذى على غياب المثقف وتواطؤه أو خوفه.
3. إصلاح المجتمع يتطلب إصلاح الخطاب الديني، لا استسلامه.
4. القطيعة بين المثقف والناس هي مصدر اتساع نفوذ القوى الرجعية.
5. مشروع الأغا يدعو إلى ميلاد نموذج جديد من المثقف: المصلح، الأخلاقي، الفاعل.
—
الخاتمة
يقدم فرقد الأغا في مقاله قراءة جريئة لمأزق المثقف العربي، ويعيد مساءلة دوره التاريخي بوصفه ضمير الأمة وذاكرتها الحية. ويؤكد أن طريق الإصلاح لا يمر عبر التنظير المجرد أو الاستعلاء الفكري، بل عبر استعادة المثقف لرسالته الأخلاقية والاجتماعية، وإعادة بناء العلاقة مع الناس، وتنقية المجال الديني من التشويه، ومقاومة قوى التجهيل التي تمارس الهيمنة على الوعي.
إنّ ما يطرحه الأغا ليس مجرد نقد؛ بل مشروع لإعادة بعث روح التنوير، يقوم على الجمع بين العقل والقيم، بين الإيمان والحرية، وبين المعرفة والإرادة.
ومن هنا، فإنّ المقال يمثل لبنة مهمة في الخطاب العربي المعاصر، ويشكّل نداءً لإطلاق عصر جديد من مسؤولية المثقف وفاعليته ودوره التغييري.
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
1_ أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) هو فيلسوف وقائد ماركسي إيطالي (1891-1937)، وأحد أهم المُنظّرين السياسيين في القرن العشرين.
أهم إسهاماته في نقطتين:
مفهوم “الهيمنة” (Hegemony): وهي سيطرة الطبقة الحاكمة ليس بالقوة فقط، بل بنشر أفكارها وقيمها لتصبح هي “الوعي العام” المقبول طوعاً من المجتمع (الهيمنة الثقافية).
مفهوم “المثقف العضوي”: وهو المثقف الذي يرتبط بالجماهير ويتبنى قضاياها ويعمل على تنظيم وعيها وإرادتها لتحقيق التغيير، على عكس “المثقف التقليدي” المنعزل.
خلاصة: مفكر إيطالي ركز على القوة الثقافية (الهيمنة) ودور المثقف (العضوي) في قيادة المجتمع نحو التغيير.






