قصة قصيرة
في يوم ممطر
بدت الأشياء تستكين إلى نمط من الرتابة و التداعي. و منذ أن تراكمت الأعوام ، آلت الأمور أن تتعايش مع ما يترشح من عواقب الغياب، بحيث .. جنحت إلى حالة تستهوي التعامل بالصمت.سواء هي ذاتها ، أو الأم التي أطر الكساح مساحة حركتها وكان يفترض ان تكون نديمتها في هذه العزلة .
كذلك .. المخلفات . التي رُكنت – بعد رحيله- إلى الخمول و تشابه الحال.
حتى .. ذلك القريب للزوجين. الصديق الظريف، المؤنس، كف عن تردده.
فطالما… فاجأها بوجوده بعد الرحيل. وطالما..ملأ جزءً من ذلك الفراغ الموجع.
وطالما.. خفف، و هوّن همها الطاغي، عبر سنوات عجاف، من الترمّل و القحط، والتوحّد.
وألحّ، أن تستغني، عن تلك المرآة البائسة، المثلومة على نحو جائر.التي أبقاها الزوج .. بنصف مفقود.
كلّما جاء القريب.. نقر على الباب الخارجي بإلحاح.تلك النقرات التي كأنها تقول : ـ (هوّني عن نفسك هذا الهم).
فتبدو قسوة التوحد، أقل عبئا .
قرعت مقرعة الوقت: عشر قرعات . وبدا الصباح رماديا ، هطلا. كأن السماء قد أنفتقت عن نواح ثقيل.
وفي ركن ، بدا – بعض الشيء- شاحبا، انزوت شمّاعة الملابس. وكان من المبرر لها أن تنزوي، و تنصرف عن تأّلق أصابعها، لقلّة المواظبة على محاباتها، فمالت إلى الغبرة و استحالت إلى كف مشبوحة الأصابع .
بدت الأشياء الأخرى .. تتململ من سكونها ببطء شديد. فقط .. كان هناك فراش ، بوسادة و غطاء، لشخصها ، مستلق طيلة الأيام، إلآ ما ندر ، أذعن أن يتكيّف مع الصمت و الرتابة.
واعتادت أن تكون: سوى وهم ، أو شبح ،أو ضمن نمط يؤدي تواصلا حياتيا.لم يغرها به شيء . سوى.. هناك في غرفة أخرى، جسد الأم المقعد، الصامت باستمرار.
كما.. توسّدت علبة المساحيق، و أدوات الحلاقة: حالة العطل المتواصل. كذلك .. أُقفلت تماما، درفتا الخزان ، على ثياب استكانت للاسترخاء المطبق. ورافقت باستمرار، الاتكاء على حمالة متوائمة مع هذا المصير.
فلم يُجد.. أن تتواصل، مع حيويّة التنضيد و التعديل.، لكون صاحبها عزف منذ زمن غير يسير.
و تحتها انبطحت، علبةٌ أفل تألّقها، منغلقة على وثائق: لعقد زواج ، و شهادتين جامعيّتين، و.. وريقات،كانت محفوظة من أيّام الدراسة. ورسائل أصدقاء زاخرة بالنوادر،وذكريات طافحة بالمشاكسة و النصب على صديق. وصورة لقريبهما يقبّل حمارا. فيجري الاحتفاظ فيها ضمن المكتنزات الثمينة.
وفي الأسفل لاذت – بحرص شديد – صورة مزدوجة للزوجين، يوم العرس، وشخصت على جانب الخزان.. رقعة شطرنج،في حين تبعثرت البيادق، كما لو كانت.. قد غثلبت بأجمعها. ثم لاذت إلى الخلف ، صورةٌ للزوجين بالألوان التقطها القريب، بدت هي بملامح ريّانة. متألّقة . باسمة.و قد ازدانت المائدة، التي أمامهما ، ببطيخة ، مفرطة النضوج.. وقد قطّعت.. على نحو نجمة بحريّة حمراء ، لم تخف صاحبة الصورة ذلك الانطباع ، عن كونها مولعة بالعبث و الاعتداد.
لاذت تلك الصورة وكان من الصعب والمؤلم أن تطل الصورتان، فتحرقا شغاف القلب.
وقد كان لهذه العتمة ما يبررها . و أصبح من النادر.. أن يسيح.. فيضٌ من كبوة شمس، على نحو يُعيُنها .، لكي ترجّل شعرها. فاكتفت بحظ ضئيل .. بحيث، توقف زهدُها.. على قدر يسير ، يكفي أن يقدم خدمةً محددةً، وعاجلة.فكانت الستائر قد اعتادت أن ُتُسدل.. أكثر كثيرا مما ينبغي ،، لكون الأشياء الخارجية, لا تغري براحة البال.
فلا حديقة مزدهرة- كحالها سابقا – ولا عصافير تقفز و تزقزق . ولا ثمة ما ينبئ، عن حركة زائر ما ، لصديق أو قريب يذكرها بزوجها، أو باستمرارها على قيد الحياة. كأنما كل ما جرى سابقا .. قد انطوى و تراكم ، في موقد الذكريات. وما تبقى ليس سوى .. رمادُ أحلام مرتبكة. و أصواتٌ .. في أوقات عمق الليل، خادعة.موحية : أنه جاء. أشياء كثيرة. حتى .. إن الحالمة : تكذب الحلم وهي في ذروته.
ليس.. سوى بقايا تتضاءل باستمرار، مما خلفه الزوج..أدوات الحديقة الصدئة . و لعبة، هي لعبة يفاجأ فيها الصديق .. ما أن يمسك بها و يقلبها، حتى يفاجأ بإطلالة رأسُ أفعى و صوت.
مكثت هذه اللعبة عاطلة على سطح الخزّان. وقد أُهملت بعد أن بهت كل شيء.وغياب القريب ، الذي كان يتأملها ليستذكر العزيز.
قدماها تخطوان ، كأنهما ممعنتان.. أن لا تزعجا الصمت ، الذي قد استسلمت إليه، بعد طول مقاومةٍ . فكان حالُها .. حالُ اُمها المسجاة الكسيحة.
فاستمرّت بالتباطؤ. و اختصرت على نحو مقصود: أن لا توجع إناءً معدنيا ، ولا حتى جهازا حاكيا.
بدت الأشياء راحلة قبل رحيلها . مكث لائذا.. ذلك الصوت الفيروزي: ( بكتب إسمك يا حبيبي ع الحور العتيق..تكتب إسمي يا حبيبي ع رمل الطريق. بكرة بتشتي الدني ع العصف المجرّحة.. يبقى إسمك يا حبيبي .. و اسمي بينمحا ).
عنيت عناية فائقة بأن تطويه، بكل حرص،وتخفيه تحت جدران الصمت . و تُشغل.. من فوقه، مشكاة ، يستقر داخلَها مشطٌ ، مهداة من قريبهما. و نصف مرآة في ممازحة ، مع قريبه.. أرخى الزوج أصابعه فتحطّم نصفها.
أبقتها الزوجة ، قناعة منها ، أنها كافية ، لكونه : لا يوجد الوجه الذي يطل إلى جانب وجهها. حبّذت هي : أن يتعفّر النصف ، لكي لا يبدو واضحا، ملامح تجهمها و اكتئآبها.
تتناول المشط، و نصف المرآة ، وتطل بحذر شديد ، لكي تحصل على أقلِّ ما يمكن من الإضاءة. و تظل تنسل بشعرها، محدّقة بشرودٍ،لشجرة السدر، المطلّة على الحياة، بوجه نصف ميّت، بعد أن كانت وارفة الظلال، مضيافة. عزفت : أن تثمر من سنين.شح عطاؤها ، منذ أن كان زوجها و قريبهما يطوحان بجذعها، فيجنيان ثمارها ، وهي تأكل بانشراح.
يروق لها: أن تسرح مع المشط ، المتسلل برتابة .. بكل جهات جدائلها المحررة. لكأنه يطرد متاهات و أحلام الليل .
كأن الرأس قد فاض، و نضح مع ما تراقص من ذكريات و توقعات . ليس لجدائلها .. راحة أو تحرر: إلاّ لهذا المشط، الذي بات أنيسا، و مواسيا ، و متفسحا، جنبا إلى جنب مع تلك الأنامل المتعبة ، و تلك الحرائر ، و التي آل بعض شعرها .. أن يميل إلى السقوط.، من تعب قد اشتكى منه الفكر.
هي ترقب ذلك . فالمحصّلة: قبضة ..هي هينة، لو كانت وحدها. طوتها الأنامل ، دائبة أن تجمعه و تدسه في كيس، بدا الكيس متضايقا بما تجمع فيه، طيلة سني العزلة.
تُوسّع من انحسار الستارة، كأنّها حيّية ، وتسفر عن فناء رمادي، أوحت ملامحُه : عن حياة خابية، منذ أعوام. سوى السدرة اليتيمة ، التي.. كان يفترض: أن تضفي على وجهها مسحةً مواسية ، توشحت هي أيضاً بنهارٍ رصاصيٍ متبلدٍ. ونبا جزءٌ منها متسامقا .. متعرّيا، مشرئبّا ، بإتجاه فناء الشارع، كأنها مواضبٌة على الانتظار ، ليلا ونهارا . فيتعثّر خيال الشجرة، كابياً ومنعكساً، على غدقٍ من نقيعٍ مطريٍ طامٍ.
انداح الظلُ من خلف جسد ثاوٍ، قد انحسر و تضاءل بشكل ملفت للانتباه. بدا أمام حدقتيها:حال تلك الشجرة ، تفقد أوراقها باستمرار . وقد لاح ذلك الجزء الناضب ، موحيا بانكساف ، معمّقا لونَه الداكن: هميٌ مطريُ متواصل.
كانت أنيستُها حمامة دائحةً ، تبث لواعجَها. قابعةً بوحدانية. تستدير برأسها القلق.و تظل تجتر صوتَها، عبر عنقها المطوّق، و الذي ينبر بتردداتٍ متواصلة، أو متقطعة، فتفهم الثاوية: أنها فعلا تبحث عن أنيس، فترهف السمع، إلى الصوت ذو النبرة البحّاء، وتفهم: أنها الكلماتُ نفسها. نداء البحث عن الصنو.فتردد معها ذلك النداء ، بصوتٌ حزينٌ يناغمها ، لم يحظ في أحد الأيام ، بلهجة بهيجة.
مرّات .. بل مرّاتٌ عديدة..وعلى مرّ الأعوام لايمكثن طويلا.. حتى مجيء القرين فترفّ بجناحيها ، كأنها تصفق فرحا. ولا يمكث .. سوى ذلك الفراغ الجاثم، الذي يذكرها دائما : إن شيئا قد اٌفتقد. وإنه ليس سوى لكم لجراحها.
يتواصل همي المطر رتيبا كأن مشطاً ساواه، و تركه متشابها في هطوله.كأنه يَنْسلُ هموما رماديةً. لا توجع الأرض فحسب ، بل تزيدها غدقاً و صليلاً.
كأن أوراق السدرة المتبقية، قد التصقت محتمية بالأخريات
كأن المفردات تحن إلى الازدواج.كأن السماء.. ميّالةٌ .. أن تجعل للأشباه صنوا تتكئ عليه. فالاتكاء ضروري.. في أيام هطولة كهذه..الموحلة الباردة.
في تلك الأيام البهيجة.. تنحسر الستارة ، بأنامل نشطة و تدفع بها جانبا إلى الزاوية.فتلوح أزهار الأقحوان و القرنفل ، وشقائق النعمان ،و شجرة السدر الوارفة ، و المنعكس ذلك كلّه ، على زجاج النافذة. و التي تعكس كل هذه الأشياء المبهجة على المرآة المتكئة على الأريكة.فتترك إحساسا: بأن البيت حديقة مدوّرة. والحاكي يرسل ألحانه الراقصة ، وتلك الأغنية الرافلة ، بالعتب و الشوق ( حبيبي آ………ل اُذكريني.. لما بيجي الطير .. ويعشعش الطير .. بالشجرة الحزيـن………..ـه).
يغوص المشط بليل الجدائل. وصقيع الوحدة يجثم على الركبتين. والأطراف. و الفم..لم ينبس ببنت شفة. و النشاط حكر على الذهن . و المرآة خلا إطارها من النصف الآخر. فلا اتّكاء على أريكة ، لكي تعكس بهجة الفناء.. ولا بهاءٌ بهيج. فقد أسهمت قبل هذا ، بانعكاس حي، متألّق للحديقة، لتطرد على نحو متواصل، ذلك الشحوب الصباحي. و كأن الشحوبَ – آنذاك – له ما يبرره لقضاء صباحاتٍ هادئةٍ، بعد ليلٍ مكتظٍ باللهو و الممازحة.
كانت تعشق كل ما يصنعه الزوج. تعبد إبداعاته . و مفاجآته التي لا تخطر ببال.
كم حلّ من أذى لهذه الأعوام؟ كم دفعت من ثمن لها؟ دون أن تجازف بتفريطِ ، ولو جزء ضئيلٍ منها. كم فقدت من لونها المتألّق.. حتى استحالت إلى هذا اللون الرمادي؟
بقي المشط يسرح : مواساة لتلك الأصابع.. التي بدا عليها: ذلك الارتعاش الخفيف. تلك البرودة المؤذية لأطرافها. حتى لون الملابس بهت ، و المواعيد كذبت. حتى قريبهما العزيز، أجفلت ذكراه. و كذبت مواعيدُه .
إلى متى .. هذا الصقيع الذي ينخر العظام؟؟؟
وما زالت خصل الشعر تسقط و تفترق. وما زالت الثاوية تحدق بالشجرة .كأنها .. تطل عبرها إلى الفناء . وإلى تلك الحمامة الدائحة التي حطّت وسط الهطول و رأسها يستدير ، بذلك البحث القلق ، مرددة ذلك النداء المتواصل . مرّات يتأنّى ، ومرات يكون ملحاحاً.
كانت الدائحة تبدو: كما لو أنها متوترة الأعصاب. و كان صوتها يهز كل كيانها الصغير. وكان يبدو..أكبر و أكبر من ذلك الجسد.
تبدو أحيانا تنسل ريشها بمنقارها. وتنتفض، ثم تواصل ذلك النداء، الذي يرهقها أحيانا.فيبدو سحيقا و أليما.
تصالب الجسد الثاوي فوق المقعد منصرفا بكامله ، إلى ذلك الإصرار ، وقد استمر دون انقطاع، حتى ليبدو : إن الصبر قد نفذ.وإن الثاوية تتطلّع ، ولو.. إلى طرقة يتيمة على الباب.لكن ذلك .. بات وكأنه بعيد. فمن الذي سيجيء؟…
كان المشط قد تواءمت حركته مع نداء الدائحة. وتوقف، حتى فوجئ بطير آخر يحط إلى جانبها، فيتهامسان و يحلّقان.
الى متى تتطلّع الثاوية ، بهذا الهمي المتواصل؟
نظرت الى المشط، وانتزعت خصلات الشعر، الملتفّة بين الأسنان. كانت.. ثمة واحدة بيضاء. فوجئت لأنها لم تر.. رغم المحاكاة مع المرآة في كل يوم، لم تر.. مثل هذه الصهباء الكريهة . التي بدت من طولها : إنها ليست بنت اليوم.. وإن المشط و المرآة غادران.
من أية جهة كانت؟َ من الواضح أنها لم تكن من الخصل الأمامية. فلو كان هذا حاصلا.. لكانت أقل طولا بكثير. رغم إن ذلك .. لا يشفع لهفوة نصف المرآة.
جاءت بقطعة قطنية، ومسحت بقايا المرآة، لكي تتأكد..من خلو الجهة الأمامية. ربما.. كان لتحطمها سبب. فلو كانت بحالة سليمة وصافية، لما خفا عليها خاف.
وانبهرت أمام عينيها ،تلك العتمة، التي حوّطت العينين، والغضون المبكرة.كما لاحظت:إنها أهملت نفسها كثيرا. وفي خلدها ثبت إصرار: بأنها آيلة الى حالة أمها.
إلى متى ذلك الصقيع بالأطراف؟ إنها تُسرق ببطء. و تُغلب دون مقاومة.
رفعت قامتها و ابتعدت، دون أن تجمع ، ما كان عالقا بالمشط. حملت نصف المرآة ، بيد مرتعشة .. فهوت من يدها متحطمة. و استلب اهتمامها ، ما فوجئت به ، من نقرات على الباب الخارجي و صوت مهطول، يستنجد بالدفء.
موسى غافل
Discussion about this post