للكاتبة حورية صالح قويدر
العنوان: “الكاميرا الأخيرة”
في فجر يوم هادئ على غير عادة الحرب، كان أنس الشريف يجلس في خيمته المؤقتة، يراجع اللقطات التي صوّرها بالأمس. اللقطات كانت مؤلمة: بيوت مهدمة، أمهات تبحث عن أطفالهن تحت الركام، ورجال إسعاف يركضون وسط الغبار والدم.
لكن في قلبه، كان في مشهد واحد محفور أكثر من أي صورة… مشهد ابنته الصغيرة “شام” وهي تركض في البيت قبل الحرب، تضحك وتصرخ: “بابا صوّرني… بدّي أطلع بالتلفزيون!”.
منذ تهجيرهم من بيتهم في غزة، صار أنس يعيش على خط النار، يترك ابنته عند أقاربها في مكان أقل خطر، ويعود ليغطي المذابح والجازر وهو يعرف أن كل مرة قد تكون الأخيرة.
كان دائمًا يطمئنها عبر الهاتف:
– “بابا رح خلص شغلي وأرجع… ما تقلقي”
لكن. شام ، بصوتها الطفولي، كانت دائمًا تسأله السؤال الأصعب:
– “بابا… إذا القصف إجا عليك، مين رح يجي ياخدني من المدرسة؟”
وكان يضحك ليخفي وجعه وحرقة قلبه.
– “ولا يهمك… بابا بضل قوي”.
في ذلك الصباح، جلس أنس مع زملائه الأربعة في الخيمة، يخططون لتغطية جديدة. القهوة على النار، والضحكات الخفيفة تخترق أجواء الموت من حولهم. أحدهم قال:
– “أنس، لو انتهت الحرب… شو أول شي رح تعمله؟”
ابتسم أنس وهو ينظر لصورة .. شام.. في هاتفه:
– “أحضن بنتي… وأخذها على البحر، وأخليها تركض على الرمل لحد ما تتعب”.
لكن الحرب لم تمنحه هذا اليوم…
دقيقة واحدة كانت كافية ليتحول كل شيء إلى نار وصراخ. صاروخ إسرائيلي مزّق الخيمة، وتناثرت الكاميرات والدفاتر، وسقط أنس وزملاؤه بين الحديد الملتوي والنار.
يد أنس، التي كانت تمسك الكاميرا، سقطت بجانب صورة ابنته التي كانت في جيبه… الصورة بقيت سليمة، لكن ملامحه رحلت.
في مساء ذلك اليوم، حمل أحد المسعفين أمانة لأنس إلى أهله… كانت الصورة التي في جيبه، وعليها بقايا تراب ودخان أسود.
شام. أخذت الصورة، وضمتها لصدرها، وسألت بصوت مرتجف:
– “بابا وينك؟”
لكن هذه المرة، لم يجبها أحد…
العنوان: “بابا ما رجع”
كنت واقفة على باب الخيمة الصغيرة اللي صارت بيتنا من بعد ما انهدّم بيتنا في غزة. كنت أستنى بابا مثل كل مرة… هو وعدني إنه لما يخلص شغله، رح يجي يضمني ويحكي لي قصة قبل ما أنام.
بابا دايمًا كان يقول لي:
“يا شام، أنا مش بس ابوكِ… أنا كمان عيون الناس، لازم يشوفوا اللي بيصير”.
آخر مرة شفته، كان لابس الخوذة والسترة الزرقا اللي مكتوب عليها “PRESS”. مسح على شعري وقال لي:
“انتِ بطلة… خليكِ قوية لبين ما أرجع”
وابتسم ابتسامته اللي بتخلي الدنيا أمان… حتى وأنا خايفة.
ذلك اليوم، قعدت أعدّ الدقائق. كل صوت في الخارج كان يخلي قلبي يدق، يمكن بابا رجع… يمكن عم ينده علي.
لكن فجأة، سمعت دوي قوي… الأرض اهتزت، والغبرة غطت السماء. قلبي وقع… ما بعرف ليه حسيت إني فقدته قبل ما يجي الخبر.
المساء، إجوا ناس كتير على الخيمة. كنت شايفة وجوههم متعبة، عيونهم حمراء. وحدة من قريباتي جابت لي صورة بابا… نفس الصورة اللي كان دايمًا حاططها بجيبه، صورتي وأنا صغيرة وهو حاملني. الصورة عليها تراب أسود مثل الدخان.
سألتها:
– “وين بابا؟ ليه ما أجى هو بنفسه؟”
دمعت عيونها وقالت بصوت مكسور:
– “بابا صار عند ربنا، يا شام …”
ما فهمت… ركضت برا الخيمة، فتشت بين الناس، بين العربيات، بين المسعفين… كنت عم نادي:
“بابااا… أنا هون… تعال خدني على البحر متل ما وعدتني!”
لكن البحر صار بعيد، وصوت بابا ما عاد يوصل.
في اليوم التاني، ودّوني على الجنازة… الناس كلها كانت تبكي، وفي كل مكان كانوا يحكوا عن شجاعته، عن أصراره كيف ضلّ يصوّر لآخر لحظة، عن الكاميرا كيف ما وقفت حتى سكت قلبه.
أنا كنت شايفة كل شي ضباب، بس شفت جسده مغطى بالعلم الفلسطيني، والكاميرا مكسورة جنبه… حسيت كأنه نام، بس ما عاد رح يفتح عيونه.
رجعت على الخيمة، مسكت صورته، وحطيتها تحت وسادتي… ومن وقتها، كل ليلة بحكي له:
“بابا… الحرب خلصت عندك، بس هون لسه ماخلصت.. وأنا رح أضل أستناك بالبحر، حتى لو ما رجعت”.–





