(التشفير في مواجهة العنف الرمزي في نصوص سالم الزيدي)
بقلم الناقد كاظم اللامي
عانى الكاتب سالم الزيدي كثيرا وهو يخوض غمار الحياة وسط أمواج ثقافية واجتماعية وسياسية متناقضة يراها كل يوم بارتفاع وانخفاض تتلاشى ساعة وتتوهج من العدم ساعة اخرى مما جعله صاحب قلم مرصاد يلتقط ما تناثر امامه من احداث لا يملك المجتمع امامها قدرة على فك خوارزمياتها وشفراتها المتناسلة كونها أكواد مبهمة لا تتجلى إلا امام من استشعر آلام غيره وان بدا نورالجيا يجهل مصدرها لكنه يملك الأدوات المبتكرة لعلاجها بتحليل سيكولوجي اجتماعي ونفسي يحيط بالداء وصاحبه بلغة بلاغية رصينة ومحكمة ونافذة فهو ومن خلال ما كتب واخرج طيلة عقود يرى ما لم يره الآخر رغم ان هناك كما اسلفت من يحاول ان يطمر الحقيقة ويصادر توهجها تحت اصطلاحات غارقة في التحايل والهروب من مواجهتها خوفا وحذرا كالمجتمع والعائلة والدين والقيم الزائفة والمال والعاطفة وأخيرا وليس آخرا التكنلوجيا التي أحدثت كثيرا من الالتباس والفهم الخاطئ لدى الكثير لما ابتلوا به من قصر وعي وتواضع تفكير وفبركة تفسيرات ساذجة تبعث على التقزز.
رب سائل يسأل .. من اين اتى الزيدي بهذا المهمة او الوظيفة الأخلاقية أولا والابداعية ثانيا ليتبنى كل حيثياتها؟ بالتأكيد هو معني بذلك كله نتيجة امتلاكه لخصيصة التفكير التي اهملها غيره ليفجر عديد شكوكه بأسئلة تطال صحة مسار قطار هذا العالم واعتداله في سكة يراها منحرفة او على أقل تقدير مشوهة لذا حاول بنصوصه المتضمنة هذه التساؤلات الفلسفية والتي أتت على شكل إجابات ضمنية وان بدت مشفرة في طرح بدائل لحضارة سقيمة بداء عضال تضع هذا القطار في سكته الصحيحة التي استقت اعتدالها من استقامة العالم الحقيقية التي يدافع عنها الزيدي منذ ان اكتشف قدرته على التأثير فينا بقلم نظيف اعتمد اسقاط الإضافات والذي هو فعل الانبياء وعماد الكمال.
حنان قطا نص مسرحي يستسلم الان بين أيدينا لتشريحه واكتشاف معطياته الدرامية والفكرية والسيكولوجية والاجتماعية وهو من ابداع الكاتب سالم الزيدي الذي دأب على تلغيم نصوصه بعنونتها ببعض ما جال في فكره من ابجديات درامية وبحقيقة مواقفه اتجاه ما يعيشه الانسان العالمي منطلقا من ذاته لذلك ترى العنوان يأخذ اهتماما مؤشرا وملحوظا من قبل المهتمين والنقاد والمتابعين لاعتبارات درامية وأدبية لغوية مهمة أهمها أن العتبة الأولى لولوج نصوصه هي العنوان والذي من خلاله يأخذ بتلابيب المتلق وكأنه يحاول تفخيخ الواقع الاطلاعي المقروء له ودفعه أي القارئ ولو عنوة الى مناطق فكرية حساسة لمنحه دربة وعناية بأدواته البلاغية على النقاش واستقاء الدروس وفهم الحياة فكان عنوان النص حنا قطا والذي يحيلنا الى طبيعة طائر غير داجن ارتبطت حيثيات حياته بجانب مهم من ظروف حياة الشخصية الرئيسية التي جعل بنائها الهرمي تستطيل قاعدته انعكاسا لهذا الطائر الذي يعيش في جماعات كثيفة وبرعاية وحضانة خاصة من الابوين للبيوض حتى موعد فقسها وخروج طائر يرث صفاتهما وهذا ما كانت تتمناه وتأمله الشخصية الرئيسية التي أتى واقعها رياحا بغير ما تشتهي السفن فابتليت بالوحدة واليتم والمرض ولولا هذا الابتلاء لما اقحمت نفسها بهذه المواجهة مع القارئ في سرد جنونها وعديد آلامها وكما قيل في الأثر (لو ترك القطا ليلا لغفا ونام) فالحياة بمجونها وسفالتها تقظ مضجع حياة هذه الشخصية المبتلاة .. المجتمع الدين الدولة السياسة الاقتصاد الماضي الحاضر الثقافة الحضارة كل ذلك يتعمد التحرش بها وسلخها عن حقيقتها ودفعها باتجاه الخطيئة التي لخصتها بالخوف والقلق والشعور بالذنب الذي يعتبر بداية تفسخ الانسان وتلاشيه.. انطلقت البطلة بنا حاملة خطواتنا باتجاه كشف الحقائق من خلال جزئية مهمة بلورت الثيمات الدرامية حولها ليعلو صوتها بصراخ يصفع وجوهنا بأن هناك انسان يتوجع يحتاج مسامعكم لا مواقفكم على الأقل في الوقت الراهن .. فتاة ببطن منتفخ يتقدم روحها يشي للجميع بفاحشة يتصيدها مجتمع يتحدث اكثر مما يفكر وان فكر فبناءه وان بدا شاهقا فهو هوش لا يقوى امام الحقائق .. وكأن الجميع عندما يرى انسانا بنفس ظروف شخصيتنا البطلة تعلو هلاهله وتنشرح اساريره فهناك من وجدنا رأسه كشماعة نعلق عليها اخطائنا التي صنعها ضعفنا وهزيمتنا امام الشيطان من ادم وحتى اخر من يودع المنافسة التي اسمها الحياة. تنهشها الأسئلة المرتابة المشككة فترد بأنين انساني ابدع الزيدي في صياغته (يبدو أن اللعبة ستنتهي …أليس كذلك؟) فكم من الفتيات ذهبن ظلما دون اماطة اللثام عن وجه الحقيقة بقليل من الصبر والاناة لكن الالسنة تزغرد كالسكاكين بشحذ بعضها .. هي تشعر بمنامها قلق على سرير اخشوشنت دفتيه فمن جهة هذا الغول الناهش في الأعماق المتحين سقطات الاخرين الذي اسمه المجتمع ومن جهة أخرى اخوها الأكبر واختها التي تعهدت رعايتها وشعورهما بخسارة ما انفقاه من قيم ووصايا اودعاها في أذنيها التي اصمها هذا الصراخ القادم من فيافي الروح تريد ان تقول لست ملاذا لظنونكم المرتابة انا ثوب ابيض وهنا يبدع الزيدي في ترسيم حدود الحوار بشكل نوافذ ترحب بالقادم لفهم حياته من خلال شخصية بطلتنا فترى هذا الحوار حوارا ذاتيا تارة بين الانا والشخصية وذاتيتها المتخيلة في ذهن الكاتب والدفوعات المتشكلة من هذا الحوار في جانبي الحلبة التي بيئتها النفس البشرية وفي تارة أخرى يبدو الحوار بصدام مع الآخر المتشكل بصورٍ عدة , الأسرة , والمجتمع ,والدين ,والقانون فتراه يأخذ مسارا فلسفيا محيرا وفي أحيان كثيرة تجده يقترب من المذهب العبثي العدمي الذي يراه البعض سفسطائيا غير مجد لكن الحقيقة التي لابد لها ان تكون ان كل هذا هو انفعال الألم داخل الروح وتضاريسها المعقدة كلما اشتد الألم اتسعت مساحة الوجع والصراخ ليغدو أحيانا علامة ضعف انساني امام ما نفثته افعى الحياة السامة في تفاصيل هذه الروح المعذبة فيتشكل احاديثا لا رابط لها لا صحة لها لا واقعية لا قيمة لها مما يتولد لدى البعض إدراك خاطئ أن الإنسان كائن مزاجي لا يقوى على الثبات ، متناقض وبالخصوص عندما يوضع في زاوية معينة من الاتهامات والحقيقة غير ذلك فالإنسان في طبيعته لا يقبل الاتهامات وامر طبيعي أن يشرع بالدفاع عن نفسه امامها والتي يراها باطلة وان بدا ممثلا بارعا كاذبا مدعيا.
لجأ الكاتب سالم الزيدي لأن يغشش بطلته بالهمس في أذنها ببعض قواعد اللعبة الاجتماعية من كف يد الأذى عن صفعها بقوله كيف للإنسان أن يكون أقوى واشد؟ كيف له أن يقلّل من عبوديته للظروف التي تحيطه كمح وسط بيضة .. كيف؟.
بما أنها امرأة منكوبة تريد الخلاص من اوجاعها عمدت الى الاستماع لما اسرّه الزيدي في قوقعة روحها لجأت للحكي او السرد بإيجاد مستمع افتراضي قد تجد لديه بعض الفرج الذي تأمله لتتقيأ ما مر بها من ألم وكأنها تخبرنا هل هناك من يتذكر ما أنا عليه هل يعي ما اعنانيه هل يحذر مستقبلا؟ لابد ان هناك من هو شريكي في الألم فلابد لنا من العثور على من يتذكر .. لذلك وهي امام خطيئتها تمثل لها العالم باتساعه خرم ابره ستطل من خلاله معتبره هذا الخرم ليس ذاك الخلاص الحقيقي انما هو المتفرج او المستمع الافتراضي .. كثير منا متخم بالوجع تجده اكثر من يتحدث عن نفسه معجب بها يسرد ويسرد ويسرد قصصه وقصص غيره هو ليس بثرثار ولا اناني ولا محتال يستدر عطف غيره لا بل هو هاجس كل متألم يريد الخلاص من تراكمات ما مر به كلعابة الصبر التي يوم انتفخت فانفجرت حكايات وروايات وتأجيج روح الثورة لدى الأخر وهذا ما بنى عليه سالم الزيدي أدواته للتأثير في المتلق معتبرا إياه كلعابة الصبر حينما يضخ اليها الامه فيمتلأ بها لينفجر رفضا بوجه الظلم ينفجر حقيقة بوجه الزيف الذي نعيشه.
كما عودنا الكاتب الزيدي في أكثر كتاباته المسرحية بأيديولوجية معينة مثلت ثيمة عميقة استقاها من اصل العالم ووجوده الهش خاصيتها الانتظار الذي اصبح ثقافة يتبناها الكثير لضعف ما في الاقناع وعدم العثور على بدائل تغير من وزن المعادلة والخروج بنتائج مثمرة فألقى الزيدي بظلال هذا الانتظار في روح البطلة التي اعتقدت في لحظة ما ان انتفاخها كجندي فاتح مرده الى خطيئة ارتكبتها مع حبيبها الذي يكبرها عمرها وجدت فيه بعض الابوة التي افتقدتها على عجل في اول مضمار الحياة الملتهب حاولت اقناع نفسها بأن هذا الانسان لابد وان يعود ليرمي قميصه الأبيض على طهرها فتنقلب المعادلة من متهمة مذنبة وخاطئة الى سيدة مجتمعها يحفظ لاخيها سمعته ووجوده وسط مجتمع لا يقبل بضعف احدنا الا وسيفه الباشق يقطع اوصال البراءة وطهرها لكن المؤلم في هذا الانتظار ان النداء بدا يأخذ بالتلاشي يفتقد لقوته المناسبة في إيصال فونيمات انينها بتعجيل قدوم حبيبها من غيبته الكبرى التي استعذب فيها خفاءه وانعدام وجوده .. انتظارها قاتل فهي تتلظى على سرير من دبابيس تريده ان يأتي ويلجم افواه المتكلمين عنها بريبة بدءً من ذويها.
وفي محاولة من الكاتب لتأكيد اننا نعيش الكذب والتناقض من خلال سردنا لأحداث هي في اصلها لغيرنا وربما فعلا هي حقيقتنا التي لوناها ببعض الرتوش تطلق بنا اختها الكبرى وامها الافتراضية نحو الطبيب لمعاينتها وفك طلاسم حقيقة هذه البطن الاخذة في الاتساع لتغمر العالم بظلها وكم كانت جميلة تلك الاخبار القادمة من الطبيب على لسان الببغاوات على قلب الأخ واخته بأن اختهم الصغيرة ليست حامل فهي مازالت بكرا تلقفوا الجزء الأول من التشخيص وطاروا به للعالم ومجتمعهم الهش بأن اختهم طاهرة واقفلوا اذانهم أذن بعجين واذن بطين ولم يكملوا سماع كلمات الطبيب الذي قال ان سبب الانتفاخ هو السرطان الذي أصيبت به هذه الفتاة الشابة البريئة وهو ديدن الانسان وأنانيته الغير سوية ليترك هذا الكيان الإنساني نهبا متواصلا للألم الذي ليس لنا القدرة على مبارحته او السماح له بهجرتنا أي نعم صخب الناس آخذ بالانكسار امام طهرها الذي اوهن السنتهم ليبدأ هوس آخر لديهم في زرع وخزانتهم في جسدها الغض .. هي الان تواجه ظلما اقسى وأشد وانكى مصدره بطنها التي مازالت منتفخة وهذه المرة ليس بسبب ما اودعه احدهم في رحمها كما في السابق بل بسبب الافة التي لازمت نون النسوة في بلدنا المبتلى الا وهو السرطان الذي سيصد عنها كل رجال الكون ولن يقبل بها أي من البشر مع عمر افتراضي لا يتجاوز الأيام لتعود من جديد تفتعل الانتظار وكأنها تتوسل بكل قوى الأرض والسماء لمسح رأسها والقول لها اذهبي فأنت آمنة مطمئنة
– سأذهب إلى الشاطئ لأرسل الشموع له
ادمنت التجوال على جروف الأنهار تبعث الشموع لاستجاع حبيبها المنتظر وربما هي لا تنتظر شخصا بعينه فربما هو انتظار من صنع الكاتب الذي يحلم بعودته عراقه الحضاري المدني المعافى لسابق أيامه في التوهج وسط العالم لكنها وكما هو معتاد لدى الزيدي انه صاحب ادانات للزمن باشكالياته المتعددة من خلال شخصيات مضطهدة فهي أي البطلة كثيرة الشكوك بهذا الزمن في ان ينصفها ولو بالعمر مرة
– سيأتي شيء مجهول يقتحم النَّاس… سيأتي… ستاتي سفينة كبيرة تطفو على المياه
وهي بقولها هذا رغم يقينها الداخلي بعدم الجدوى وعبثية الزمن لكنها تحاول الاحتيال على نفسها وإقناع هواجسها التي تبلورت كمشكلة عالمية لخصها الروائي الروسي (ليو تولستوي) وإعلان عقيدته في الانسان وشعوره الملازم لوجوده (الخوف من الحياة ومصيرها) في كتابه *مذكّرات مجنون*، حيث يقول: “لماذا هذه الحياة؟ أللموت؟ ألِأنتحر حالاً؟ كلا. إنني خائف. ألأنتظر الموت حتى حين؟ بل إنني أخاف ذلك أكثر. إذن يجب أن أعيش. ولكن لماذا؟ ألكي أموت؟ ولم أستطع أن أنجو من تلك الحلقة المفرغة. وأخذت كتاباً وقرأت، ونسيت نفسي للحظة، إلا أنني عدت مباشرة إلى الرعب والسؤال السابقين. واضطجعت وأغلقت عيني، ولم يقل الأمر سوءاً”.
رغم كل الانفعالات التي مرت في استعطاف القدر لبعث الحياة في الحياة ورغم محاولات البطلة والكاتب في معالجة الإشكاليات بعمومياتها من خلال الانتظار لكن الحقيقة تدمغ الواق وتعلن أننا نعاني التدوير في حياتنا كنفايات تعالج لتخرج شكلا اخر ستعود حتما نفايات أخرى لتعالج وهكذا وفي الختام يعلنها الزيدي صراحة وعلى لسان بطلته المنكوبة بأننا مخلوقات تعيش تقلبا وبشكل متتالي ومتوالي بين ثلاث متاهات ..
– ميلاد… اقتران… موت…
Discussion about this post