مقاربة سيميائية أيكولوجية في مجموعة (شدو الكازورينا) للقاص محمود الديداموني
بقلم الأستاذ الدكتور صبري فوزي أبو حسين
(محمود الديداموني) اسم أديب مختلف مغاير، فاعل في الحركة الثقافية بمحافظة الشرقية، رأيته غير مرة، في فعاليات وملتقيات بهذه المحافظة الهادرة بكل إبداع وإمتاع، وسط الكوكبة النيرة الأساتذة الأعلام: صابر عبدالدايم، بهي الدين عوض، حسين علي محمد، السيد الديب، بدر بدير، محمد سالمان، نادر عبدالخالق، وعلاء عيسى، ومحمود سعيد وصادق النجار وإبراهيم عطية…غيرهم، كما سمعت عنه كثيرًا، وكان المُجمَع عليه في رؤيتي أو سماعي أنه إنسان حركي خاص جاذب، له سُهمة في فنون الأدب كافة، شعرًا ونثرًا ونقدًا، ويغلب عليه الفن السردي قصيرًا ومتوسطًا وطويلاً، وأراه يحمل الجين الإبداعي للراحل الشرقاوي حسين علي محمد، فهو في نظري نسخة شابة منه، وهو عضو اتحاد الكتاب، وعضو نادي القصة، صدر له في الرواية “واسمه المستحيل، نزف”، وفي القصة القصيرة مجموعتا “ليست كغيرها، فراشات تغازل قوس قزح” وفي الشعر دواوين “كان فى عيني حلم، حين يحط الوهج، مرايا الوهن”، وما زال نهر عطائه يجري ويسري!
وقد شرفني بإهدائي نسخة من مجموعته القصصية الطازجة (شدو الكازورينا)، التي طبعت في الهيئة العامة للكتاب هذا العام، وهي مجموعة تحتوي على إحدى وعشرين قصة قصيرة، جاءت في تسعين صفحة من القطع الصغير.
وقد هديت إلى اختيار المنهج السيميائي لمقاربتها، وهو منهج يعنى بالعتبات الخارجية والداخلية في النص الأدبي الكتابي، مع مراعاة عنصري المبنى السردي والمغزي الرؤيوي، فطالعت هذه المجموعة مطالعة سيميائية خاصة، جاءت ثمرتها على النهج الآتي :
1- عتبة العنوان
2- عتبة الغلاف
3- عتبة الإهداء
4- عتبة البناء
5- سيميائية اللغة.
وهاك بيان ذلك:
1- عتبة العنوان:
جاء العنوان في هذه المجموعة تركيبًا اسميًّا إضافيًّا، نصه (شدو الكازورينا)، المضاف مصدر سماعي للفعل (شدا) بمعنى غنى وأطرب، والمضاف إليه (الكازورينا)، وهي شجرة إبرية موطنها الأصلي أستراليا وجنوب شرق آسيا وإندونيسيا حيث يسمونها فيها (جيمارا أو سيمارا) (باللاتينية: jemara) وفي جزر المحيط الهادئ الغربية وتتواجد في مناطق كثيرة من العالم الكزوارينة، وهي متعددة السوق تنمو على الرمال الشاطئية وهي شديدة المقاومة للرياح العاتية والجفاف، وتمتاز بطول إبــرها، وهي عالية ويصل طولها حتى 34م. وتتكاثر الكزوارينة عبر البذور التي داخل الثمرة، وهي تنمــو بســرعة كبيرة، وتتفرع بسرعة أسفل جزعها، فتقضي على النباتات القريبة منها. ولعلها التي تسمى في اللغة المصرية بالجازورين!
فالعلو والنمو السريع والتنوع والتفرع بسرعة، والقضاء على النباتات الصغيرة المجاورة، والمقاومة للريح، صفات خاصة في هذه الشجرة، ولها حضور في هذا المجموعة، ولها صلة بمبدع هذه المجموعة!
وقد وردت لفظة (الكازورينا) في المجموعة تسع مرات، منها مرات ثلاث في العنوان والغلاف و الفهرس!
وجاء هذا العنوان الرئيس عنوانًا للقصة القصيرة الثالثة من القسم الأول، المعنونة بـ(شدو شجرة الكازورينا)! لكن بإضافة لفظة(شجرة) فيها! ولعل هذا ما يرجح لنا أن عنوان المجموعة معادل موضوعي أو رمز! أما عنوان هذه القصة القصيرة الثالثة فإشارة إلى أن هذه الشجرة بطلة هذه الأقصوصة أو فضاء لأبرز أحداثها!
وتفكيك العنوان يدل على أن المبدع قد يكون قاصدًا إلى افتراض شاد، ومشدو له، ونص شدو.
وقد جعل الشادي شجرة الكازورينا، وأنه يفترض المشدو له، وهو كل متلق قارئ، وما دام عبر عن قَصِّه بالشدو فهذا دال على إعجابه بمنتجه الإبداعي، فهو شدو ممتع ساحر مثير في نظره هو، فماذا سيكون في نظر المشدو لهم ولهن؟!
وأرى هذه الشجرة رمزًا للشعب المصري عبر تاريخه وحراكه وثوراته ومقاوماته ونضالاته!
وبالنظر في عتبة العناوين الفرعية، وبالتدبر في صياغة الكاتب للعناوين الفرعية لأقاصيصه نجدها تتنوع إلى:
– عناوين مفردة، تتكون من لفظة واحدة، وهي: (إعصار/وصل/محروس/ اتجاهات/مقاومة/تماثيل/زمن/هوس/رقصة/سقوط).
– عناوين مركبة تركيبًا إضافيًّا، وهي ( رائحة البحر/ شدو شجرة الكازورينا/ جبانة الشهداء/حديقة فريال/ضاربة الودع/ضاربة الودع)
– عناوين مركبة تركيبًا وصفيًّا، وهي (أصوات صاخبة/ موائد صغيرة للبحر، وقد يتحول العنوان إلى جملة خبرية، وهو العنوان( ثقب صغير باتجاه السماء)!
ثم تأتي أقصوصتا (النوم والبوح/مد وجزر) مكونتين من معطوف ومعطوف عليه، وتأتي أقصوصة (هو..هي) بهذا التركيب المتأثر بأغنية أو اسم مسلسل مصري؛ للدلالة على ثنائية الذكر والأنثى التي لا تنتهي!
2- عتبة الغلاف
جاء الغلاف الأمامي في ألوان متدرجة نحو البني والرمادي والرصاصي، وتتوسطه شجرة تشبه الكازورينا وقت الخريف حيث الجفاف والاصفرار والضعف العام! وأشار بعضهم إلى أن الذي على الغلاف شجرة الكافور وهي تشبه الكازرينا في الارتفاع وسرعة النمو، وليس الكازورينا،
وهذا دال على الخلط الشعبي المعهود عند أهل الشرقية بين هاتين الشجرتين، والأرض الموجودة بالغلاف، والمفترضة تكاد تكون صحراوية، إشارة إلى دال التصحر العاطفي، والحالة الاجتماعية الجافة!
وفي أعلى الغلاف عنوان المجموعة(شدو الكازورينا)، ونوعها الأدبي(قصص قصيرة)، وفي أسفل الصفحة نجد اسم المبدع(محمود الديداموني)! ومن ثم فالغلاف يعبر عن هيمنة النبات على المجموعة القصصية الدلالة الصريحة الأولى من المجموعة القصصية، وهو فعل الغناء والإطراب من هذه الشجرة!
وفي (الغلاف الداخلي) نجد صفحة بيضاء مكتوبًا فيها ما كتب في الغلاف الرئيس إضافة إلى هيئة النشر وسنة الإصدار!
وفي (الغلاف الخلفي) للكتاب لم يعرض المبدع محمود الديداموني مجموعته بتقديم تعريفي مبتذل كالذي نجده في كثير من الإصدارات، بل إنه فضل التصدير بكلمات منتقاة من أقصوصته(إعصار)، نصها: “النوافذ تصطك كما تصطك الأسنان.. صوت الرعد يفقدها القدرة على الاتزان، والضوء اللامع كشمعة نيون يخترق نتوءات النوافذ الخشبية يحيل الغرفة إلى نهار، لحظات.. متفاوتة.. والخوف كل الخوف أن تتحول تلك الموجة من عنف الطبيعة إلى دمار، يبدو أنها مقدمة لإعصار قادم يقتلع الأخضر واليابس، أستكين بينما صغاري يتملكهم الإصرار على الاكتشاف”.
ولعل هذا النص -المقتبس والمختار والموظف- يدل على لغة القاص الساردة الواصفة، العالية، إضافة إلى دلالتها على توجهها البيئي الطبيعي، في التعبير عن البيئة، والتفاعل مع الطبيعية النباتية والجمادية والمناخية! حيث التوجه البيئي الأيكلوجي، حيث التفاعل مع البيئة قضية، والبيئة ملهمة، وجعل بعض عناصر البيئة معادلا موضوعيًّا لمشاعر القاص ورؤاه الباطنية المكبوتة!
وجاء (الغلاف الخلفي) مشتملاً كذلك على تعريف موجز بالقاص، وبيان بعنوان العمل الأدبي ونوعه، وهيئة الطبع واسم فناني التصميم، ويغلب عليه اللون الأخضر الفاتح، كأنه إشارة إلى الطبيعة النباتية التي تتناولها أقاصيص هذه المجموعة!
3- عتبة الإهداء:
ويمارس محمود الديداموني اختلافه المعهود، وإثارته الأدبية المتوقعة، فيصدم المتلقي، ويقضي على أفق انتظاره في إهدائه مجموعته القصصية، إنه لا يهديها إلى قريب من والدين أو زوج أو أولاد، أو شيخ أو أستاذ! بل إلى شجرة وصفت بالصامدة، وليست هي الكازورينا، ولكنها الصفصاف!؛ فقد جاء نصه:”
إلى شجرة الصفصاف الصامدة في وجه الريح
هناك على بعد أمتار قليلة من جنتي
وقراءته تعطينا دلالة على وجود ذات المبدع في ضمير المتكلم في(جنتي)، ثم نجد نباتً(شجرة الصفصاف) صامدًا في وجه شيء مهاجم هو (الريح)، وهما يقتربان جغرافيا من مكان خاص بالمبدع وصف بأنه(جنة)! فنحن أمام ثلاثية: العداء[الريح]، والصمود[الصفصاف]، والأمان[الجنة]!
فلماذا شجرة الصفصاف؟ ولماذا لم تذكر شجرة الكازورينا؟
لعل ذلك قصدًا من القاص إلى إحداث لغط ومفارقة، وإشارة منه إلى أن الصمود ليس له شكل واحد، بل له أشكال، صمود الكازورينا، صمود الصفصاف، صمود النخل… والصفصاف شجر وطني قريب، والكازورينا شجر غريب وافد! ولعل (الصفصاف) رمز شخصي، و(الكازورينا) رمز كوني!
أما ما المقصود بالصمود، وبالريح؟ وما المقصود بكون الريح على (بعد أمتار من جنته؟!) فهذا ما يجيب عليه متن الأقاصيص!
نحن إذن أمام إهداء مثير أسئلة، وفاتح لتأويلات!
لعل قادم العتبات تجيب على ذلك التسآل وتدل عليه!
عتبة البناء
من الجديد الطريف في هذه المجموعة القصصية أن مبدعها تأنق في إخراجها أيما تأنق، حيث قصد إلى جعلها مكونة من عنوان رئيس، وإهداء، وثلاثة أقسام رئيسة، كل قسم يندرج تحته مجموعة من الأقاصيص! على النحو الآتي:
القسم الأول بعنوان (أصوات):
ويحتوي على ثلاث أقاصيص، عنواناتها [أصوات صاخبة/ إعصار/شدو شجرة الكازورينا]
القسم الثاني بعنوان (متوالية البحر):
ويحتوي على خمس أقاصيص، عنواناتها [رائحة البحر/وصل/محروس/جبانة الشهداء/حديقة فريال]
القسم الثالث بعنوان (ترنيمة البوح والألم):
ويحتوي على ثلاث عشرة أقصوصة، عنواناتها [النوم والبوح/ ضاربة الودع/ اتجاهات/مقاومة/تماثيل/زمن/هوس/مد ..و.. جزر/موائد صغيرة للبحر/رقصة/هو .. هي/سقوط/ثقب صغير باتجاه السماء]
ولعل هذا التقسيم الثلاثي يدل على ثلاثة دوال تضم هذه الأقاصيص، هي:
– دال الصوت وهو الحاضر في أقاصيص القسم الأول، حيث نرى الصوت الصاخب في الأقصوصة الأولى(أصوات صاخبة، والصوت الإعصاري العنيف في الثانية(إعصار)، والصوت المطرب المغني في الثالثة(شدو شجرة الكازورينا).
– دال البحر، وهو الحاضر في أقاصيص القسم الثاني، حاضر مكانًا، وحاضر دلالة، وحاضر رمزًا .
– دال البوح ألمًا وفرحًا، وهو الحاضر في أقاصيص القسم الثالث، في مجالات حياتية متنوعة أسريًّا، ونسائيًّا، وسياسيًّا، بطريقة فنية مغلفة.
– إنها مجموعة تتنقل بالقارئ من تيمة الخوف إلى تيمة المقاومة إلى تيمة استشراف المستقبل، والإشارة إلى أخطار قادمة قد تتحول إلى جاثمة!
لكن تبقى أسئلة لم يجب عنها البناء ولا العنوان الرئيس ولا عتبة الغلاف، مثل: ما نوع هذا الشدو؟ وما مضمون هذا الشدو؟ ولمن هذا الشدو؟ ولماذا شجرة الكازورينا؟!
– سيميائية اللغة:
تأتي اللغة في هذه المجموعة السردية خاصة، لغة محترف، يمتلك اللغة ويوظفها، تجد عنده تعانق النثر والشعر، والتناص مع الشعر لا سيما الشعبي الغنائي منه، مثل ما جاء في أقصوصة تماثيل: يا طالع الشجرة هات لي معك بقرة، بقرة صعيدية حلابة وقوية، وتعطيني بالملعقة الصيني. ص66…
والتناص الداخلي مع شعره في قوله: ينساب عبيرك في أوردتي تتخلق في قلبي زهرة… ص10-11. والتناص مع شعر نزار قباني عن بورسعيد: هذي الرسالة يا أبي من بورسعيد أمر جديد لكتيبتي الأولى ببدء المعركة … لا سيما في أقصوصة حديقة فريال.
وتأتي العامية في المجموعة حوارية فقط، وفي حدود مقبولة، وهي دالة على طبقة الشخصية ودرجة ثقافتها، مثل: صاح إبراهيم: شوفو الفقر في كل مكان بيجري ورا الناس زي الرهوان دقق يا واد انت وهوه في الوش ده. قال بيجري منه ها ها ها ها…. الفقر بيتنطط زي القرد حواليه..ص76، وذلك في إطار أقصوصة تدعو إلى محو الأمية اللغوية والأمية الفنية، على لسان بطل يتطور من فلاح إلى فنان إلى جامعي! وإن كنت أحبذ أن يعبر عن ذلك بلغة فصحى ميسرة بدل هذه العامية الدارجة!
ونجد التناص الداخلي في أقصوصة(هو..هي) حيث ضمنها نص أقصوصته القصيرة جدا (سقوط)!
وفي أقصوصة (سقوط) نجد التوظيف الفني الساحر والآسر والكاشف لقصة سيدنا موسى القرآنية، في مثل عبارات قال هي عصاي، سقطت من يده وراحت تتلوى لم يتوجس خيفة…. وأرى هذه الأقصوصة أنموذجًا عاليا للقصة القصيرة جدًّا التي فيها إيجاز، وعمق وشاعرية، وتكثيف وترميز عال موفق من السارد القاص! وأقترح تقديمها إلى وزارة التربية والتعليم لاختيارها ضمن النصوص الأدبية التي تعرض على شباب المرحلة الإعدادية أو الثانوية في التعريف بفن القصة القصيرة المعاصرة، المعبرة عن آننا!
وتأتي عبارة (رجل الدين فقد قدرته على الإقناع) موفقة في النقد الشعبي للخطاب الديني التقليدي المكرور، الذي لا يكون واقعيا، ولا يقدم حلولا ناجعة شافية هادية!
وكذا توظيف الكاتب للفظة المصرية الشعبية السيارة في أقصوصة شدو شجرة الكازورينا في وصفه الحالة الهروبية للفلاحين: يخمسون في سجائر محشوة بالبانجو يتبادلون النكات الجنسية البذيئة فيسعلون من شدة الضحك، يريلون، فيغيبون تماما وسط الليل ! ونجد الترميز بمشروب الكانز، وتمزيق البطل له إلى رفض الأمركة والهيمنة الغربية!
وفي اللغة بعض ما يؤاخذ مثل تكرار الأداة كلما، في مثل قول الكاتب(كلما ابتعدنا كلما زقزقت العصافير)، و(كلما ضربت جدتي الشجرة كلما اتسع محيط جذعها)!
إنها مجموعة قصصية طريفة تستحق أن تقرأ قراءات نقدية متنوعة فنيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا ولغويًّا، فيها الطرائف والغرائب من الحكايات، وفيها بعض مكرور مملول متوقع، فيها الكثير من الإبداع والقليل من التقليد. وفق الله الكاتب، وشكرا للهيئة العامة للكتاب على اختيارها الموفق الدالة على ذائقة نقدية إيجابية!
Discussion about this post