افلام عن الحب في زمن الحرب
الدكتور فراس الشاروط
الجبل البارد 2003
اخراج : توني مانغيلا
وحشية الحرب وقسوة الحب
أنتوني مانغيلا يظهر ولعاً خاصاً بدواخل النفس البشرية وما تعانيه من ويلات الحروب ، نجد هذه الرؤية في شريطه الاسبق ( المريض الانكليزي ) الحائز على أوسكار 1997 ، تتجدد الرؤية ذاتها هنا في شريطه ( الجبل البارد ) حيث تتكرر نفس الثيمات ( الحب ، الحرب ، الموت) لتكون القاسم المشترك في كلا الفيلمين .
مأساة إينمان (جود لو ) وبحثه عن طريق العودة للبيت / الوطن هي تقريباً بحث المريض الانكليزي عن الهوية ، ومثلما أحترق بطله الانكليزي وشوهت ملامحه التي كان يخفي خلفها قصة حبه وبغضه للحرب ، تختفي ملامح إينمان خلف الدم والقذارة خافياً خلفهما ولعه بآدا (نيكول كيدمان) .
حاول مانغيلا ان يصنع ملحمة سينمائية رومانسية على خلفية الحرب الاهلية الامريكية ويسير على نفس الطريق الذي ساره فيكتور فليمنغ قبله منذ أكثر من (60) عاماً ، لكن شريط مانغيلا جاء عكس رائعة (ذهب مع الريح) الرومانسي جداً عنيفاً ودموياً وقاسياً جداً .
يصور شريط (الجبل البارد) ذكريات الحرب من خلال وجهة نظر راويتها (آدا) التي تروي بحزن ولكن بصوت رومانسي بعيد انتهاء الحرب قسوتها وفقدانها لحبيبها ، وما الجبل البارد سوى المكان الذي دارت فيه حكاية حبهما ، مكان وسط الجبال العالية التي تغمرها الثلوج طوال العام ، وعلى خلفية الحرب التي انتهت وأصبحت ذكرى تروي آدا قصة الحب وخراب الحرب على مسامع ابنتها التي لا تعرف والدها .
يبدأ روي الحكاية عندما يساق إنيمان مع رفاقه للحرب ولقاء آدا به قبل الرحيل في مشهد عاطفي مثير عبر فيه مانغيلا بحسية عالية عن الانفعالات التي يعيشها الحبيبان لحظة الفراق ، وهل مقدر لهما أن يعيشا هذه اللحظة مرة أخــرى أم لا ؟؟ في الحرب يصاب إنيمان بجروح بليغة ثم يقيد مع مجموعة من الجنود الاسرى بسلاسل ضخمة ويعدمون باطلاق النار عليهم حينما يحاولون الهرب من مصيرهم في واحد من أجمل مشاهد الفيلم وأشدها بشاعة ، ليخرج انيمان من وسط أكوام اللحم المتهرئة من الرصاص حياً ، لكنه مازال مكبلاً مع الموتى بالسلاسل التي يعجز عن فكها ، يحاول إنيمان أختراق الجبهة والحدود ليعود الى آدا في رحلة شاقة وقاسية ، يلتقي فيها بأناس أشبه ما يكونوا في عالم سفلي ، يعيشون وسط الفقر والمرض والبؤس بينهم عجوز تعالجه باستخراج الرصاص من جسده وبطريقة بدائية مستعملة السكين الحامية وتضمده بالبن ، تؤزيه وتطعمه حتى يستعيد صحته ويكمل طريق العودة وسط الثلوج والتعب ، يعمل أجيراً في بيت إمرأة وحيدة مع طفلتها ، يطارده القتلة ، يهرب ولكنه يعود لمتابعتهم عن بعد وهم يقتحمون البيت ليغتصبوا المرأة وصراخ ابنتها في العراء ، ينقذهما بعد فوات الآوان ، ويصل أخيراً لحبيبته التي تظنه عدواً ولكنها تدرك أنه من تنتظره ، مع رحلة إنيمان الشاقه هناك رحلة آدا التي تسير بخط مواز لسير الحكاية الاولى ، فهي تعاني ايضاً نفس العذاب ، خشونة الحياة التي هي مثل خشونة الجبل وبرودته ، تتحول من إمرأة رقيقة الى مقاتلة تدافع عن أرضها (يحاول مانغيلا ان يذكرنا بقوة بشخصية سكارليت أوهارا بطلة ذهب مع الريح ) ، تلتقي بامرأة قوية الشخصية (رينييه زلوگر ) تعلمها كيف تحافظ على أرضها ، وكيف تدافع عنها .
قدم مانغيلا في شريطه هذا صوراً دقيقة ورائعة للجبل الجليدي الذي يخيم بشموخ على البلدة الصغيرة باكواخها الخشبية ، والتي يعيش أهلها حياة باردة ببرودة الثلج الذي يغطيه بعد مقتل ابنائهم في الحرب ، صور مبهرة أختلط فيها الموت بالحياة ، الواقع بالخيال ، القوة بالرومانسية ، الحب بالحرب ، الثلج بالنار، وقدم لنا شخصيات انسانية معقولة لها وجهة نظرها في الحب والفرح والحزن ، مثلما لديها مخاوفها من الحرب وعواقبها .
صور المكان بشكل مؤثر ليصبح بطلاً آخر مع شخصيات الفيلم ، فهو من تدور الاحداث فيه وحوله ، بذل مدير التصوير جهداً طيباً في مشاهد عاطفية مؤثرة ، فصور لنا واحدا من أجمل وارق مشاهد الفيلم على خلفية النار والموت عندما يعود إنيمان مكسوراً محبطاً لينام في حضن آدا في مشهد ساخن كان الجليد فيه يذوب مع ذوبانهما ببعضهما .
يوصلنا مانغيلا للنهاية برقة مؤثرة مذكرنا بكلاسيكيات السينما ، فهو لم يتعامل مع الحرب بنمطية وبطولات مجانية رخيصة ، الجبل البارد فيلماً جميلاً عن مافعلته الحرب الاهلية بأبنائها إلا انه اقل عذوبة واكثر دموية من أشهر واجمل كلاسيكيات السينما (ذهب مع الريح)
Discussion about this post