في مثل هذا اليوم23 ديسمبر962م..
القوات البيزنطية تقتحم مدينة حلب خلال الحروب العربية البيزنطية تحت قيادة نقفور فوقاس، الذي صار إمبراطورًا فيما بعد.
سُقُوطُ حلب سنة 351هـ المُوافقة لِسنة 962م هو أحد الأحداث المحوريَّة المُهمَّة في التاريخ الإسلامي عُمومًا وتاريخ العصر العبَّاسي الثاني خُصُوصًا، إذ كان لِسُقُوطها في يد الروم البيزنطيين صدىً هائل في مُختلف أنحاء العالم الإسلامي نظرًا لِأهميَّتها الاقتصاديَّة والبشريَّة والإستراتيجيَّة، كما دق سُقُوطها ناقوس الخطر في أرجاء البلاد الإسلاميَّة مُعلنًا قُدرة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة على بُلُوغ أعماق الشَّام، كما استبشر البيزنطيُّون بِهذا النصر الذي حققوه مُعتبرين أنَّ بِإمكانهم استرجاع أمجاد إمبراطوريَّتهم الغابرة وإعادة الحال كما كان عليه قبل الفُتُوحات الإسلاميَّة لِلشَّام ولِمصر، واسترجاع بيت المقدس من المُسلمين.
كانت حلب – إلى جانب كونها العاصمة الثانية لِلشَّام – تُشكِّلُ عاصمة الدولة الحمدانيَّة القائم على عرشها سيف الدولة الحمداني، الذي كان يُدين بِالولاء لِلخلافة العبَّاسيَّة في بغداد. واشتهر سيف الدولة بِغزواته الكثيرة في ديار الروم وفتحه لِلكثير من القلاع والحُصُون البيزنطيَّة، وقيامه بِعمليَّة حراسة حُدود ديار الإسلام على الجبهة البيزنطيَّة، فكان العدوَّ الأوَّلَ لِلروم وشكَّل عائقًا يجب إزالته. وفي تلك الفترة كانت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة تشهد نهضةً سياسيَّة قويَّة، وتبوَّأت فيها السُلالة المقدونيَّة سُدَّة الحُكم، فأجرت إصلاحات كبيرة على مُختلف الأصعدة: سياسيًّا وإداريًّا وعسكريًّا وثقافيًّا، فانتعشت الإمبراطوريَّة وتوسَّعت حُدودها لِأوَّل مرَّة مُنذ الفُتُوحات الإسلاميَّة، وتمكَّن البيزنطيُّون من انتزاع جزيرة إقريطش (كريت) من المُسلمين والعديد من المُدن والحُصُون الحُدوديَّة في قيليقية وشمالي الشَّام والجزيرة الفُراتيَّة.
كانت غزوات الروم على قيليقية مُجرَّد تمهيد لِغزو حلب والقضاء على سيف الدولة ومن ثُمَّ اتخاذها مُنطلقًا نحو بيت المقدس. وفي 18 ذو القعدة 351هـ المُوافق فيه 18 كانون الأوَّل (ديسمبر) 962م وصل البيزنطيُّون بِقيادة نقفور فوقاس بِجيشٍ ضخم فاق بِعناصره وعتاده حجم الجيش الحمداني، فهُزم الأخير شر هزيمة، وحُوصرت حلب ثُمَّ اقتُحمت، وارتكب الروم فيها مجزرة كبيرة وعدَّة فظائع، فأعملوا السيف في أهلها وأحرقوا البُيُوت والمساجد والأشجار والمزروعات والمعالم الحضاريَّة من أسواق وقُصُور بما فيها قصر سيف الدولة، وسبوا آلاف المُسلمين وأطلقوا سراح الأسرى البيزنطيين، واستحالت حلب وأعمالها خرابًا. وحدها القلعة استعصت على الروم، وتمكَّنت حاميتها من دفع هؤلاء في كُل مرَّة حاولوا اقتحامها. واضطرَّ نقفور فوقاس أن ينسحب من المدينة بعد بضعة أسابيع من احتلالها بعد أن بلغته أنباء مُؤامرة تُحاك ضدَّه في البلاط البيزنطي في القُسطنطينيَّة، وأنَّ المُسلمين احتشدوا في دمشق والعراق ومصر وتنادوا لِنُصرة حلب والزحف إليها والثأر من الروم. بعد انسحاب البيزنطيين وعودة سيف الدولة إلى المدينة، حمل عدَّة حملات على الأناضول لِلاقتصاص من الروم والثأر لِمن قُتل من المُسلمين، فدارت بينه وبين البيزنطيين عدَّة معارك لم يكن فيها النصر حاسمًا لِأي طرف، إلى أن قرَّر نقفور فوقاس – الذي أصبح إمبراطورًا – أن يُبرِّد الجبهة الإسلاميَّة لِيتفرَّغ لِلجبهة الأوروپيَّة وإلى قتال البُلغار العاصين لِبيزنطة.
استولى نقفور فوقاس على دار سيف الدولة التي تقع خارج حلب وتُسمَّى «الدارين»، فنهب ما تحويه من مالٍ ودوابٍ وسلاح، وخرَّب الدار، وملك الربض التي حولها. حاصر البيزنطيون حلب يوم السبت 20 ذي القعدة 351هـ المُوافق فيه 19 كانون الأوَّل (ديسمبر) 962م، فخرج شُيُوخ حلب يوم الإثنين 22 ذي القعدة المُوافق فيه 21 كانون الأوَّل (ديسمبر) يطلبون من نقفور أن يفُك حصاره، فاشترط تسليم سيف الدولة، فأخبروه أنه فرَّ من المدينة، فطمع في الاستيلاء عليها عنوةً. ثُمَّ أرسل نقفور يومها رسولًا إلى شُيُوخ حلب يعرض على المدينة الأمان مُقابل أموال، وأن يُمكِّنوا جيشه من الدخول من باب والخُرُوج من آخر، وينصرف عنهم. فطلبوا مهلة لِلتشاور، فقبل ذلك. ثم خرج شُيوخ حلب في اليوم التالي بقبول العرض. شكَّك نقفور في نوايا أهل حلب بأنهم أعدّوا كمينًا لِقُوَّاته حين يدخلون المدينة، فأنكر بعض الحاضرين ذلك، وأقسموا أنَّهُ لم يبق بِالمدينة من يحمل السلاح، فأدرك نقفور ضعف دفاعات المدينة، وصرفهم على أن يأتوه في اليوم التالي. وفي المساء، هاجم البيزنطيُّون أسوار المدينة، واعتلوا أقصر بُقعة في السور بالقُرب من باب قنسرين، وحاولوا هدمها، فواجههم أهل المدينة ببعض المُقاومة. وأصلحوا السُور وكبَّروا، فتراجع البيزنطيُّون إلى جبل جوشن. استغلَّ بعض أوباش الناس واللُصوص انشغال أهل حلب بِالدفاع عن المدينة، فهاجموا منازل الناس، وخانات التُجَّار، لينهبوها. فانشغل شُيوخ البلد عن الدفاع عن السُور، ولحقوا بِمنازلهم. ولمَّا رأى البيزنطيون السور دون دفاع، نصبوا السلالم على السور، ودخلوا المدينة من جهة بُرج الغنم، وذلك ليلة الثُلاثاء 22 ذي القعدة المُوافق فيه 22 كانون الأوَّل (ديسمبر)
انقضَّ البيزنطيُّون على السُكَّان العُزَّل الأبرياء فوضعوا السيف فيهم، وارتكبوا مجزرة رهيبة راح ضحيَّتها كثيرٌ من الأهالي، وأسر نقفور عددًا كبيرًا من النساء والأطفال، وقتل مُعظم الرجال، وحرَّروا من كان بيد المُسلمين من الأسرى البيزنطيين، وكانوا 1,400 أسير، وقيل 1,200 أسير، وأقام نقفور بحلب ثمانية أيام ينهب، ويقتل، ويسبي. كما خرّب قصر سيف الدولة، وأخذ ما فيه من مال وسلاح. ثم أحرق نقفور المسجد الجامع ومُعظم أسواق ودُور المدينة، ثُمَّ عمد البيزنطيُّون إلى خباب الزيت فصبُّوا فيها الماء حتَّى فاض الزيت على الأرض، وأُحرق ما بقي في المدينة من مساجد.
امتناع القلعة
لم يسلم من القتل والأسر إلا من فرّ إلى القلعة من العلويين والهاشميين والكُتّاب وأصحاب الأموال. ولم يكن لِلقلعة يومئذٍ سُور، وكان بها جماعة من الديلم. فحاصر البيزنطيون القلعة، لكنَّها صمدت واستعصت عليهم. وعلى الرُغم من من سوء أوضاع المُعتصمين وما تعرَّضوا له من الشدَّة والجُوع بِسبب قلَّة المؤونة، حتَّى أنَّهم كانوا يتسلَّلون ليلًا لِلبحث عن الأقوات؛ فإنَّ حاميتها شكَّلت مصدر خطرٍ على الجُنُود البيزنطيين، إذ كانوا ينقضُّون عليهم من حينٍ إلى آخر، ما أثار تُيُودور ابن أُخت نقفور وأصرَّ على الاستيلاء على القلعة، على الرُغم من مُعارضة الدمستق، الذي رأى أن ينصرف عنهم بِفعل أنهم عُراة، وإذا نزلوا هلكوا لِأنَّهم لا يجدون قوتًا. وعندما اقترب من باب القلعة رماه ديلمي بسهامه، فقتله، وحُملت جُثَّته إلى الدمستق دون رأس. فطلب نقفور تسليم من قتل ابن أخته، فرمى المدافعون برأس تيودور، فقتل نقفور 1,200 أسير، وقيل نحو 2,000 أسير، لكنَّهُ استثنى من ذلك الشُبَّان، وكان لزامًا عليه أن يُهاجم القلعة، غير أنَّهُ بدلًا من أن يقوم بِذلك، قرَّر الارتداد عن المدينة.
انسحاب الروم
غادر نقفور وجيشه حلب في يوم الأربعاء أوَّل ذي الحجة سنة 351هـ المُوافق فيه 30 كانون الأوَّل (ديسمبر) 962م إلى القُسطنطينيَّة بعد قتل الأسرى من الرجال. سار بالسبي، وكان نحو بضعة عشر آلف صبي وصبيَّة. وقد اختُلف في سبب رحيل نقفور عن حلب، ولعلَّ لِذلك علاقة بِالأسباب التالية:
لقد خشي أن يُباغته سيف الدولة بِهُجومٍ مُضاد، فاكتفى بما أحرزه من انتصارٍ عليه واستباحة عاصمته وتخريب بلاده.
لقد علم بِأنَّ الغُلام نجا عاد بِعسكره إلى الأمير سيف الدولة ما قوَّى من وضعه العسكري، وشنَّا الغارات على عسكر البيزنطيين.
لقد أصاب جُندهُ التعب والإرهاق الذي نجم عن هذه الحُرُوب العنيفة، ثُمَّ إنَّ تنظيم الجيش البيزنطي ام يتهيَّأ لِمُمارسة حُرُوب طويلة الأمد.
ما بلغ سمعه وشاع في المُعسكر البيزنطي عن قُدُوم إمدادات من دمشق إلى حلب بعد أن استنجد سيف الدولة بأهل عاصمة الشَّام، فسار إليه ظالم بن السلَّال العُقيلي والي الإخشيديين على دمشق، بِفعل أنَّ هذه الكارثة أثارت العالم الإسلامي، فنبذ المُسلمون ما بينهم من خلافات ووحَّدوا كلمتهم ونهضوا لِقتال العدُو المُشترك، وتنادى الناس في مصر والعراق لِلزحف إلى حلب والثأر من الروم.
رأى أن يهتم بما يجري في القُسطنطينيَّة من الأُمور، لا سيَّما أنَّهُ لم يصل إليه، مُنذُ زمنٍ طويل، من الأنباء عمَّا يُدبَّر بِالبلاط من المُؤامرات التي تجري دائمًا ضدَّ قائدٍ مُنتصر.
ما شاع من الأنباء التي تُشير إلى تدهوُر صحَّة الإمبراطور البيزنطي رومانوس الثاني بعد وُقوعه من ظهر فرسه أثناء رحلة صيد، وأنَّهُ – أي نقفور – مُرشّحٌ لِخلافته. كما أنَّ هذا الأمر جعل قادة القُوَّات البيزنطيَّة في آسيا الصُغرى يتطلَّعون إلى العرش البيزنطي.
حملت كُل هذه الأسباب مُجتمعةً نقفور فوقاس على أن يأمر جُندهُ بالارتداد عن حلب بعد ثمانية أيَّامٍ من الاحتلال. أمَّ النتائج التي ترتَّبت على الحملة، فقد صبَّت في مصلحة البيزنطيين، ولعلَّ أهمُّها:
سيطر البيزنطيُّون على إقليم قيليقية الفاصل بينهم وبين الشَّام، بحيثُ فُتحت الطريق أمامهم للانسياب إلى هذه البلاد بِسُهولةٍ ويُسرٍ.
جرى احتلال جميع دُرُوب الآمانوس، ومُعظم الحُصُون الضخمة الواقعة في الإقليم المُمتد بين نهر الفُرات وجبال الآمانوس.
حقَّق نقفور فوقاس انتصارًا ساحقًا على خصمه سيف الدولة، واستباح عاصمته وغنم أمواله.
على الرُغم من أنَّ نقفور فوقاس غضب لِجلائه عن حلب بعد أن فشل في تثبيت أقدامه فيها، إلَّا أنَّهُ لم يشُك في أنَّ عودة قريبة إلى هذه الجهات سوف تُؤدّي إلى الاستيلاء على المدينة بِصُورةٍ نهائيَّة، بِدليل أنَّهُ عندما غادر حلب منع جُندهُ من نهب المدينة وتخريب حدائقها ومزارعها، وقال لِأهلها: «هَذَا البَلَد قد صَارَ لَنَا، فَلَا تُقّصِّرُوا في العَمَارة، فإِنَّا بَعدَ قَلِيلٍ نَعُودُ إِلَيكُم».
اجتاز الجيش البيزنطي جبال الآمانوس عند عودته، وعبر أفراده سُهُول قيليقية وجبال طوروس، وما كادوا يصلون في أواخر شهر صفر سنة 352هـ المُوافق فيه شهر آذار (مارس) سنة 963م، إلى سمندو بِثغر قيليقية حتَّى وردت الأنباء بِوفاة الإمبراطور رومانوس الثاني.
بعد سُقُوط حلب
عودة الحمدانيين ورد الفعل الإسلامي
كانت صدمة احتلال حلب كبيرة في العالم الإسلامي، لا سيَّما وأنَّها تُعدُّ مُقدمة لِحملاتٍ أُخرى سيقوم بها البيزنطيُّون على الجزيرة الفُراتيَّة والموصل. وفي الأخيرة كان الناس ثائرون غاضبون، فأغلق الأهالي الأسواق، واجتمعوا في المسجد الجامع من أجل ذلك، كما اجتمعوا بِالأمير ناصر الدولة، الذي وعدهم بِالمضيّ في الجهاد. كان سيف الدولة، خِلال هذه المحنة، قابعًا في قنَّسرين يُراقب تطوُّر الأحداث، وما كادت الجُيُوش البيزنطيَّة ترتدّ عن حلب حتَّى عاد إليها لِيجدها خرابًا، فانصرف إلى إزالة آثار العُدوان من واقع إعادة تعميرها، وحرص أن يُعيد إليها ما تفرَّق من سُكَّانها، وعلى الرُغم من ذلك، فإنها لا زالت قليلة العدد، فنقل إليها من استطاع جمعه من سُكَّان مدينة قنَّسرين المُجاورة، والتي تعرَّضت هي الأُخرى لِلحرائق على أيدي الجُنُود البيزنطيين، وأعاد عمارة أسوارها، وشيَّد من جديد ميناء أنطاكية، ثُمَّ التفت إلى إعادة تجميع وتنظيم قُوَّاته لِلرد على التعديات البيزنطيَّة؛ فأرسل في سنة 352هـ المُوافقة لِسنة 963م ثلاث حملاتٍ عسكريَّةٍ لِغزو الأراضي البيزنطيَّة، فدخلتها من ثلاثة محاور مُختلفة. انطلقت الحملة الأولى من طرسوس، ودخلت الأراضي البيزنطيَّة من درب قيليقية، وتوغَّلت فيها حتَّى وصلت إلى قونية، واصطدمت أثناء عودتها بِقُوَّةٍ بيزنطيَّةٍ عند الدَّرب بِقيادة قُسطنطين الملايني وانتصرت عليها. وتوجَّهت الحملة الثانية إلى ملطيَّة بِقيادة نجا غُلام سيف الدولة، الذي عاد إلى ميافارقين بعد أن نفَّذ مُهمَّته، فالتقى بِمُجاهدين آتين من خُراسان، يبلغ عددهم خمسة آلاف رجل، وهُم في طريقهم إلى حلب لِلتطوُّع في جيش سيف الدولة والانتقام من الروم، فلم يمضِ معهم إلى سيِّده. وقاد سيف الدولة الحملة الثالثة، فسبى أكثر من ألفين، ومن المواشي مائة ألف، على الرُغم من أنَّهُ لم يتوغَّل كثيرًا في الأراضي البيزنطيَّة لأنَّهُ كان مريضًا بِالفالج، ويُصاب بِحالات إغماء يُظنُّ معها أنَّهُ قد فارق الحياة، لِذلك عاد إلى حلب من دون أن يُتمَّ مُهمته.!!!!!