قصة قصيرة
رحيل خريفي
كانوا توا يهبطون،
فتتابع الوافدون : ألإبن ب تحف فيه وجل. ووالدته: في دأبها تثاقل، و إرهاف شديد ، متوجس. والكنة: تتأبط حاجياتهم.
اجتازوا فناء الحوش. فبدت بوابة الغرفة منفرجة قليلا. دلفوا تباعا ، ليباغتوا بالمريض وحيدا. جسده في سكينة. يبدو كأنه يكابد إهمالا مزمنا. فلم تُشرّع منافذ مأواه، فلاحت عتمته موحشة. و هواؤه.. عتيقا فاسدا.
أسجي المريض ، مستلقيا على قفاه، وقد دثر بغطاء خلق عتيق.فلاحت أجواء المجتمعين.. يكلكل عليها الصمت. وقبل أن تأخذ الزوجة الكبيرة، وقتا تخلد فيه للراحة، من سفر مضن، هرعت الى مصراعي النافذة وشرعتهما.
كان واضحا : أنها ضاقت ذرعا بما هو واقع. وبدا ابنها يرقب ذلك بطول بال: لكون والده قد أهمل على نحو قاس.
حضرت الزوجة الصغيرة بخطى متباطئة.و حيّت الجميع ببرود.. مراقبة على مهل.. ما تفعله ضرّتها ، فاتجهت الى غرفتها بصمت.
حقا.. بات من اللازم أن يتجدد الهواء، حتى يتسرب العفن خارجا و يكون الهواء رائقا. لكن .. هناك ما ينبغي عمله . منها مثلا: تغيير الفراش و الشراشف.و بالذات شرشف الوسادة، الذي بدا داكنا . كذلك الغطاء و خلع ملابسه بكاملها.، و غسلها جيدا و تهيئة إناء كبير من الماء الدافئ لاستحمامه رغم إن هذا قد يغيظ الزوجة الصغيرة.لكن.. هذه أمور.. لا بد للزوجة الكبيرة أن تتريث و تنجزها دون إبطاء.
كان الراقد بالكاد يجهد نفسه ، لملاحظة ما يجري. متطلعا لولده بذاكرة خائنة. إذ لم تساعده على معرفة الكل.في حين جلس الولد الى جانبه، متحسسا عصب يده الضامرة.و الأوردة الذاوية.
فعل ذلك قائلا.. بصوت واطئ، كأنه يتحاشى..أن يؤلمه بكلامه:
ــ كيف حالك …؟
قال الأب مكابرا
– العافية بيده.
قال الإبن :
– هو المعافي.. هل تعرفت علينا؟
اكتفى الأب ببسط يده … مظهرا جهله.
قال الإبن:
ـ هذا أنا ولدك. وهذه أمي و زوجتي.
بكت الأم ، فقال الإبن:
ـ ستغيّر أمي وزوجتي كل هذه الأشياء.
أجهد الأب نفسه ليقول:
ـ ألحّت زوجة أبيك.. لكن.. لآ أقدر .
قال الإبن:
ـ حسنا يا أبي ..هي طيبة . لكن.. لا وقت لديها.
ظل الأب ينتكس ، فيغط بغفوة طويلة.
أشارت الزوجة الكبيرة الى الكنة، لتسرع بغلي الماء، و إبدال ملابسه.
قالت الزوجة الصغيرة للكنة:
ـ أرأيت؟إنها توحي بحرصها أكثر مني. لماذا لا تأخذه معها؟
قالت الكنة التي تحظى بعلاقة طيبة مع الضرتين:
_ ولكن حالته متردية، وملابسه بحالة سيئة.
قالت الزوجة الصغيرة:
ـ إذا كان الإبن حريصا ، فليصطحبه معه. فأنا امرأة وحيدة ، ولا أدبّر أمري.
قالت ألكنّة:
ـ دعي الهذر و اعطني أشياءه.
هتفت الزوجة الكبيرة بكنّتها مظهرة امتعاضها :
ـ أين سرحت أيتها الثولاء؟
جمعت زوجة الإبن أشياءه. هيّأت القدر. ووضعته على الموقد.و طفقت تسرع الى المريض.
قالت العمّة:
ـ اسرعي و اطلبي من الثولاء الثانية، قليلا من الحليب و الرز، و هيّئي حساءً. قال المريض بصوت مُجهدّ:
ـ لم.. تكن ثولاء.. لم تقصر.
قال الإبن بصوت رقيق:
ـ يا أبي .. هي لم تقصر. ولكن عليك أن تضع شيئا في أمعائك.
قالت الزوجة الصغيرة – أمام غرفتها- للكنة:
ـ و يأكل؟!
وبّختها الكنّة:
ـ أو…..ه ما أقساك!
بعد أن هيّأت الكنة الحساء: أسرعت بالماء الدافئ.
قال المريض بكلمات واهنة متقطعة للكبيرة:
ما الذي.. تفعليه .. أيتها المرأة؟
قالت:
ــ لا عليك ــ أيها المسعد ــ ساعدني فقط على خلع ملابسك.
قال:
ــ هي.. أيضا .. ألحّت .. لا أستطيع.
قالت :
ــ حسنا .. اتكئ عليّ .
أومأت أن يغادروا . خرج الولد و الكنة والأطفال.
أغلقت الكنة مصراعي النافذة، ومن ثم الباب. وشرعت الكبيرة تخلع ملابسه . وتدفعها من خلف الباب.
أول ما لاح لها : ذلك الجرح ، الغائر خلف كشحه. كان أثرا لخنجر أخيها : بسبب هيامه بها.استمات لكي يفوز بها .
كان يتجاوزها بفارق زمني واضح . جازف بحياته مرات عديدة ولم يفض الأمر . إلاّ بزواجه منها. فزوّجوها لقاء ما يملك. من ماشية و حصان وغير ذلك. لم يبق لديه : سوى عباءة ليس غير .يتدثران فيها شتاءً.وفي الصباح يرتديها و يمضي للحقل.
كم من زمن اقتضى ليشفى؟ مررت يدها هناك فتحسر. كأن أيّامه قد استيقظت . لاحظت إن الجرح كامن ..تحت رهال إهابه . لاحظت أيضا.. ضمورا ما ألفته من قبل ، لتينك المنكبين العريضين . وأردافه .. ناتئة العظام و ضامرة.
قالت :
ــ اتكئ عليّ .
أخرجت قدميها وحررتهما من ثوبها ، لكي توسع مساحة لإسناده. وزحفت بالطست بينهما. و أنعمت نظرها بالجسد الذي لم يعد تربطه صلة بتلك المتانة. ولا حتى للأيام التي تزوج بها الصبية ، التي ما أتاح لها أن تتبحر بخفايا جسده.أخفى عنها ملامح هرمه .
وحتى في إهماله للكبيرة ، ظلّت هي البادئة ، على خفاياه لوحدها . مراقبة ــ آنذاك ــ عن كثب : كيف يذوي ذلك الجسد . وكيف تبصمه تلك السنون، ببصماتها القاسية. وكان ركونه إليها يسرّها. فهو يقر ّ، رغما عنه بأنها رفيقة دربه لأيام شبابه و شيبه وضنكه.
ومنذ أن تلفعا بعباءة واحدة ، و حتى هذا اليوم ، لاحظت برؤية دقيقة تفاصيله .
دعمت بذراعها الأيسر كل أضلاعه ، من اليسار الى اليمين . وأمعنت بتدليك جسده.. كأنها سيدته . كأنها تجلوه ، لكي تعثر على عمرهما و غبرته ، مثل طريق شائكة ، تعرف مسالكها شبرا .. شبرا.
ضغطت بيسارها، كي تسنده أكثر الى صدرها ، بينما تسربت حرارته ، عبر ثوبها المخضل، بنداوة جسده. و تذكرت تلك الأيام القريرة ، وجسداهما يتلفعان بعباءة واحدة. وتحت دثارها .. ألفت رفقة صادقة ، وحنانا صادقا . و ذلك الانثيال ، لنثار الحب الذي ما كفرت به . وما وهنت قناعتها : بأن قصور الدنيا لا تضاهي لياليه.
كم تغيرت الأشياء ؟؟ كانت ــ حينذاك ــ فتاة رقيقة ، ناعمة. هادئة الطبع . مطيعة. وكانت .. تستلقي على ذراعه ، أيام الدفء . وتتلفع بدفئه أيام البرد.
دلقت على رأسه كاسة من ماء دافئ. دلكته ، صانعة من رغوة بيضاء. انداحت رائحتها طيّبة .
سكبت أخرى دافئة . تسرب دفؤها الى جسدها ، بحيث أحسّته يهبط، جاريا بحرارته ، وسط برودة الماء السابق… وينحدر ممعنا بين ردفيها.
قال المريض بصوت أنعشه الماء الدافئ:
ــ دلّكي ظهري .. كم قسوت.. عليك ؟
قالت:
ــ لا عليك . اترك تلك الأمور..
قال:
ــ برّئي ذمّتي .
قالت :
ــ برّأتك…
قال:
ــ وأنت كذلك.
واصلت الذراع الأيسر احتضانه ، وأحكمت ساقيها ، متلافية انبعاج الطست. و أحاطت بهما جسده. أمعنت بتدليك الصدر . و البطن ، و الذراعين.و مناطق أخرى.ثم أبرت الوجه برغوة لكي تزيل تلك الغمّة.
كانت فرعتا ظهره، يتقوسان إلى أمام . و الخندقان يغوران على نحو محزن.و رغم هذا لم يتغربا عنها . بل عادت الفتهما . و أحست إن دموعها همت . وتلاشت مع انزلاق الرغوة . و اقتربت شفتاها : من منخفض الترقوة ، لتحسس المريض .. بحضور عاطفي كامل.
قال:
ــ أحس بارتياح.
لم تجب… بل أعطت حيزا ، لكي تنحرف بالطست، على نحو مغاير. و تُمعن بتدليك الظهر، و المناطق الخلفية السفلى.
أراح حنكه على كتفها الأيسر ــ عند الترقوة ــ بحيث.. دعمت خدّه الملتحي بحنكها.. مقتربة لقذاله ، بشفتيها. مسوّرة جسده بركبتيها، ثم قالت بصوت رقيق:
ــ هل أنت متضايق؟ أأترك حيّزا تأخذ نفسا؟
قال بصوته الواهن :
ــ واصلي .
لاذت ملابسه النظيفة ــ التي استحضرت ــ خلفها.
نادت الكنّة على العمّة، من خلف الباب:
ــ هل تحتاجين شيئا أيتها العمّة؟
قالت :
ــ لا أحتاج.
كانت ذراعا المريض، تزحفان بعناء لكي تستلقيا على عطفيها، وبدا جسده على نحو واضح،مدعوما بزندين سافرين، يستلقي رهال لحمتهما اللدنة على جسده ، بشكل يوحي اليه، بإلفة مفتقدة، ونسمة شفيفة من إثارة لمشاعره الكابية .
قالت:
ــ كيف أصل الى أسفل جسدك؟
عَبَرَت بساقيها. وسط الطست. حاوية إيّاه، بذراعيها ، لاصقة قدميها بالتعاقب.متّكئة الى الخلف ، بحيث : أمسى بإمكانها ، أن تمرر يديها بالصابون الى أسفل.وخرطت بعناية دائبة ، تلك الظُلمة، وعلى نحو سريع. مارّة ، بإمعان حتى طرفيه.
قالت الكنة من خلف الباب:
ــ أتحتاجين ماء دافئا أيتها العمّة؟
قالت:
ــ لست بحاجة.
سكبت الماء على قمّة الرأس و الوجه. سكبت على الصدر . سكبت على الظهر.مُتيحة للماء أن يندلق، من صدرها على الثديين، الى حوضها و بين الردفين.
رفعته بنصف استلقاءة. منحرفة عن الطست. دافعة إيّاه الى أمام. و شرعت يداها تمّرّان بالمنشف : من قمّة رأسه حتى قدميه. ثم امتدت يمناها، لاقطة ملابسه قطعة قطعة . متيحة لنفسها :أن تتريّث، و تأخذ نفسا هادئا، يفعمها .. ذلك العطر المنبعث من جسده ، و فروة رأسه.
اكتست الوسادة ، بشرشف نظيف. الفراش و الغطاء كذلك.. أراحته على فراشه و غطّته . طلبت مشطا لتسرّح شعر لحيته ، و فروة رأسه، فبدا بوضع أفضل .
نادت على الكنّة ثانية:
ــ اسرعي يا بنيّة .
فتحت الباب.. وقبل أن توصده.. لاح الفيء و قد زحف في فناء الدار, ناءت الكنّة بثقل الطست .
قالت العمّة :
ــ ناوليني مكنسة أيتها النادرة.
قالت الكنّة :
ــ خذي راحتك ، و استبدلي ثيابك بهذه.
قالت العمّة :
ــ فدتك عمّتك أيتها النادرة.
عادت الكنّة بالمكنسة. كنست بخفّة، وعلى نحو هاديء و سريع. ثم دفعت بنار متوقدة. أوصدت الباب. ونثرت الحرمل و البخور، لكي يكون الملاذ عبقا و منعشا.رتّبت ما تبعثر من محتويات الغرفة.ساعدت عمّتها على خلع ملابسها و استبدالها بغيرها. اُعيد فتح الباب و النافذة.
كانت عينا المريض تتفرّس بالوجوه. زوجته الكبيرة و إبنه و الصغار.
قال الإبن مخاطبا أباه:
ــ أمرأة أبي تنتظر هناك ، حتى ينجز الطبخ.
قال الأب أنا جائع.
هرعت الكنة ، لكي تنبئ الزوجة الصغيرة .
قالت الصغيرة :
ــ وطلب أكلا؟!!
قالت الكنّة:
ــ يا لك من قاسية!.. أتعلمين إنك غائبة عنه؟
تذوّقت الكنة الحساء و صاحت :
ــ ملح.. قليلا من الملح.
رشّت الملح وخاطت بالحساء فصار جاهزا. أحضرت الضرّة الصغيرة.. إناء و ملعقة.
قالت الكنّة:
ــ يحتاج لفترة حتى يبرد . لا تجعلي الناس يغتابونك يا أُخيّة . احمليه بنفسك.
أعان الولد أباه.لكن الأم : طلبت أن يسنده الى حضنها.و بدأت تنفخ بالملعقة.. كان المريض ينصرف بعينيه الى الصغيرة.والتي أقعت عند الباب، حاشرة ذراعيها تحت شالها.مُتّكئة على كفّيها، المنكفِئتين على ركبتيها .الواحدة فوق الأُخرى.
قال الإبن:
ــ لا تجلسي هكذا يا زوجة أبي.. تعالي هنا.
تململت، وظلّت مقرفصة. بقيت عيناه ،مشبوحتين الى إقعائها.وهباء الشمس يربض أمامهما . استمرّت الكبيرة تطعمه، فأشار بيده معلنا كفايته.
قالت الضرة الكبيرة:
ــ هل تحلق و جهك؟
هزّ رأسه رافضا. أسجته على فراشه .بدا وجهه نظيفا و ممتقعا. ظلّت عيناه تبحثان.
قال الإبن:
ــ اقتربي منه يا زوجة أبي.
زحفت باتجاهه. جاعلة هباء الشمس يسقط على كتفها.
قال الإبن:
ــ إنه يبحث عنك.
اقتربت..سقطت يده الى جانبها . تحاشت أن تمحي المسافة مع اليد، التي بدت خابية الحركة.عزفت إرادتها أن تعود الى جانبه.
قالت الكنّة :
ــ إنه راغب.. أن يمسك بيدك. اقتربي أكثر.
كم هي الآن متضائلة و بائسة؟ كأنها غلبت في نهاية المطاف؟
كان الهباء ينزلق من كتفيها . وينسكب شيئه في حجرها ، زاحفا بين المجتمعين.. بفيض من الحزن.
انتبهت الكنة الى حركة مريبة، صدرت عن العمّة . لاحت شفة المريض تقصر.ومنخراه .. يرتجفان. ووجهه مائل الى الشحوب.
أشارت الزوجة الكبيرة الى ابنها :
ــ ساعدني.. على أن نُقبّل رأسه ، في الجهة الصحيحة واجلس خلفه.
همت عيناها و أنّت بصوت خفيض، سرعان ما تعالى . وانتحب الباقون . دأبت يده الراجفة ، باحثة عن شيء. استمرّت الظلال.. زاحفة على الجدار المقابل . أوحت ملامح الفيء.. أن الشمس الغاربة،ماضية في الأفول . والظلال.. يهبط بدثاره.. على رحبة المكان. والملامح.. توشك .. أن تندرس .
موسى غافل الشطري
Discussion about this post