لحظات فارقة
ـــــــــــــــــــ
انسابت إلى قلبها موسيقى فأضاءت حجراته أضواء خافتة ازداد وهجها مع تدفق الذكريات,لتلتقى مع دقاته فى إيقاع أحيا أمام عينيها صورة لإثنين يجلسان فى زاوية إحدى الكافيهات. حيث تلتقى الأعين والأيدى المتشابكة فى رقصة أبدية صامتة.لم يقطعها سوى خيال ليدٍ ملوحة من بعيد تنتبه لتجدها يد زوجها يسألها ممازحاُ
– ها.. وصلتى لحد فين؟!
تجيب بذهول وهى تتلفت حولها كمن استيقظ فى فراش شخص آخر
– أبدا ولا حاجة…..
ظلت طوال اليوم تتأمله، وكل برهة تأتيها ومضة من الذاكرة تحملها على جناح الحنين، لتعود محملة بإكسير الحياة الذى افتقدت طعمة فى خضم الصراع اليومى.
تنظر إليه فى إمعان وهو يتناول طعام الغذاء، لتسرح بخيالها بعيدًا تتذكر أول ما تعارفا..هى فتاة غضة تخطو أولى خطوات الإعتماد على الذات، بعد أن كان كل عالمها ينحصر فى البيت والمدرسة وحكايا البنات، وهو فى العام الأخير من نفس الكلية .
كان وقتها شخصًا مختلف عن ذلك الإنسان الآلى الجالس أمامها، كان شعلة من الذكاء والحيوية، وكم كانت سعادتها كبيرة حين اختصها بنظراته وإصراره على إلحاقها بكافة النشاطات المشترك بها فى الكلية.. قالت كأنما تحدث نفسها
-“إيه بس اللى حصل لنا.. إزاى تحولنا لشوية بشر آليين.مابقاش للحياة طعم”
ساهماً ينظر اليها وقد توقف الطعام فى حلقه، لا يدرى أيعود أو يكمل طريقه، وكأنما يد إمتدت من فتحة فى جدار الزمن لثوان صفعته وعادت.
-“إنتى ايه اللى فكرك بأيام زمان”
يسألها وهو ينهض وقد قتلت كلماتها شهوته للطعام.
“فاكر الموسيقى دى؟”
تحاول أن تتصنع الدلال بعد أن نسيت كيف تفعل من زمن.
– موسيقى إيه! ..ما خلاص راحت علينا
تتجاهل الطعنة المصوبة لصميم كرامتها، وفى محاولة مستميته لإنعاش الجسد الراقد على الأريكة يشاهد التلفاز، قدم له كوبًا من الشاى، وتسأله عن رأيه فى الذهاب لرحلة يومين الى شقة زميله فى الاسكندرية.
– إنتى شكلك اتجننتى، هو أنا فاضى للعب العيال دا؟!
يرد عليها ساخرًا ولم يكلف نفسه النظر اليها، ليرى التغيير الذى فعلته من أجله.
انسابت على خديها دموعاً اختلطت ببقايا زينةٍ، مكونةً لوحة سريالية لامرأةٍ مقهورة.
نظرت فى المرآه طويلاً تحاول أن تتعرف على الوجه المقابل لها، وقد حفرت الدموع به العديد من الطرق..تذكرت حين كان جارهم الشاب يكاد يلقى بنفسه من الشرفة المجاورة لحجرتها، فقط ليراها ومتابعته المستمرة لها فى طريق المدرسة.
حملها الشوق لأيام المصيف مع العائلة، وطعم أول قبلة -بكل ما تحمله من لهفة وخجل- من ابن عمها الذى سافر هربًا من ضياع العمر قبل فوات الاوان.
دفنت وجهها فى الوسادة تخرج ما علق فى روحها من رواسب مع دموعها، لا تدرى كم من الوقت مضى.
دخل عليها بعد أن انتهى من مشاهدة برنامجه الرياضى لينتهى منها أيضا..يستلقى بجوارها وقد هدأت أنفاسه ينفث دخان سجائره فى تلذذ، وهى ملقاةٌ بجواره لا تدرى أيهما يخنقها أكثر ..دخان سجائره أم بقايا أنفاسه العالقة بأنفها.
– كفاية
استيقظت فزعة وهى تصرخ.
استيقظ من النوم على صوته، ينظر إليها نظرة استنفذت ما تبقى من قوة على الإحتمال، ليعطيها ظهره ويعلو صوت شخيره.
اعتصرتها خيبة ٌمُرة وهى تجمع ملابسها، فلأول مرة منذ خمس سنوات تفكر فى ترك منزلها..تداعت أمام عينيها صوراً لشقتهم اثناء تأسيسها، وذكرى كل ركن شاهد محاولاته ضمها وتمنعها فى دلال يسعده، جرجرت كلاً من قدميها وشنطتها وهى تكافح كى توقف تدفق دموعها التى تسد مجال الرؤية..تصفع الباب وهى تغلقه كأنها تصفعه على وجهه.
لم تنطق بكلمة لوالدتها التى جلست بجوارها تشاركها البكاء، فلن تستطيع فهم ما تعانيه زوجة لرجل أصبح إنسان آلي، سيتهمونها بالجنون أو بالكفر بالنعمة، وربما بالمجون فى أحاديثهم الجانبية.
يعود من العمل فلا يجدها، يتصل بها فلا تجيب، يتصل بوالدتها ليواجهه إعصار من الاتهامات والتهديد والوعيد.
-“إهدى بس يا حاجة أنا مش فاهم حاجة”
محاولًا امتصاص غضبها،ومعرفة ما الذى حدث، فهو متيقن من أنه لم يفعل شئ، ولا يدرى سر تركها المفاجئ للمنزل.
-“خلاص أنا هاجى أشوفها و أعرف منها”
يغلق الهاتف وقد زاد حنقه.
-“إيه بقى يا ستى الموضوع ؟”
يحاول أن يرسم على وجهه إبتسامة مفتعلة تحفظها.
تنظر إليه نظرة غاضبة ولا تجيب، عندما أعيته الحيلة تركها ومضى.
-“ولا يهمك بكره أجوزك ست ستها”
كعادة كل الأمهات تُطيب والدته خاطره عندما ذهب إليها شاكيا
لم تطلب الطلاق، ولم يفكر فى تركها؛ لازال هناك شئٌ يجمعهما.
ظلت فى منزل أهلها ورغم محاولاتهم المستمينه إخراجها من تلك الحالة، إلا أنها هى الأخرى تحولت لانسان آلي لم يعد يثيرها أى حدث أو يسعدها أى خبر.
أما هو فقد أذابته الوحدة والغياب وبقايا الحنين رويدًا رويدا، بدأ الانسان الآلي يتحول تدريجياً وهو يتجاوب مع محاولات زميلته، قررا أن يتقابلا فى الخارج ..جلسا معاً فى إحدى الاماكن المفضلة لديه.لتنساب موسيقى نبهت حواسه جميعاً؛ فحملته إلى وجه يشتاق إليه! تتلاحق الأحداث فى مخيلته أخذته بعيداً بحيث لم يسمع نداء رفيقته وهو يتناول مفاتيحه من فوق الطاولة ويغادر مسرعاً.
تتسارع دقات قلبه وهو يضغط بيده على الجرس، وبعقله على أعصابه لتهدأ.
كان قد حّمل وهو فى الطريق موسيقاهما المفضلة على هاتفه الخلوي، وما أن فتحت الباب حتى رمقته بنظرةٍ آليةٍ ميتة وأغلقت الباب.
………….
هدى شعبان / مصر
Discussion about this post