لغام وقنابل موقوته وتماسيح في أحشاء التواصل الإجتماعي ……..
بقلم الدكتورة كريمة نور عيساوي حول مواقع التواصل الاجتماعي والعبودية الرقمية بين حقيقة الواقع ومتاهات الخيال
عرفت مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة طفرةً نوعيةً تمثلت في إقبال جميع طبقات المجتمع عليها بحيث لم تعد فقط حكراً على الفئة المثقفة وجيل الشباب بجنسيه (الخشن واللطيف)،وإنما أصبحت ملاذاً محبوباً تتقاطر عليه كل الفئات العمرية بدءاً من الصغير الذي لم يتعلم المشي بعدُ، مروراً بالشاب وبالكهل وانتهاء بالمُسن الذي قد تخونه قدماه إذا لم يتكئ على عكازه.
لقد أسهمت مجموعة من العوامل التي جعلت الناس، وأنا أولهم يقعون في شباكها، ويتعلقون بها، ولا يستطيعون الفكاك منها إلا بانتقالهم إلى الدار الآخرة. لعل أهمها سرعة وسهولة استخدامها، وكذا بساطتها حيث أضحى الوصول إلى هذه الشبكات بمختلف أنواعها ومُسمياتها: فيسبوك (Facebook). تويتر (Twitter) يوتيوب (YouTube) لينكد إن (Linked in). بنترإيست (Pinterest) جوجل بلس (Google Plus) تمبلر (Tumblr) إنستغرام (ب(Instagram) ماي سبيس (Myspace).متاحا وفي متناول الجميع، وذلك بغض النظر عن مجمل الفروق التعليمية والفواصل المعرفية والتفاوت الاجتماعي، فالأمر لا يتطلب في نهاية المطاف سوى معرفة متواضعة بكيفية ولوج شبكة الإنترنيت، وتقنيات سهلة جدا لاستخدام الهواتف الذكية التي تُمكن المستخدم من التواصل مع من يشاء، وفي أي وقت يشاء، وفي أي مكان شاء. فالعالم أصبح فعلا عبارة عن قرية صغيرة يمكن لأي واحد منا، ودون جواز سفر ودون تأشيرة، التجول في مختلف شوارعها وأزقتها، بل تعدى الأمر إلى درجة اقتحام كل بيوتها المشرعة أو الموصدة من دون رقيب أو حارس ليلي.
لقد غزت مواقع التواصل الاجتماعي جُل بيوتنا إلا من رحم ربك، واستطاعت التقريب بين أفراد عائلاتنا المغتربين في شتى أصقاع العالم أو المغتربين داخل الوطن والروح، كما جعلتنا نعيش معهم مختلف لحظات السعادة والفرح، ونتقاسم معهم مشاعر الحزن والألم، ونحلق معهم في سماء الأحلام، إلا أنها خلقت، في المقابل، نوعا جديدا غير مسبوق من التباعد بين أفراد الأسرة الواحدة. وقد لا نبالغ إذا قلنا في الغرفة الواحدة، وأدت إلى خلق فجوة واسعة أو فجوات غير متناهية بينها، وكسرت لُحمة العائلة وجمعها وغيبت الألفة، فاختفى الحوار، وأصبح اللقاء جسديا. أما اللقاء الروحي فالله وحده يعلم أين ذهب وكيف غاب واختفى؟
إن المتتبع الواعي لهذه الظاهرة سيكتشف دون شك أن هذه المواقع أضحت صحيفة خاصة بالفرد أُنشأت لكتابة المقالات والخواطر والتدوينات، والإخبار عن الإصدارات، وهي بمثابة قناة للتعرف على الأصدقاء، ونشر الأنشطة واليوميات من صور وفيديوهات، والتي قد تتجاوز أحيانا عتبة الخصوصيات، كما أنها وسيلة سهلة ومجانية (طبعا ننسى أننا نصرف جزءا من مالنا للاشتراك في الأنترنيت، واقتناء مستلزمات الهاتف، إلى غير ذلك من الإكسسوارات،) لتقديم التهاني في المناسبات والأفراح أو واجبات العزاء والمواساة في الأتراح هذا ناهيك عن تحيات الصباح والمساء وباقات الورود التي لا تذبل، والتي لو كُتب لها أن تتحول إلى ورود حقيقية لكان كل واحد منا محاطا بجنة غناء. لكن أستبعد في هذه الحالة أن يكون أولئك الذين يقدمون هذه الورود بكل هذا السخاء الحاتمي.
إلا أن اللافت للنظر هو بروز بعض الظواهر الجديدة التي بدأت تطفو تدريجيا على السطح لتؤسس لها مسارا موازيا مع هذا الإقبال الكبير على مواقع التواصل الاجتماعي، وتتمثل في مشاركة المعلومات الخاصة جدا والحميمية أحيانا، وحفلات أعياد الميلاد والأفراح، وذلك إما بصور واضحة فاضحة تُكسر خصوصية الشخص الأسرية أو فيديوهات مباشرة تُشرك الآلاف من الغرباء في كل أطوار تلك الحفلات. وغدا الاطلاع على أخبار وأسرار الآخرين موضةً لها عشاقها ومحترفوها،وصار إظهار السعادة والرفاهية (وإن كانت وهمية) من تجليات الرقي و ومن مظاهر الاصطفاف في طابور البرجوازية. وأصبح الكل يتنافس ويتهافت من أجل إظهار انتسابه إليها، حتى لو كلف الأمر اقتراض الديون، والدخول في متاهات مالية من الممكن أن تتسبب في كوارث أسرية. فالتفاخر بشراء السيارات الفارهة، والسفر في أرجاء العالم تحول إلى لغة يتقنها الفيس بوك والانستغرام وأخواتهما. غير أن بعض هذه المظاهر تراجعت بعد أن حطت كورونا رحالها على كوكبنا الصغير، لتبرز للواجهة أشكال أخرى للوجاهة الاجتماعية، ولكن هذه المرة للاصطفاف إلى جانب الطبقة المثقفة، فنشطت الندوات والمؤتمرات عن بعد، وغزت شاشات هواتفنا الذكية وحواسيبنا المكتبية والمحمولة، ووجدنا أنفسنا أمام ظاهرة أحسبها صحية على الرغم مما تخفي خلفها من قراءات، والتي تتمثل في وضع خلفية لرفوف مكتبات تغص بالكتب والموسوعات والمجلدات المنظمة بل المصنفة والمرتبة بعناية فائقة. كل ذلك وراء مكاتب فارهة يقتعدها ممن يشاركون في هذه الندوات حتى وإن كانت مواضيعها مرتبطة بالديكور والموضة والأزياء والتغذية..
ويا ليت الأمر يقف عند هذا الحد ولا يتعداه. بل إن هذه المواقع طورت من نفسها، وحسنت من جودتها بعد جائحة كورونا، ونقلت إليك المحلات التجارية الكبرى، والماركات العالمية، ووضعتها بين يديك وفي عمق دارك، وبتسهيلات في الأداء فيمكنك اقتناء ما تشتهيه نفسك في رمشة عين، وأنت مستلق على سريرك كما لو أنها تُهدى إليك مجانا. عليك فقط تعبئة الاستمارة، وتصلك البضاعة المشتهاة إلى البيت. انخرط بعض رواد هذه المواقع في مثل هذه العمليات، وانغمسوا فيها، وقد لا يستفيقون من المقلب إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن تتوالى الاقتطاعات من الراتب الشهري، ويجد الشخص نفسه على حافة الإفلاس. فالسهولة في الأداء، والسرعة في التوصيل، وكثرة التخفيضات الماكرة تجعل الإنسان لقمة سائغة في فكي الإشهار.
على المستوى الاقتصادي لابد من الإقرار أن هذه المواقع كان لها دور لا يستهان به في خلق فرص عمل جديدة لبعض الشباب الذين انتهزوا الفرصة بشكل جيد، لكن أسهمت كذلك في تحطيم القيم العليا وفي تدمير الأخلاق داخل المجتمعات، وما كان إلى حدود الأمس القريب حراما يأبى الكثيرون الاقتراب منه أو عيبا تعافه الأنفس غدا اليوم مُستباحا و “إتكيت” حضاريا. ويتجلى هذا بوضوح في إنشاء مجموعة من القنوات التي تُقدم، طمعا في كسب المال، ما يُعرف بروتيني اليومي، والتي تحولت بشكل فاضح إلى قنوات للخلاعة، وقلة الأدب والانحلال الخلقي، وعرض المفاتن ما ظهر منها وما خفي. وقد ترتب عنها تزايد الرواد المدمنين على متابعة صويحباتها،مُتخلين عن مختلف واجباتهم الأسرية، وقد حجزوا لأنفسهم مكانا إما داخل المنزل في ركن قصي بعيد عن الأنظار أو في مقهى منزوين في ركن شبه مظلم لا ترصده أعين الفضوليين، هذا في الوقت الذي تنخرط فيه الأم في حديث أشبه باللغو أو في الثرثرة التي لا طائل من ورائها أو في النميمة الرقمية. وغالبا ما يحدث هذا الأمر ضمن مجموعات رياضية أو مجموعات في العمل أو مجموعات أخرى للتبضع والشراء . وقد تتجول المرأة دون هدف محدد أو بوصلة في متاهات الفيس بوك أو الانستغرام إلى أن تتربص بها بعض “التماسيح” ( فليسمح الأستاذ عبد الإله بن كيران رئيس الحكومة السابق أن أستعير منه هذا المصطلح وأضيف إليه دلالة جديدة) التي تتحين فرصة الفراغ الذي تعانيه فتقع فريسة علاقات مشبوهة قد تكون سببا مباشرا في خراب عشها الزوجي، وفي تفكك أسرتها أو الدخول في مأزق لا يمكن الخروج منه إلا بشق الأنفس أو بعاهة نفسية مستديمة.
فهذه الفئة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي أُطلق عليهم مجازا اسم “التماسيح”،وهم في أغلب الأحيان يتسترون خلف قناع يرسم ملامح رجل طيب وبشوش ومحب للحياة ينحدر من مستوى اجتماعي راق. قد أُجبر على الزواج من إحدى قريباته التي لم تعد تملأ عينيه بسبب الألفة وطول العشرة، أو يتعلل بانشغال الزوجة عنه وإهمالها له. أو يزعم أن المرض أقعد زوجته وأن مرضها قد طال. وفي جميع هذه الحالات التي قد تختلف فقط في بعض التفاصيل فإن هذا الرجل التمساح يعطي الانطباع أو يُلمح بأنه يجد ويكد بحثا عن امرأة جميلة وذات خلق تتفهمه، وتُقدره، وتُصغي باهتمام بالغ لمعاناته، لتبدأ بعد ذلك سلسلة متتابعة من الحلقات لفيلم خيالي يُستعصى على التصوير. وحينما تتماهى الأم المسكينة مع الشخصية المغلوبة على أمرها لتؤدي دور البطلة في عالم افتراضي، وتعيش عالما افتراضيا ورديا أشبه بالتخدير غير عابئة بأن هذه السويعات تقتات من وقت أطفالها و من أركان بيتها. في هذه اللحظات نفسها التي تتأجج فيها المشاعر وتلتهب العواطف يكون الأطفال قد حجزوا لهم مكانا في مجموعات للألعاب الإلكترونية التي تغزو ذلك الفضاء الرحب بكل الأنواع ولكل الأعمار. وهكذا يُصبح كل فرد يعيش عالمه الخاص، ويغوص في مشاعره الخاصة. كل ذلك يتم تحت غطاء ما يُسمى بالأسرة. هيهات هيهات لم يتبق من الأسرة التي نتشدق بها صباح مساء غير اسمها الموروث من الزمن الماض .فكم من رجل ناضج ضيع أمان بيته، وحطم أسرته، وكم من سيدة محترمة ندمت بعد فوات الأوان، وكم من أطفال انتحروا غبنا، وكم من أسر تشردت.
وإذا ما سلم الفرد من شهوة التبضع الإلكتروني أو نجا من متاهات الألعاب المتقنة التي سلبت ألباب الكبار قبل الصغار أو قاوم بشراسة إغراءات الغزل العفيف أو غير العفيف فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنه قد نفذ بجلده، فقد يقع دون أن يدري في أيدي فيالق إلكترونية مدربة تُفتي دون علم، و تُحرض على القتل، و على استباحة الدماء لمجرد اختلاف في الرأي أو في العقيدة.
وفي أحسن الحالات فإن مواقع التواصل الاجتماعي، قد تتحول إلى فضاء مفضل لتصفية الحسابات المهنية أو العائلية عن طريق التشهير أو الانتقاص من شخصية المستهدف أو تحقيره ويدخل ذلك في إطار التوضيح وكشف المستور، وغدت وسيلة مناسبة لتكوين فُتوات جدد، لكن هذه المرة ليس في حارات الأفلام المصرية أو في روايات نجيب محفوظ وإنما هي فُتوات افتراضية تصطف لمواجهة كل من يختلف معها في الفكر أو في التنظير. وقد تُولد لدى الكثيرين مشاعر الحسد والضغينة وعدم الرضا عند النظر إلى حياة الآخرين التي تبدو مثالية على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي لكن الواقع يعلمه الله وحده.
هذا ناهيك عن الوقت الثمين الذي يضيع سدى في هذه المواقع، إذ أننا نصرف دون وعي منا وقتا ممتدا لو أحسنا استخدامه لما انتابنا الإحساس أن اليوم ينفلت من بين أصابعنا مثل ماء زلال، والذي لا ندرك قيمته إلا بعد شعورنا بالعطش في صحراء قاحلة. لا شيء تغير. فاليوم لا يزال بعدد ساعاته، والشهر بأيامه، والسنة بشهورها. نحن من أصبحنا عاجزين عن تدبير الوقت، فالعبودية الرقمية هي الوجه القميء لضبع يزدرد الوقت دون أن يشبع كما أشار إلى ذلك أحد الأساتذة ونحن نناقش الآثار السلبية لهذه المواقع على البحث العلمي.
جملة القول إن التعاطي مع مواقع التواصل الاجتماعي عن كثب جعلنا نُدرك جيدا مدى الخطورة التي تُحدق بنا، وتبين لنا حجم المشاكل التي من الممكن أن تترتب عنها إذا نحن لم نحسن استعمالها (قلما نحسن استعمالها). هي قنابل موقوتة تحيط بنا من كل جانب. لا أحد يُمكن أن يتكهن متى تنفجر في وجوهنا، ولا أحد يستطيع تقدير مقدار الخسائر التي قد تنجم عنها. نجانا الله ونجاكم من الخسائر الفايسبوكية وأخواتها من أنستغرام وتوك توك وغيرها.
تحياتي والعبير
Discussion about this post