أدوات استفهام
– قصة قصيرة –
فوز حمزة
لولا أنه قابَلها صدفةً عند باب المدرسة، لمر هذا اليوم كغيره من الأيام.
رؤيتها ملأت الجو بعطر أتٍ من أزمنة سحيقة، ثلاثون عامًا من الغياب غرست أظفارها عميقًا في بشرتها ،غطتْ شعرها بشال حريري أسود، لعل شعرها الآن أصبح رماديًا مثل شعره، البريق المنبعث من عينيها عندما التقتْ نظراتهما، أخبره أنها ما زالتْ تتذكره. شعر كأنه مسافر عثر أخيرًا على السلام في الحياة.
لأول مرة يفهم أنَّ في الصمت فكرًا و معنى .
لقاؤها ثانيةً أعاد لجمرة الحب المختبئة داخل قلبه الأوكسجين فسرى في دمه دفء لذيذ غير ألوان الأشياء وأعاد تشكيل صورها من جديد.
استدار نحوها حابسًا أنفاسه.
اختفاؤها داخل سيارة كانت بانتظارها، ملأت صدره بالتنهدات وعينيه باليأس.
عبر النافذة تطلعت إليه ونظراتها تسأله:
لماذا فعلت ذلك؟
دخل إلى قاعة الدرس، وزع نسخ الأسئلة الورقية على الطلاب من دون إبداء أيّة ملاحظة على غير عادته.
رغبةٌ عميقةٌ في محادثتها ولدتْ لديه.
تذكر جلوسهما الأخير عند النهر، عشاؤهم البسيط مع عبوة بيرة كبيرة، تبادلا أطراف الحديث وهو يداعب تنورتها ذات اللون الأصفر الليموني، تحسس ركبتيها المكتنزتين، ضحكوا لأفكارهم السيئة، شكتْ له من التعب، شكى لها من الوحدة.
في اليوم التالي، بدلاً من الذهاب للموعد، وقف أمام المرآة يفكر، لو توجهت إلى هناك قد لا أعود أبداً، ستحملني إلى البيت والعائلة وأنا مهووس بملاحقة القطارات، إحساس مثير ونادر للغاية الانطلاق نحو الأفق لتكون بين أغنية وشروق، فتنتظرك مزيدًا من النجوم عند الغروب.
لقد تخطى قطاره محطتها .. تركها للشمس المتعبة تلج عينيها.
ما زال يذكر نبرة الحزن في صوتها وهي تسأله عبر الهاتف في آخر مكالمة بينهما:
لماذا لم تأتِ؟!
أراد أخبارها بتغيير وجهته، أغلق الهاتف بسرعة، شعر بصوتها كأسلاك شائكة تقف بينه وبين أفكاره، منذُ تلك اللحظة والدمع الغزير يهطل في قلبه، لم تكن المرأة الوحيدة في حياته، لكنها كانت كالمطر المتساقط على يباب وقت الظهيرة.
تزوج بعد سنوات طويلة من امرأة غيرها، الخطوة كانت تشبه محاولة الطيران بدون أجنحة.
غيابها ترك أشياءه مبعثرة، ويداه تفوحان بالبرد.
أغمض عينيه معتصرًا كفيه مع بعضهما وهو يردد مع نفسه: ماذا لو ذهبت في الموعد و قلت لها أريدكِ زوجة لي، وليكن أبناؤنا يشبهونكِ؟
ماذا لو أنني رفعت سماعة الهاتف وقلت لها: أنا قادم، انتظريني.
أيعود الزمن بيّ فأخبرها أني عشقتها دون رحمة، ماذا سيحدث لو يمد القدر يده ويرفع عن ظهري حزمة الذكريات المؤلمة لأتمكن بعدها من الاستمتاع بمنظر السماء؟
متى يمنحني الليل فرصة الحلم ثانية؟
صوت طالب قطع حبل الصمت ليسأله:
– هل نجيب على جميع الاسئلة يا أستاذ؟
صوت تلميذ آخر لم يرَ صاحبه سأله:
– سنترك سؤالًا واحداً دون إجابة، كما عودتنا، أليس كذلك؟
حدق في الفراغ يسأل نفسه: أيجوز لنا ترك بعض الأسئلة معلقة في الهواء؟
بصوت هادىء كأنه قادم من عالم آخر ردَّ:
– ليس من الصعب الإجابة على كل الاسئلة، بل الصعب لجم الرغبة في الإجابة، التفتْ نحوهم وبصوت حازم قال:
– أجيبوا على كل الاسئلة قبل فوات الآوان.
Discussion about this post