قصة قصيرة: ” الموظفون في الأرض
” بقلم: عبد الحكيم ربيعي.
—– يوم آخر مملّ أطلّ خلف كومة من الأرق والسهاد في عتمة تضيق بها كل العباد. يوم لن يكون أفضل من أمسه وسيكون شبيها دون شكّ بغده. في وطننا تحالفت رتابة الأيام مع سلسلة الأزمات لتصبح خبزا يوميا أقض هاجس الجميع.
استفاق محمد سيء المزاج ثقيل الرأس وحرقة في المعدة زادت في تعكير صفوه. اشعل سيجارة وبقي في سريره يتأمل سطح الغرفة دون ان ترمش عيناه. ما هذا الضيق الذي يسكنه. ما أشبهه بثقب اسود ابتلع كل اشكال الفرح، ذكريات وعبارات، وأدها في سحيق الظلمة ولم يبق الا خيال كآبة أثقلته وجعلته في عزلة عن كل من حوله.
تراءت على شفتيه ابتسامة موجعة وهو يتذكر عبارة لعادل إمام في احدى مسرحياته ” ومنين يا حسرة ” فعلا من أين له بالاصدقاء والكل في فلك يسبحون بل يجدّفون وبالكاد يستطيعون المحافظة على رؤوسهم فوق الماء مخافة أن يفتك بهم هذا التيار الجارف من الاحباط والغلاء الذي تفشى مثل وباء الكورونا.
” لا يغرق المرء لأنه سقط في النهر، بل لبقائه مغموراً تحت سطح الماء” هكذا قرأ ذات يوم وتساءل”وهل ثمة من يرضى أن يبقى اختيارا مغمورا بالماء؟ ” ضحك مجددا وهو يردد مساكين هؤلاء الحكماء، كم ظنهم جميل بالحياة.
ترك سريره بتثاقل واتجه للاغتسال.مرّ بزوجته في المطبخ ولم يكلف نفسه عناء تحية الصباح .نظرت اليه بدورها شزرا ثم توجهت بالحديث الى ابنتها بصوت عال ” الفريجيدير فارغة. لا لحم ولا خضرة ، اش نعمل لعمري شنوا باش نحضر للغداء ” نزلت كلماتها كالمطارق على رأسه، تعثر في مشيته وكاد يسقط. سارع بدخول الحمام ونزع أدباشه وارتمى تحت الدوش. أصابته رعشة والماء البارد ينسكب على جسمه لكنه لم يبال ووقف دون حراك وهو يردد ” اللهم أعوذ بك من الفقر وسيء الأسقام وقهر الرجال”. تعمّد أن لا يخرج الا حين صعود زوجته للطابق الاول وانطلق الى غرفته ليغير ملابسه استعدادا للانعتاق. تحسس جيبه وهو يغادر المنزل ووجد فيها عشرة دنانير هي آخر ما تبقي في جيبه من السلفة التي اخذها من البنك.ماذا تراها تفعل هاته الورقة اليتيمة؟ يا الله، كيف الحل وكيف سيتصرّف؟
احتار دليله وسلّم بعجزه. تواصل مع أكثر من عشرة أصدقاء للتداين لكن في كل مرة نفس الجواب ” سامحني خويا الباهي والله لا نعز عليك شي. الي ما يدري يقول سبول ”
فعلا الي ما يدري يقول سبول، الكل يظنه في بحبوحة من العيش وهم لا يعلمون أن الثقب في جيبه أشبه بثقب الاوزون يحتاج لمعجزة لترميمه.
توجّه بخطى متثاقلة إلى محل لبيع الدجاج قريبا منه وهو يمنّي النفس بأن يجده مفتوحا حتى يتصرف في بعض اللحم لغداء اليوم ومن سوء حظه وجده مغلقا. واصل سيره لآخر تعوّد التعامل معه باستمرار.
كان المحل مزدحما، انتظر بعض الوقت إلى أن غادر كل الحرفاء ثم طلب من البائع ان يزن له بعض الدجاج. لم يتردد هذا الأخير في إعداد طلبه وهو يرحب به ومتسائلا عن تغيبه في الفترة الاخيرة عن محله. كان يجيب وهو شارد الذهن فلا هاجس له الان سوى كيف سيعفي نفسه من الاحراج الذي قد يتعرض له. قدم له البائع غرضه وهو يبتسم. تظاهر المسكين بالبحث عن محفظة نقوده ثم قال بانكسار ” يبدو أني نسيت محفظتي في الدار، سأجلب لك النقود بعد قليل ” فما كان من البائع الا ان اعاد اللحم للثلاجة وهو ويقول ” مش مشكلة استاذ، دارك مش بعيدة. هاي القضية في الفريقو أول ما تجيب الفلوس خوذها ”
مطرقة اخرى تنزل على رأسه وحمام بارد آخر هذا الصباح لن يكونا أشدّ وطء من صوت زوجته وهي تشتكي من ضيق الحال.
لم ينتبه إلا والناس من حوله وهو على كرسي في المقهى.الكل يحاول ايقاضه بعد ان اصيب بغيبوبة بسبب انخفاض نسبة السكر في دمه. تحامل على نفسه وجاهد كي يغادر المقهى وهو يقول ” اللهم أعوذ بك من الفقر وسيء الأسقام وقهر الرجال”.
Discussion about this post