الحرية والتحرر والانفلات:
===============
معانٍ تتقاطع وتتلاقى في بعض الوجوه، كما تتنافر وتتعارض في أخرى، ولعل أبرز ما تتلاقى فيه النسبية؛ فلا إطلاق فيهن ولا ثبات، كيف والإنسان لم يختر الحياة ولا الموت، ولا الوجود ولا العدم، بل دفعته المشيئة، وألقت به في بحر الحياة المتلاطم دون اختيار منه ولا إرادة… وتخطفته يد المنون دون رغبة أو رجاء.
وعملت الشرائع والفلسفات على سن ضوابط وقوانين بها تنتظم الحياة والعلائق بين الناس وبينهم وبين غيرهم من حيوان ونبات وجماد بما يضمن الصلاح والإعمار ودفع الأضرار؛ فوجد الإنسان نفسه مقيدًا بقيود بعضها من صنع السماء، وبعضها فرضها هو ليأمن غوائل الآخرين، ويأمنوا غوائله؛ فتبين لكل ذي لب أن الحرية فكرة ليست مطلقة، بل هي تدور في فلك عدم المضرة لا بالنفس ولا بالغير… وأيقن كل ذي نظر أن الإنسان إما أن يكون عبدًا لله أو عبدًا لسواه من الآلهة المزعومة الظلامية أو الأهواء التي تسقطه في دركات الحيوانية والشيطانية، ولم يكن العالم نفسه مثاليًّا؛ فيطبق الضوابط والقوانين التي سنتها الشرائع والفلسفات، فانتهكت واستبيحت جوانبها؛ ما ألقى بقيود وأغلال على بني الإنسان؛ سواء من صنع الجبارين أم الغزاة المعتدين أم الجلادين والنخاسين الذين يتجارون في الآلام والمعاناة واستغلال البشر بالسخرة التي اتخذت أشكالًا كثيرة بعضها تقليدي وآخر جديد مبتكر عصري لا يدرك فيه المرء أنه مستعبد إلا بإمعان النظر وإعمال العقل… فظل الإنسان يتغنى بالحرية ويعزف لحنها الشجي، وهي في ضميره فكرة أسطورية كالغول والعنقاء والخل الوفي، لكنها على لسانه كالحقيقة والوهم المسيطر والهلاوس… أي حرية يا مسكين! هل اخترت اسمك أو رسمك أو أهلك أو موطنك المزعوم أو رزقك المقسوم أو السعادة والهموم! الزم حدك يا إنسان، واعرف قدرْك من الهوان!
ولما كثرت القيود والأغلال حاول المجتهدون أولو العقول التحرر بعد أن أدركوا خرافة الحرية؛ فحاولوا التحرر من الغزاة والجبارين والجلادين والنخاسين والأهواء التي تتفنن بها المادية وعصرها المظلم، وما زالوا يجاهدون ويناضلون في سبيل تلك الغاية النبيلة المحمودة؛ فلا هم ينجحون ويستريحون، ولا هم يقنطون ويستريحون، بل هم في حرب مستعرة دائمة.
وظهر صنف آخر ضعيف لا همة لا ولا عزم، بدلًا من أن يناضل مع المناضلين، ويحاول التحرر من الاستعباد بمظاهره المتنوعة، رأى أن التحرر يعني الانغماس في الشهوات والملذات مستقيمها وشاذها، غير مبالٍ بضوابط الشرائع والفلسفات ولا بكرامة الإنسان وما يصلحه وما يصلح له، وما يميزه عن الحيوان والشيطان؛ فانفلتوا، وانتكست فطرتهم؛ فظهرت مصطلحات كالمثلية التي تجتهد ما وسعها الاجتهاد في إزالة القبح عن لفظ الشذوذ، وفي محاولات مستميتة لنيل الاعتراف المجتمعي بتلك الحالات المرضية، ولم يكتفوا بمحاولة نيل الاعتراف، بل وجد هؤلاء المرضى في ظل أوهام الحرية من يدافع عنهم رسميًّا وأهليًّا؛ فطمعوا في فرض نمط حياتهم المريض، وأن يكون هو النمط المستقيم، وغيره هو الاعوجاج والانفلات والشذوذ.
لا شك أن الفن رسالة شاء من شاء وأبى من أبى، ولا يقتصر الفن على ما يُعرَف بالتمثيل أو التشخيص؛ وهو اختزال معاصر لم تعرفه العصور الماضية، بل هو مفهوم شائع لدى الكثيرين… بيد أن رسالته تتحدد بحسب توجه المجتمع والإرادة السياسية والنظام العام، لكنه لا يعدم الرسالة على أي حال، رسالة تصل المتلقي تبين له ما ينبغي، وأين نحن منه، ورؤيتنا من خلال توجهنا، وأين نحن ذاهبون.
ولما كنا مجتمعًا عربيًّا مسلمًا شرقيًّا، فلا شك أن الشذوذ والانفلات والتحرر من القيم مرفوض منقوض عندنا لا تقبله فطرتنا السليمة السوية، وترفضه ثقافتنا وأخلاقنا، ويستهجنه ديننا ومنهاجنا، وتأنف منه طبائعنا؛ ومن ثم فإن الفن عندما يتناول الشذوذ والمثلية لا بد أن يعكس آثاره المدمرة في الفرد والمجتمع، ويلقي أضواء كاشفة على عواقبه الوخيمة من خلال بناء فني درامي يتضمنه العمل الفني؛ سواء أكان مسلسلًا أم فيلمًا أم مسرحية أم قصيدة أم رواية أم مقالًا…الخ
والعجيب أنك ترى العالم كله بملله ونحله يستهجن هذه الظاهرة ويعيبها، ويرى أنها مخالفة للنفس السوية القويمة، وما كلام كبير الروس فلاديمير بوتين منا ببعيد، وقبله تصريح رئيس زيمبابوي روبرت موغابي، أقول: في حين نرى هذا الاستهجان العالمي، نجد من بني جلدتنا التسامح مع هؤلاء وقبولهم والدفاع عنهم!!
إن معاداة المثلية ليست مسألة أخلاقية فقط، بل هي واجب الوقت تقتضيه حرب وجودية؛ فإما أن نكون نحن معشر الأسوياء أو يكون هؤلاء الشواذ بنمط معيشتهم المقزز المستهجَن، وإننا إن تسامحنا مع هؤلاء تحت أوهام الحرية المزعومة، فسيأتي يوم لن نجد لأنفسنا موضع قدم في هذا العالم الحيران…
________________________
أيمن العوامري
Discussion about this post