قصة للكاتبه نزهه المثلوثي
(ثنايا الفزع )
وقفت في ذهول أتأمل المكان بشوارعه الفسيحة وعماراته العالية و منازله ودكاكينه. … أعود إليه بعد سنوات طويلة فلا ألقاه …لقد تغير كل شيء وغابت الحقول بأشجارها كأنها لم تكن محيطة بالمستشفى الذي كانت ترقد فيه أمي بعد موت جنينها …
تذكرت أننا وقفنا لحظة في هذا الشارع بعد سير طويل …
في يوم من أيام نوفمبر. ترددت أمي قليلا قبل أن تعزم على الخروج لزيارة أهلها في “لحواش ” والبحث عن منزل ننتقل إليه ..
وقالت :
هيا أسرعي لنلحق الحافلة مع موعد رجوع العمال من” الحمامات” ..
غادرنا الغرفة على عجل وبقينا نستحث الخطى في مسلك طويل ضيق غير معبد على جنباته أشجار سرو وصفصاف ..وتين شوكي ..وبدت الأشجار كبوصلة تدلنا على الاتجاه وسط حفر تعثرت فيها …
وبعد أن قطعنا مسافة طويلة شعرت بألم شديد فوقفت وجلست على الأرض لكن أمي صرخت في وجهي وهي تحثني على الإسراع حتى نلحق الحافلة قبل فوات الوقت وحلول الليل وظهور “الغول” فقفزت وانطلقت في سيري من جديد .
كانت أمي حاملا مريضة متقلبة المزاج فلم تحملني رغم طول المسافة وبقيت أمشي على ألمي كأني أسير على الجمر ..خطونا حتى بتنا على مقربة من الشارع الواسع المعبد وعلى بعد أمتار مرت الحافلة وتوارت مع غياب آخر شعاع للشمس …
استدارت أمي مرتعشة في اتجاه الرباح الباردة وهي تضغط على يدي بقوة بعد أن أمرتني بالمشي السريع والصمت فالليل قد شرع في بسط ظلامه على هذه الحقول الخالية من الحركة والسير
وقفلنا راجعتين في مسرب يملؤه الألم والرعب وكنت كلما أتوقف تذكرني أمي بالغول والجثث والأرواح الساكنة في البئر فأقفز تارة وتجرني تارة أخرى …
وزاد خوفي حين لمع البرق وقصف الرعد وتساقط المطر فحذرتني وشوشة من البكاء
فلم أنبس ببنت شفة ..حتى حين وقع حذائي في حفرة من الوحل واصلت خطواتي على وجع وقد تورمت قدمي الحافية .
فكرت في الهروب والجلوس تحت شجرة .. لكن قبضة أمي الشديدة منعتني
واصلنا سيرنا وهي تتحسس الطريق بيدها الممتدة وخطواتها السريعة ..وما أن اقتربنا من الدار حتى انبعث صوت”العبيثة “من البئر كأنه صوت جدتي ارتفع صداه في أرجاء كساها ظلام دامس .زاد خوفنا وتسارعت دقات قلبي …فجرتني قليلا ثم رفعتني على ظهرها ملطخة بالوحل …وانطلقت مذعورة نحو المنزل ..
ثم أنزلتني وأخرجت المفتاح وبقيت تحاول فتح الدار فلم تستطع وواصلت محاولاتها وهي تجذب الباب بقوة…. وتدفعه برفق وفجأة أشرق نور قنديل بأعلى الباب …
نزهة المثلوثي. \ تونس \4\9\2020
Discussion about this post