أنا والجنُّ
عمرو الزيات
رأيتُ عفريتًا من الجن كما لم يرَه غيري، ولستُ أعني أني هبطتُ أسفل الأرض حيث تسكن العفاريت، أو سُحِرتُ، أو نظرتُ إليه بأربع عيون؛ لكنني أعني أني رأيتُه صغيرًا، ومَن منا لم يرَه في طفولته على نحو ما؟! سيَّما مَن نشأ – مثلي – في بيئة ريفية، وفي تلك الحياة تكثر الحكايا عن الجن والعفاريت، كما يذكر ذلك – كثيرًا – صديقُنا القاصُّ المجذوبُ حالبُ الدهر وغريمُه الدكتور سيد شعبان، وكم أحب منه تلك الحكايات، وأفزع لها في آن، بيد أن رؤيتي الجنَّ كانت غريبةً عجيبة.
كانت أمي – رحمات ربي عليها ومغفرته – تذكر الجنَّ عندما تريد أن تُخيفَ أخي الذي يصغرني بعامين، وكان – حفظه الله – يضربني دومًا كلما شاركتُه اللعب!! وكان الناسُ جميعُهم يحسبون أنه أكبر مني، ولا يغرَّنَّك – الآن – مني حِدَّةٌ في اللغة، وغلظةٌ في القول؛ فكثيرًا ما ضربَني من هم في مثل سني وأصغر مني، وما زلتُ – حتى اليومَ – أتألم ممن أخلصتُ لهم الود!! فيطعنونني طعناتٍ لا شفاءَ منها، ولا أحسب ألمَها يزول إلا بموتي!! كان شقيقي الأصغر يخشاه أترابه ومَن يكبرونه، وكثيرًا ما بكيتُ وشكوتُ لأمي قسوتَه عليّ، فكانت تقول لي: لا تخرج معه؛ لأن عفريتًا ذا قرنٍ واحدٍ ينتظر في الطريق، كنت أسمع منها فيتسلل الرعب إلي قلبي، وأتخيل صورةَ العفريت ذا القرن الواحد؛ فلا أبرح البيت، ولعلَّ ذلك كان سببًا في مَيلي إلى البقاء بالبيت؛ فلستُ ذلك الذي يحب أن يترك بيته رغم مرور الزمن، وإن أحَبَّ الأوقات إليّ تلك التي أجلس فيها بالبيت لا أفارقه، ولعلها أبغض الأوقات لزوجي وتوأمي؛ أجلس في البيت مستغرقًا وموزَّعًا بين القراءة والكتابة، فأنا معهم جسدًا، أما الرُّوح فمع تلك الأفكار البالية التي لا تغيّر واقعا.
أعود إلى ذلك العفريت الذي عرفتُه كما لم يعرفه أحدٌ غيري! في أحد الأيام بعدما أخذتُ حظي من اللكمات والركلات من أخي (الأصغر) قالت أمي: لا تحزنْ لقد خرج أخوك، والعفريت ذو القرن الواحد عائدٌ إلي بيته الآن، وسوف يلقاه في الطريق وينتقم منه.
كان شغفي كبيرًا لأرى هذا العفريت يقتصُّ لي من أخي؛ بيد أنني كنت أكثر شغفًا لرؤية هذا العفريت، وكيف يكون قرنه، وعيناه، وأذناه؟! سرتُ وجِلًا أتصبب عرَقًا، تخفَّيتُ خلفَ شجيرة من تلك الشجيرات القائمة أمام بيتنا لأراه، وفجأة رأيتُ رجلًا قادمًا، عرفتُ صوته قبل أن أرى له شكلًا، كان صوته منكَرًا أشبه بصوت الديك، يصيح في زوجه التي ترافقه في سيره، وكان ممسكًا بزِمام حمارٍ له بل حمارة، كان أحدبَ الظهر، يضع فوق رأسه (طاقية) كأنها برجٌ من أبراج الحمام التي تعلو معظم الدُّور في بلدتنا؛ فقلتُ لنفسي: إنه هو، وهذا الذي فوق رأسه قرنه الوحيد، وكان للرجل شاربٌ عجيبٌ حقًا؛ لم يكن له شارب؛ بل شعيراتٌ طولية نبتت على جانبَي فمه، وكم كان أهلُ الريف واهمين إذ يحسبون هذا الشارب، أو تلك الشعيرات آيةَ الرجولة ورمزَ الفحولة، وأن العار كل العار ألا يكون لأحدهم تلك الشعيرات وإن كان حاملُها يشبه الشياطين!! كنت أراقب هذا الرجل أو العفريت وهو قادم يصيح في زوجته وحمارته، ولما مرّ أمامي ركبها – أي الحمارة – وظل صياحُه يعلو وزوجته تجتهد لتسير جواره. استحلتُ ديكًا وهرولتُ إلي البيت أصرخ وأصيح: لقد رأيتُه، لقد رأيتُه، له قرنٌ واحدٌ طويل، وشاربٌ عجيب، وصوته غريب، كان حافيًا يا أمي، فقالت: ومن هو؟! إنه العفريت يا أمي؛ فضحكَتْ وقالت: دعه ينتقم من شقيقك، ولا تخرج من البيت؛ كَيْلا يصيبَكَ ما أصابه.
Discussion about this post