.
محمد حافظ رجب
الأديب الصارخ الذى صمت طويلا ورحل أخيرا
حسن إلهامي
اهدانى الاديب الكبير الاستاذ “محمود قنديل” كتابه ” حوارات حول الابداع” وقرأت الحوارات الخمسة عشر، وكأننى أكتشفت طاقة نور تطل على حديقة ورد ، غبت وغصت في الكتاب، فأنه يتحدث عن شخصيات ادبية رفيعة وحولها ومعها شخصيات أدبية اخرى لتوحى عن ثقة ان مصر تموج بحركة من الابداع؛ ربما ماتحت السطح اكثر كثيرا مما يبدو على سطح النهر الجارى …
التفت كثيرا الى الحوار مع شخصية الاديب العملاق محمد حافظ رجب ، ففى شخصيته وانتاجه الابداعى ما يفوق اسماء من الاكثر شهرة في عالم الادب؛ ولم يكن غريبا على حافظ رجب ان رأى في نفسه قاصا ؛ يفوق نجيب محفوظ ، ويتجاوز يوسف ادريس … والرجل في تصوره لم يكن خياليا بل كان يدرك مكانه ومكانته في عالم الادب ؛ رائد القصة القصيرة السريالية في مصر والعالم العربى.
رغم ذلك ؛ تعرض رجب لقسوة ادبية بالذات بعدما صرح صارخا : “نحن جيل بلا اساتذة” واطلق هذه الصيحة في وجود عمالقة الادب في الستينيات والذين بلغت شهرتهم الافاق امثال : نجيب محفوظ ويوسف ادريس وتوفيق الحكيم ويحيى حقى ومحمود امين العالم …
وفى ندوة في حضور نجيب محفوظ؛ قال مخاطبا رجب: أنت قلت نحن جيل بلا أساتذة، كيف؟ وتوفيق الحكيم أستاذ الكل، وأنا أستاذي سلامة موسى.
وخاطب محفوظ الحاضرين مستعديا أياهم على رجب قائلا: ياجماعة حافظ رجب استغل غيبتنا وكتب سريالية، وعاد ليقول : ما الذي جعلك تكتب سريالية؟، وكيف تكتب هذه السريالية؟ وماذا تعني لك؟
رد رجب: إن يوسف إدريس كتب ما تحتويه قصصى في الفرافير.
ايضا المنظر الاشتراكى محمود امين العالم ؛ هاجم رجب في قسوة قائلا: “إن حافظ رجب شخص غريب، فقد زرته منذ سنوات في محطة الرمل بالإسكندرية فوجدته مازال يبيع السجائر رغم أنه سلك سلكا وظيفيا.” هجوم يتناقض مع الفكر الاشتراكى الذى يتبناه محمود العالم واضاف العالم عن اسلوب رجب : “التعقيد المفتعل غربة عن الشعب والحقيقة”.
لم يجد رجب الترحيب باعماله من قبل رموز الثقافة في الستينيات لكن جاء الانصاف من الموسوعة البريطانية التى اشادت بحافظ رجب من حيث ريادته وقد وصفته بالمجدد للرواية المصرية القصيرة ، كما أنصفه يحيي حقى وادوارد الخراط، يحيي حقى بتقديمه مجموعة “عيش وملح” التى تضم اعمال لحافظ رجب وآخرين وكتب: “هؤلاء الادباء يبدعون تيارا جديدا داخل الواقعية… وان محمد حافظ رجب يسبق زمانه بثلاثين عام والذى خلص القصة من السرد الرتيب”، بينما كتب ادوارد الخراط مقدمة صافية ومحبة لقصة رجب “مخلوقات براد الشاى المغلى”.
والحقيقة ان رجب يذكرنى شخصيا بالعملاق محمود عباس العقاد فكلاهما العقاد ورجب لم يتجاوزا في التعليم المرحلة الابتدائية ، وايضا مع اختلاف التناول الادبى للعقاد الكاتب والمفكر والاديب الموسوعى وتناول رجب ايضا الذى انصب على القصة القصيرة السريالية، فان كلاهما امتاز بغزارة الانتاج … وقد جمعت دار العين اعمال رجب في مجلدين من 1400 صفحة !
وما جعل العقاد يتخلف الاقبال عليه بسبب نزعة الغموض فان رجب ايضا لم يتلق الاقبال في بداية اعماله بسبب غموض الكتابة السريالية التى تجتذب القارئ مفكرا وباحثا ، بدأ رجب اول كتاباته بمراسلة عبد الفتاح الجمل المشرف على باب الادب في جريدة المساء.
ولنتعرف على كتابات رجب ؛ من خلال قصة “أصابع الشعر” وبالقصة شخصية نسائية “هنا” تستلقى فوق وسادة من المخمل البنفسجى داخل علبة تواليت، لكنها توارب باب العلبة لكى يراها العشيق الذى يسكن في صندوق حديدى رهيب ، وفيه وابور لحام واصابع قصدير لكى يلحم ثقوب جسد المرأة مثلما يلحم المواسير ومواقد الجاز.
هكذا هى كتابات رجب، العنوان غريب، والاماكن والشخصيات غريبة ، والاشارات غواية المرأة في الاستلقاء على وسادة بنفسجية، ووجود المرأة في علبة تواليت ما يدل على افتعال الزينة، أما استخدام اصابع القصدير وذلك لمعالجة ثقوب قسوة الزمن على جسد المرأة !
لم تكن حياة محمد حافظ رجب سهلة منذ مولده بمدينة الإسكندرية بحي الباب الجديد في 6 مايو 1935، فقد عمل بائعا للفستق واللوز والبندق والفول السوداني واللب بجوار سينما ستراند بالإسكندرية، وعمل جرسونا وبائعا للجرائد والمجلات، وعاملا بمصنع الحلويات، وكان يبيع السجائر وأوراق اليانصيب.
رغم المآسي إلا أنه عاش حلمه بأن يكون أحد الكتاب الكبار العظماء، ودون أن يخجل أبدا، فقد كان يراسل المجلات ويكتب حافظ رجب بائع لب وفول سوداني، ولقي سخرية من البعض في الخمسينيات، واضافت روز اليوسف في بريدها “ومستعد لتوريد الطلبات للمنازل”، ورغم ذلك؛ إلا أنه استطاع أن يخرج بحصاد زاخز من الأعمال القصصية، التي نوقشت في العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، وترجمت أعماله للغات الإنجليزية والألمانية والروسية.
كانت الاوساط الأدبية قد تعرفت على رجب من خلال نشاطه وتكوينه الرابطة الثقافية للادباء والكتابة في مجلة القصة والفن وتكوين رابطة كتاب الطليعة ما جعله ينزل الى القاهرة ويلتقى يوسف السباعي وزير الثقافة آنذاك وقد وصف رجب المقابلة بانها “التحطيم الأول لإرادة إنسان أراد أن يكون”، وذلك لأنه عرض عليه العمل كموظف في أرشيف المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بتقييم مادي أقل مما يستحق، لكنه قبل الوظيفة، مشيراً إلى أنه واجه اعتراضات أيضًا من جيل الأدباء والوسط الثقافي في هذا الوقت، الذين حاولوا عرقلة تقدمه لاختلاف أسلوبه في كتابة القصة عن المتعارف عليه في ذلك الوقت، إلا أنه لم يهتم بهم وواصل الكتابة.
وعن تجربته بالقاهرة قال: هناك ادباء في الشارع لايجدون ثمن سيجارة وادباء يلوذون بامبراطورية يوسف السباعى وهناك ادباء يلوذون بالتقدمية فتنطح عليهم بنعمها …
كانت للقاهرة والإسكندرية تأثير كبير على حياته، ففي الإسكندرية حيث ولد، فقد قال عنها: هي المأوى المؤلم والحضن الشرس والقهر العذب مأواى: حضني الأم والخالة والبنت والولد.. لكنها القرية التي التهمت التواصل وأوقفت التألق أحيانا، فقد تعذب محمد حافظ رجب من أهل الإسكندرية.
مستطردا: كانوا أهل قرية إذا هبط عليهم أحد خواجات العاصمة فالتفوا حوله يجسون معناه وهويته، حتى أسكنوه تراب الأرض وهو يستغيث وهم يتجرعون أكوابا مما نزف من دمائه، لكنها (الاسكندرية) مأوى البدايات وعطر الذكريات، كمحطة الرمل وباعة الجرائد، والأهل والأحباب، ومشروب على كيفك.
وعندما رحل منها محمد حافظ رجب إلى القاهرة ثم عاد للإسكندرية مرة أخرى، وندم على هذا الأمر، قائلا: نادم على تركي العاصمة لكني ما إن أدوس على أرضها حتى ارتد صارخا ملتهفا على العودة إلى الإسكندرية وهكذا أغوص في دوامة العذاب.
عاد الى الاسكندرية في صمت طويل لم يقطعه سوى ندوة بمكتبة الاسكندرية بعنوان “محمد حافظ رجب رائد التجديد في القصة العربية” وعزل نفسه عن الحياة الادبية لمدة تقارب عشرين عام … استغرقها صوفيا متبتلا ومنصتا الى القرآن الكريم … هكذا قالت ابنته التى ظلت ترعاه حتى وفاته في فبراير الماضى 2021 عن عمر يناهز 86 عام …
Discussion about this post