منوبية الغضباني
القصرين في 06.10.2022
ا=======
النص
ا=======
ووافيتُها بالزريبة تحلب نعجتها وتغني على البلدِ
فوشمٌ على معصمٍ لكأنه طـرقُ نمـلٍ على وتدِ
تُدندنُ أغنيةً فمع كلّ شُخبٍ سلامٌ… وأمسكتُها بيدِ
وأودَعتُ شامَتَها قُبلةً…ذاب من فرط حبي لها كبدي
فمدّت إناء حِلاَبٍ… أعادت لي الروح للجسدِ!
ا==================================
ا==== القراءة والتأويل بين الأصالة والتحديث ====
ا==================================
القراءة النقدية…
ا=========
بهاء النّص الشعريّ يمنح متلقيه لذّة القراءة ..وهو ما حصل معي لأجدني متورطة كعادتي في تحليل هذا النّص الجميل للمبدع الشاعر حمد حاجي …
فسحر النّص الشّعري لدى شاعرنا هو هذا التّفرّد الذي يحيط بمحامل نصّه وطرافتها ..ونرصدها في التّعلّق بالأصالة لاسيّما الريفية منها كما الحال في هذا النّص ..
والحداثة في منحى مبدعنا لا تقف عند تحديث الشّكل بل غاصت في المضمون وتفعيل محتواه استرجاعا وتذكرا ..ولابدّ من الإشارة أنّ أساس الإبداع لديه هي بيئته وهي الجاذبة لملكته في الكتابة ..
والتذّكر في هذا النّص هو الذي حقّق الإنشقاق عن المألوف والعادي ليصبح انتاجا متميّزا وفارقا ..
يقول الشاعر في مستهل نصّه مستعملا الواو الإستئنافية والتي لا علاقة لها بما سبقها من معنى فهي تدل على الجمل لاغير
ووافيتها بالزريبة تحلب نعجتها وتغني على البلد
ولا أظنّه التحم بهذه الصّورة وهو يعيش في العاصمة ولا حتى أتيحت له في الرّاهن في أرياف فقدت ميزاتها ومظاهرها التي نعرفُ..
فأين نحن من الزريبة والنعجة والحلاب والأيادي بمعاصمها المحتشد وشمها والماهرة في استدرار حليب النعجة ..
قد يكون شاهدها وهو صغير وشاعرنا ابن ريف استبطنها في ذاكرته ..وقد قيل إنّ التّأمّل في المشاهد المخزونة فينا هي أصل الإبتكار والحداثة ..مع اطلاق عنان الخيال فيها الذي يعتبره النّقاد خصيصة فارقة في الشّعر إذ يستمد المبدع عناصره مما ترسب في وجدانه وذاكرته معيدا انتاجه ..
أمّا قوله “وهي تغنّي على البلد” ففيها مجالات وسيعة فسيحة للظفر بجواهرها فهو وأن لم يشاكل بصورة واقع هذا البلد في راهنه فهو يلوّح بها في “تغني على البلد …”ويلحّ بنا التساؤل والتّسآل عمّا عساه تغني عن هذا البلد …اأهازيج مدح وفخر ام بكاء وحسرة …
وتتنامى جمالية المشهد بقوله وهو يلمح يديها الحالبة لنعجتها
فوشم على معصم كأنه طرق نمل على وتد..
ليصير الغزل ارتدادا الى الذّات العاشقة وكوامنها ..
كانّه طرق نمل على وتد
موظفا فن البلاغة في الإستعارة التصريحية التي ظهرت في مواضعبيّنة جليّة حيث شبّه الشاعر الوشم على معصمها بطرق نمل على الوتد
والنّمل هذه الحشرة الصّغيرة العجيبة التي ذكرها اللّه سبحانه وتعالى في القرآن لينبّه عباده الى سرّه في أضعف مخلوقاته …ومجتمع النّمل عجيب غريب وقد خصّه الجاحظ في كتابه الحيوان بفصل ..
والملاحظ أنّ الشاعر حمد يستحضر ويتوسل بالنّمل في أكثر من نصّ ولعلّه هنا شبه الوشم بمعصم المرأة بطرق النّمل على الوتد في تشبيه لسعي النّمل وطرقه الدؤوب على وتد.. والوتد في المعجم اللغة له من المعنى ما ثبت في الأرض لشدّ الخيمة أو السّور…ووجه الشبه بين المشبّه “وشم على معصمها والمشبّه به”كأنّه طرق نمل على وتد” هو تثبيت الشيء واستمراره وعدم زواله.
وا تبقى الطّاقة التّعبيرية الكامنة في هذا المقطع موصولةََ بالقيمة الأسلوبية وعلاقة المفردات ببعضها ..
وما يمتاز به هذا النص كغيره من نصوص مبدعنا هو اعتماد الصّورة الشعرية على الصّورة الحسية المتمثلة في البصر السمع وايضا اللذمس ..أذ يقول و”مسكتها بيد”..لمسا …تدندن أغنية “سمعا” وقد رأيت اثارة الإنفعال لدى المتلقي واستمالته هي من أهمّ أساليبه في تجسيم المعاني بطريقة حسيّة ..وهو في كلّ هذا يكشف عن اقتداراته الإبداعية بل لعلّي أجزم أنّها من أهمّ ميزاته الفارقة في منجزه الكتابي .
ولعلّ ما استوقفني أكثر هي هذه المفردات
“مع كلّ شخب سلام ”
“أودعت شامتها قبلة”
فمدّت إناء حلاب”
فهي في مجملها اقتدارت يمتلكها الشاعر في لغته وسياقاته وثقافته ومرجعيته أوصل بها المعنى وهي لعمري البيان الذي قال عنه الجاحظ في مؤلفه هو الكاشف للمعنى المقصود ..فنبشه في موروثنا الغوي المتداول هي من أسراره الكامنةفي ذهنه ومهجته ….وقد استحضرت مع كلمة “شخب”ما كانت تنصنا به والدتي رحمها اللّه في ترديدها لنا “شخب حليب من ثدي الأمّ أنفع من علبة حليب مصنّع” ولا غرابة أن يقول إنّ شخب الحليب في إناء حلاب أعاد الرّوح للجسد ….
ففي هذا النص كائنات نصيّة أخرى نستمدّ مقوّماتها من ذاكرة شاعر وبين ماهو ذهني ونفسي يفتح لنا النص مسارب ومآرب لنحدّد هويتنا في هذه الأزمنة الغريبة العجيبة التي صار فيها شخب الحليب اصطناعيا ومعلّبا …
وصارت النّعجة بلا زريبة ولا يد حالبة ولا حلاب ..
والوشم ماعاد سمة لحضارة انسانية …بل صار في ذروة شعبوية ظاهرة شبابية تقدمية وحداثية …
شاعرنا البهيّ
يبهرني هذا الوعي الذي تتناول به منجزاتك الشعرية في صروف وظروف اتسمت بالرداءة والإنبتات…
توقظ في حسنا ما ابتلعه هدير وصخب الحياة فنركض من خلال نصك باحثين عن معرفة أنفسنا مصطدمين بفداحة واقع عكرته الخيالات الفاسدة والذوق الهابط..
تمنحنا نصوصك حالة من الصفاء الذهني والعاطفي …….فنغوص فيها ببعض من فهمنا المتواضع …
فلتبق نصوصك الشعرية الثّرة مجالنا وملاذنا نسمها بآفاق تواصل وتفاعل يتيحها لنا فنّ وجماليّة التّلقي .. وليبق شعرك في ظاهره غزل وفي باطنه (نظر وتحقيق)…
ا=============
منوبية الغضباني
القصرين في 06.10.2022
Discussion about this post