السبيل
يرنو إلى البعيد، وهو يصيخ السمع .. يعود من سَبْحته قبل أن يتساءل:
_ ماذا هناك يا مولانا؟
_ السؤالُ واسعٌ بلا انتهاء، وعميقٌ بلا ابتداء يا بُنيّ، يلزمه عِلمٌ كثيرٌ كثير ..
تسمَّر في جلسته – أمام شيخه – حائراً وكأنما أُسقط في يده، ما العمل؟ .. تمدد الصمت ثقيلاً خانقاً في حضرة السؤال .. من سكونٍ مريرٍ هبَّ واقفاً كأنما انتوى أمراً ..
في خلوته البعيدة في حضن النخلة، تنسَّكَ زاهداً، مُستأنِساً بكل ما طالته يداه من أسفار ..
عامٌ ونيف من المشقَّةِ أمضاهُ مابين الاطلاعِ والبحثِ والتَّقصِّي، وما اقتضى السفر إليه .. موقناً أنه ماترك شارِدَةً ولا وارِدَةً إلا ألَمَّ بها وتمثَّلها .. عاد لشيْخِهِ مُتهلِّلاً، مُنتفِشًا يُبشِّرُه:
ــ غَدوْتُ مُهيَّاً للمرورِ يامولانا .. عَلِمْتُ عنه كلَّ شئ
تبسَّمَ الشيْخُ الوقورُ، ثم أطرقَ ضَجِرًا، لم يفارقه سلامُه، لائذاً بحِلْمِه .. وبصوته العميق:
ــ ماعَرَفْتَ شيئًا .. مايُغْني عِلْمُكَ عن عيْنِك ..
تراجعَ الفتَى أسِفًا، ثم وَلَّى ولم يُعَقِّب .. يَمَّمَ نحو البراحِ البعيد؛ عازِمًا الظفرَ بأسرارِ اجتيازِ ذلك البرزخِ المرصود؛ مُمنياً نفسه بالعبور إلى حياةِ الرَّغَدِ التي يهفو إليها قلبه؛ تلك المُقيمةِ خلف الأستار الحاكمة ..
عندها .. دنا مِنْهُ قدْرَ أمانِهِ ـ مُشْرَعَ العينين ـ يُتابعُ ذلك المُهاب الذى يسَُّدُ المَجازَ ويَحكُمُهُ، يُحصي حركاتَهُ وسكناتَه .. زلْزَلَتْهُ زمْجَرتُه العاتية، واستكانَ مع وقار تراتيلِه ..
يرصد .. الراغِبونَ لاينقطعون، خَلْقٌ كثيرٌ؛ مابين مُدْبرين ذُعْرًا، وصرْعَى نالهم بطشُ غضبه، ونَزرٌ يسِيرٌ يعبُر ..
مُثقلَ الكاهلِ عادَ لشيْخِهِ بالحَصادِ مُبشِّرًا:
ــ راقبْتُه .. ماغَمَضَ لي جَفْنٌ يامولانا .. يكادُ يقتُلُني العطش، أتوق أن أبلل جفاف حلقي من إبريقك ..
تململَ الشيخُ .. انتابه الأسَى والحُنْقُ .. سكت دهراً قبل أن يخرج صوته موجوعاً وهو يُراجِعُه:
ــ ياولدي .. ما عَرَفْتَهُ حقًا .. عُدْ فتحقَّق، وإيَّاكَ والغَضَب ..
مُتَبرِّمًا عادَ أدراجَهُ، مُشتتَ الذهنِ، مُمْتلأً بالمرارةِ والقنوط .. غُمَّ عليه دربه، عجز عن التقصِّي .. احتواهُ التِّيه، وتفرَّقت به السُّبل ..
……………
أحمد عثمان / مصر
Discussion about this post