(كتاب في سطور)
“رغبة بيضاء”
بقلم الأديب عمر دغرير
للكاتبة وحيدة المي صدرت عن الدارا لوطنية للكتاب في 236 صفحة من الحجم المتوسط سنة 2021.
هي رواية تختزل حياة المهمشين في الأرض بوجوههم المصفرة والحاملة لتعب الأيام , وبقضاياهم التي ترافقهم كظلهم . رواية تشعرنا بالمرارة والألم ,وتقربنا من شخصيات ثلاثة كانت مؤثرة في أحداثها . حتى أنها كانت تعيش حالات من الخوف والرعب والوجع .
بداية من (نبهان) هذا الكفيف الضحية الذي مرّ بطفولة قاسية تسببت له في الإنكماش على ذاته واكتساب شخصية مهتزة كان لها تأثيرها السلبي خاصة في الجامعة أين تعرض إلى تهمة باطلة أدخلته السجن لفترة طويلة وعاش ألوانا من التعذيب من أجل جناية لم يرتكبها .ليفقد خلالها البصر .
مرورا بضحية ثانية “ماجدة” أو (بياف) الإسم المستعار .وهي ابنة أحد العناصرالفاعلة في الحزب الدستوري اليوسفي في بداية الإستقلال . وهذا الإنتماء جعل منها ضحية النظام ثم المجتمع , بحيث نقرأ في صفحة 94 :
( … اقنعت نفسي بعد انطواء، وتأنيب ضمير أن البلد الذي عشت فيه الجحيم،مات فيه والدي وشرّدت عائلتي لن يسعني من جديد، فلا مكان لي على ارصفة تلطخت بدماء ابنائها …) .
وكان قدرها أن هربت من حجيم البلاد بعد تعذيب والدها لترتمي في حضن (الخطيئة) في نظر المجتمع , ولتعمل راقصة في ملهى ليلي.
وصولا إلى شخصية وضحية ثالثة “وديان” وهي ابنة جعلها القدرغيرمرغوب بوجودها ففضلت السكن في ماوى العجز . هي في الحقيقة شابة حالمة وطموحة لجأت إلى هذا المكان هروبا من الآخرين . وهي تعمل مرافقة للبطل الرئيسي ” نبهان” .
والملاحظ أن كل هذه الشخصيات ليست بعيدة عن التهميش والظلم العائلي والمجتمعي والسلطوي وكلها تشترك في نحت هذه الرواية واستعراض حكاياتهم ,ووحده القضاء والقدر شاء لهم هذه الحياة .
والملاحظ أيضا أن عنوان الرواية “رغبة بيضاء” يؤكد على أن هذه الرغبة كانت سببا في سجن (نبهان) وفقدانه للبصر .حيث نقرأ على لسانه :
(…الصدفة من اقحمتني في تلك المواجهة الدامية مع فرق النظام العام, عندما انزوينا اسفل الدرج المعشب في ذلك اليوم, وهو المكان الذي التقيته فيها منذ تعارفنا, خلع قلبي جبته وعمامته, ازهر وجهها كزهرة البابونج الساحرة, دفعتني بقوة تعدّل ثوبها, ركضت صاعدة في اتجاه الساحة الفسيحة, كانت حينذاك المواجهة دامية بين البوليس والطلبة, هكذا فجاة سقطت بينهم…).
وفي السجن يتعرض إلى شتى أنواع التعذيب ويفقد البصر .
و”رغبة بيضاء” كانت سببا في هروب “ماجدة ” إلى الرقص في الملاهي الليلية لفترة طويلة تنتهي بتقاعدها في مأوى العجز .وهي التي قالت عن تجربتها :
(… سنوات وأنا أرقص في قلوبهم , أنقر عقولهم بكعبي العالي وخلخالي , أفرك جلدهم بنظراتي الماكرة,أرمح عيونهم الممتلئة اشتهاء حتى تنكسر بين النهدين والخصر, ثمّ ألملمني في غرفتي بالمرقص…).
وينتهي بها قدرها إلى مأوى العجز .
و”رغبة بيضاء” هي التي كانت سببا في وجود (وديان) وهي إبنة الراقصة ماجدة في مأوى العجز في خطة (مساعدة حياة ) ولعل القدر مرة أخرى يساهم في أن تكون القريبة جدا من (نبهان ) حتى تساعده في قضاء شؤونه وتسليته .
والمدهش في هذه الرواية هو أن كل أحداثها المتنوعة بشخصياتها المتعددة دارت في مكان واحد وهو مأوى العجز. والكاتبة وحيدة المي عرفت كيف تُخْرجُ منْ غرفة مغلقة في أغلب الأحيان بهذا المأوى , هذا الكمّ الهائل من الحكايات والذكريات والصورالمتسلسلة المتسارعة حينا والبطيئة أحيانا أخرى والتي تشكلت بها الرواية .
وخلاصة القول أن ” رغبة بيضاء” رواية تكاد تكون مكتوبة بحبر القلب حتى أنها تغوص بنا في الهامش وتسلط الضوء على مهمشين نحتوا تاريخ بلادهم بالدماء وكان قدرهم النسيان . ومن خلالها تريد الكاتبة وحيدة المي مسح ما علق عليها من غبار واظهار الحقيقة .
Discussion about this post