بانتومايم..
المأزق
(المسرح عبارة عن صحراء، رمال وصخور مغمورة في الرمل، أكياس رمل تحيط بموضع قتال في احد زوايا المسرح، اشجار برية صغيرة نابتة في الجوار.).
لوحة 1
ظلام حالك، بقعة ضوء تظهر حضيرة جند بكامل تجهيزاتهم العسكرية، خوذة، حقائب نسيجية محمولة على الظهر، زمزمية ماء معلقة في النطاق، بنادق يحملونها في أيديهم بزاوية مائلة مع اجسادهم. أحدهم يحمل جهاز اتصال، يتحركون بنسق واحد وبأسلوب التفتيش الحذر للمكان، وبأتجاهات مختلفة على إيقاع قرع طبول وموسيقى عسكرية، فجأة وتهطل أمطار غزيرة تبلل ملابسهم وتجهيزاتهم، يتجمعون ويشكلون كتلة واحدة وهم يرتجفون، يخلعون ملابسهم ويبدأون بعصرها بحركات توحي الى ذلك، يجمعون القش ويشعلون نارا يتدفئون بها ويجففون ملابسهم، ثم يقومون بنشرها على الأشجار، ومن ثم يلبسونها وهم مازالوا يرتجفون من البرد.
فجأة وكأنهم يسمعون أصوات خطى تتوجه نحوهم، يهرعون من فورهم ويتوجهون نحو خندق القتال ممسكين ببنادقهم التي يوجهونها باتجاه العدو المحتمل.
ثم يتحركون خارج موضع القتال ويجلسون القرفصاء بنسق واحد، ويصوبون بنادقهم باتجاه العدو المحتمل، يستديرون بين الحين والحين بنسق وحركة واحدة الى الجهة الاخرى، ثم الى الجهة المغايرة، وهكذا لعدة مرات،
ثم يقومون ويهرولون بطريقة الصولة وباسلوب النسق أيضا الى هدف ونقطة محددة على المسرح، ثم يعودون الى مكان انطلاقهم، وهكذا.
بعدها يتمددون على الارض ويشكلون بأجسادهم دائرة مركزها ملتقى أقدامهم ويصوبون بنادقهم كل الى اتجاه، ثم يتداخلون مع بعضهم ويعودون الى حالة النسق ويبداون بالزحف وبنادقهم بايديهم.
الجندي حامل الجهاز اللاسلكي يظهر جالسا على مسافة منهم حيث هم يزحفون، كل ثلاثة يزحفون يتبعهم ثلاثة يزحفون خلفهم، اي مجموعة تتبعها مجموعة، كأنما لتحميها من الخلف، يرافق ذلك تصاعد الموسيقى مع صوت إطلاقات نارية، بعدها يبداون باسلوب القفزات، وهو اسلوب عسكري معروف، أي كل واحد منهم يجري مسرعا الى حيث نقطة معينة ويده على الزناد، ثم يلقي بنفسه عند بلوغها وينبطح مصوبا سلاحه نحو الهدف، يتبعه الآخر، وهكذا،
الحركات في هذا المشهد توحي الى أنهم مجموعة من العسكريين مهمتهم تفتيش المكان بحذر بحثا عن عدو محتمل قد يكون مختبيء في مكان ما قريب منهم.
لوحة 2
مازال الظلام يخيم على المكان، موسيقى وصوت قرع طبول، يرافقه اصوات عواء ذئاب، برق ورعد ورياح عاتية كلها تخلق حالة من الضجيج المرعب.
بقعة ضوء تُظهرالجندي حاملا جهاز الاتصال اللاسلكي بكامل تجهيزاته يدور مرتبكا في المكان، وكأنه قد ظل الطريق، وفقد بوصلة اتجاهه، وتاه عن رفاقه، يدور مذعورا يبحث عنهم في كل الاتجاهات، ينزل جهاز الاتصال ويضعه أمامه ويحاول ان يتصل بفصيله الذي ينتمي اليه.
يحاول مرارا وتكرارا لكنه لايفلح، يتحرك مذعورا الى اتجاهات مختلفة ويبدو عليه الارتباك والقلق وهو يعاود الاتصال، يخرج زمزمية الماء ويكرع منها القليل، ينظر اليها بطرف عينه قبل أن يعيد غطائها ثم يعيدها الى مكانها، يمسح بين الفينة والاخرى العرق المتصبب من على جبهته بكمه، ثم يحاول معاودة الاتصال، يهز رأسه محتارا، حيث لا جواب من الطرف الآخر.
يجلس متهالكا وقد دب الياس في نفسه، وفقد الامل بالاتصال برفاقة،
ينظر الى ساعته بين الفينة والأخرى، يكرر العملية كثيرا، يخرج قطعة يابسة من بقايا صمونة عسكرية يلوكها باسنانه، يبتلعها بصعوبة، يكرع قليلا من الماء، ثم ينزع عنه بعض من تجهيزاته العسكرية بحذر ويجلس ممتعضا مع تصاعد الموسيقى وقرع الطبول، وعواء ذئاب.
لوحة 3
الهدوء والظلام يخيم على كامل المسرح، مؤثرات صوتية لاصوات حشرات وصراصر تسمع في المكان تمزق السكون، وتضيف للمكان رهبة وخوف.
بقعة ضوء تظهر الجندي جالسا متكورا ويده على السلاح يفزع مع كل حركة، يراقب كل الاتجاهات بحذر شديد، عيون حيوانات يرقبها تتلصص بالقرب منه، تتصاعد دقات قلبه، تتعالى انفاسه، يزداد ترقبا، يتلفت الى كل الاتجاهات بحركة سريعة ويده على الزناد، يبقى على هذه الحاله لبعض الوقت مع تصاعد صوت الموسيقى وقرع الطبول، تمر من أمامه مخلوقات غريبة لحيوانات وخفافيش يرسمها خياله تعكس مدى الخوف والرعب الذي انتابه.
لوحة 4
تتسلل خيوط ضوء الصباح الى المكان لتطرد بقايا الظلام،
يظهر الجندي وهو يلبس تجهيزاته، ويحاول الاتصال بوحدتة، يتحرك الى أحد الاتجاهات، يتوقف فجأة فزعاً وكأنه شعر بقدمه تدوس على شيء ما تتحرك أجزاءه نحو التفخيخ، ينظر باندهاش ويتسمر في مكانه الى ما يوحي وكأنه خَمَنَ بخبرته أنه يقف على لغم. يبقى على هيأته متجمدا لايرفع قدمه ولا يحرك ساكنا، يحرص على ابقاء قدمه مثبته في مكانها، يتلفت مذعورا، ينظر الى ما حوله، يلمح لوحة مرسوم عليها جمجمة وعظمين وكلمات تحذير تحتها تشير الى انها منطقة ألغام، يفغر فاه وتتسع عيناه ويرتعد رعبا وهلعا، وتبدو عليه امارات الخوف والحيرة والارتباك، لا يدري ماذا يفعل، يفتش في حقيبته عن شيء ما يتخلص به من المأزق، لايجد، يحاول أن يجلس ببطيء وحذر شديدين، بينما قدمه مثبته على المكان، لايقوى على زحزحتها او تحريكها، يبدو عليه انه يفكر بما عليه ان يفعل، ينزع عنه بعض تجهيزاته، وينظر الى ماحوله متفحصا المكان بحثا عن ألغام أخرى ربما مزروعة في الجوار.
يعاود الاتصال ولا جواب. يظهر عليه العجز والاحباط مع تصاعد ايقاع قرع الطبول والموسيقى، يخرج زمزميته، يكرع منها ثم يعيدها، يكرر العملية أكثر من مرة كتعبير عن قلقه، يفاجئ بأنها فارغة، يهزها، يتأملها بأسى وهو يرفع مؤخرتها للأعلى وفوهتها للأسفل، يلقيها جانبا، يدور بنظراته البائسة يمينا وشمالا، يشعر وكأن انياب الموت قد أنشبت أضفارها لتنزع روحه، يغرق في طوفان حيرته وهلعه.
يخرج من جيبه بيدين مرتعشتين بعض الصور، يتأملها والحزن واضحا على ملامح وجهه، موسيقى حزينة تترافق مع المشهد الحزين الذي يطغي على ملامحه وقد قادته اقداره الى حتفه، ينظر الى قدمه المرتجفة التي ماتزال ثابته في مكانها.
يتأملها بأسى، يظهر وكأنه يفكر في ان يجازف برفعها وهي ترتجف، يحاول وهو يشد وجهه كمن ينزع نصلا ناشبا في قلبه، لكنه سرعان ما يتراجع تحت هاجس شعور الخوف والهلع الذي يظهر على تعابير وجهه والعرق المتصبب من كل انحاءه،
فجأة ويتوقف عن الحركة وتبدو على ملامحه حالة من اليأس والاستسلام.
يخرج ورقة وقلم يفكر في ان يكتب بيدين مرتعشتين شيء ما، يضعها في جيب الحقيبة، كأنه يكتب وصيته.
يسحب حربة البندقية، يحاول بيد مرتجفة ان يعالج اللغم بالحفر حوله، وتحديدا في المكان المحيط بقدمه، يحفر بحذر كأنه يبحث عنه، لايهتدي الى شيء، يتلفت الى كل الاتجاهات، يعاود النظرالى القطعة التحذيرية، يتأملها قاطبا حاجبيه،
يحاول ان يكرر الاتصال، الجهاز كما يبدو لا يستجيب، يظن ان بطارياته قد هبطت أو تعطلت، يضربه عدة ضربات بكفه بقوة عله يستجيب، لا أمل، يرميه جانبا بقرف، يبحث في حقيبته عن طعام أو أي شيء ليأكله، لاشيء، يتامل بحسرة زمزميته الملقاة هناك، يبتلع ريقه، يبدو عليه العجز والخواء، يميل براسه نحوحقيبته العسكرية التي نزعها عنه، يغمض عينيه، ويستسلم الى شبه غيبوبة.
لوحة 5
ظلام مطبق يخيم على المكان، بقعة ضوء تظهر الجندي وكأنه يعيش لحظات حلم،
تنتقل بقعة الضوء للزاوية الأخرى لتظهر لنا مجموعة من الشباب يدخلون بملابس ملائكة وهم يؤدون رقصة ملائكية، يظهر الجندي وهو يرقص معهم منتشيا كأنه في مهرجان للرقص والمرح وعروض تؤدى تحت تساقط المطر والثلج على ايقاعات وموسيقى مرحة، يظهر الجندي وهو منتشيا والثلج يتساقط على رأسه، يؤدي حركات وكأنه يحتضن أطفاله، يحملهم، يحلقهم في الفضاء،
لوحة 6
يظهر الجندي وكأنه مازال غارقا في نشوته، فجأة ويصحو من الحلم، ينظر بفزع الى ماحوله والى قدمه التي ماتزال راكزة في مكانها، يعاوده شعور الخوف والحيرة الذي يظهر واضحا ومرسوما على كامل ملامحه وتعابير وجهه، يرفع يديه الى السماء ويحرك شفتيه كأنه يستنجدها للخلاص من مأزقه، تنزل دموعه، ينظر بجزع الى ماحوله، يضع يده على جبهته كمن يفكر، يطيل التفكير.
فجأة.. وكانه اهتدى الى شيء، ينزع الحربة مرة اخرى، يلمح نتوء صخرة غاطسة في التراب الى جواره، يتأملها، ثم يبدء بالحفر حولها بحذر شديد وعينه على قدمه، ينزف عرقا، تهب عاصفة رياح ترمي الحصى وذرات الرمل على صفحة وجهه، يتقيه بيده مستاءا.
يرافق تلك الحركات والفعاليات التي يقوم بها توهج أضواء ملونة في المسرح ثم إنطفائها لعدة مرات كتعبير عن حالة التفاؤل والتشاؤم التي تنتابه.
تترآى أمام عينيه صور أطفاله يمرون من أمامه وهم يركضون مرحا حاملين حقائبهم المدرسية على ظهورهم ويتمايلون كالبطاريق .
يدفعه شعور على اثر ذلك لمواصلة الحفر بهمة، ليكتشف انها صخرة كبيرة جدا وان الظاهر منها ما هو إلا جزء صغير، يصاب بالاحباط، يفكر في أن يكسر ذلك الجزء او يقطعه بحربته، يحاول لكنه لا يستطيع، يتلفت يمينا وشمالا عله يجد وسيلة تساعده على ذلك، لا يجد، يجلس محبطاً والعرق يتصبب من كل انحاءه.
يبدو عليه أنه في حالة استسلام تام، يراقب الأشياء من حوله بأسى، يقرر حينها في أن يتخذ قرارا فيه نوع من المجازفة وذلك بأن يرفع قدمه واليكن ما يكن، يتأمل الاشياء من حوله وهو في حالة صراع مع نفسه، كأنه يودعها لآخر مرة، حقيبته الملقاة الى جواره، يتفحص أشيائها، جهاز الاتصال المعطل يلاعب أزراره، بندقيته التي لم يعد لها اية لزمه يلاعب أقسامها، اذ لم يعد هناك ما يخشا منه طالما أن الموت متشبث بقدمه بقوة، كأن علاقته بالحياة باتت مرهونة بقدمه التي بدأت بالتنمل وقد غلفها الخدر، ولا يكاد يشعر بها.
فكر في أن ينتزع قدمه من الحذاء بحذر، فتح خيوط ربط الحذاء بيدين مرتعشتين لكنه تراجع.
تأمل السماء بنظرات اليائس المحبط ثم نظر الى ساقه وقدمه، أخرج صور عائلته، زوجته، ابناءه، أغمض عينيه وشد وجهه، وراح يتمتم بشفتيه،
في تلك الأثناء سمع إشارة صفير في جهاز الاتصال اللاسلكي الذي كان يظن أنه معطلا، إشارة يعرفها جيدا وتعني اننا نبحث عنك.
تدفقت في أوصاله دماء فرح أسرجت ومضة ابتسامة على شفتيه الصفراويين لكنها سرعان ما انطفات، وكأنه شعر بأن شجرة الامل عاودت الازهار داخل روحه الغارقة في دياجير الياس، رفع يديه الى السماء وخر ساجدا.
أخرج مصباح يدوي من حقيبته وراح يرسل اشارات استغاثة، فيما قدمه ما زالت مثبتة في مكانها.
لحظلت وتعالى في الأفق صوت طائرة مسيرة كأنها تدور حول المكان، سمعها وابتسامة امل يائسة لمعت على محياه تقهقر تحت بريقها جلباب اليأس. نزع قميصه وراح يلوح به عل كامرات الطائرة تلمحه وهو يطلق اشارات استغاثة، ظل هكذا لبعض الوقت.
لوحة 7
تلاشى صوت الطائرة ولم يعد يسمعه، وعاد صوت الصراصر والحشرات وعواء الذئاب يتعالى في المكان ليخلق جو من الرعب انعكس على حالة الجندي الذي بدء يفقد الامل مع مرور الوقت.
الظلام خيم على كامل المسرح، مؤثرات صوتية كأنها صوت ضربات قلب تبدء خافتة ثم تتصاعد لبعض الوقت، تمتزج مع صوت الصراصر واصوات الحشرات.
كتلة ضوء تظهر الجندي يتكور بجسده محبطا.
تتحرك بقعة الضوء الى الجهة البعيدة من المسرح فتظهر عدد من الاشخاص الفنيين بملابس وتجهيزات خاصة، اثنان منهم يحملون نقالة، أحدهم يتحول الى ريبورت يحمل كتر لقطع الأسلاك والتوصيلات الكهربائية، والآخر يمسك بجهاز تحكم عن بعد ليوجه حركات الريبورت،
يتوجه الريبورت نحو الجندي المتسمر في مكانه منذ ساعات، مشاعر خوف وقلق ترتسم على وجهه يغطيها بابتسامة رضا وسكون كأنه يستقبل بها الريبورت، أبدى الجندي بحركاته الغير متوازنة أشبه ما يكون بالترحيب، وقف الريبورت أمامه قريبا منه، أغمض الجندي عينيه كمن ينتظر لحظات تشظيه.
موسيقى ومؤثرات صوتية وقرع طبول تتصاعد في المكان، غبار يتطاير وأضواء ملونة تتوهج وتنطفئ تباعا لرسم المشهد بدقة وما ينطوي عليه من مخاطر، لحظات عصيبة يعيشها الجندي يصورها المشهد المرعب.
يمد الريبورت يده محاولا تفحص اللغم وقطع بعض توصيلاته، الجندي يشد وجهه بقوة ويبدو عليه متوترا كما يفعل الشخص الذي يحاول الانتحار.
يغرق كامل المسرح بالظلام بينما المؤثرات الصوتية وقرع الطبول ما زال يتعالى.
تدريجيا تعود بقعة الضوء بالتوهج لتكشف لنا الجندي وهو يعانق الريبورت بحرارة، ويؤدي حركات هستيرية تعبيرا عن حالة السعادة التي غمرته.
تدخل نفس المجموعة التي ظهرت في المشهد الاول وهم يرتدون ملابس رياضية(تراكسود)، ليؤدوا ومعهم الجندي رقصة استعراضية جميلة احتفاءً بعثورهم على زميلهم حياً، وتخليصه من المأزق.
( ستار)
الكاتب جبار القريشي/العراق.
.
Discussion about this post