خيط رفيع قصة قصيرة بقلم فوز حمزة

خيط رفيع
– قصة قصيرة –
على مقربة من نهر مدينتي الذي أعشق السير حافية القدمين على ضفافه، وبينما أنا منشغلة بصوت جريان مياهه، تعثرت بشيء، إنها امرأة. دنوت منها حتى كدت التصق بها.
إنها المرة الأولى التي أشاهد فيها جثة إنسان. ألقيت بجسدي قريبًا منها. قلت لنفسي وأنا أحاول العثور على بقايا حياة فيها: يا ترى ما الذي كانت تفكر فيه هذه المرأة قبل أن تموت ؟ كيف للموت أن يكون قاسيًا هكذا؟!
في تلك اللحظة شعرت بالرغبة في الفرار من العالم، من ذاتي العتيقة التي منذ زمن سحيق باتت مسكنًا للألم، والتي بعدها ستركن إلى الموت. ماذا لو أجرب الهرب منها لأصبح ذاتًا أخرى؟ ماذا لو أتحرر منها باتجاه السماء لعلي هناك أعثر على المعنى؟!
جال في بالي هاجس كبير وجدت نفسي أنساق خلفه، سأمنح روحي لهذه المرأة، سأنهي رحلة السفر الطويل الذي لم ألاقي منه سوى الظمأ.
أغمضت عينيّ لأشعر بروحي تتسرب من بين أصابعي لتنفذ ببطء داخل جسدها، خيط رفيع كأنه ممر للضياء ربط بيني وبينها. جسدي الذي أرهقني عناده. الآن لا أثر فيه لأي شيء سوى الحقيقة المتفجرة منه كما الماء حينما يتفجر من نبع ساعة السحر. استسلامه جعلني ابتسم من الداخل وأتساءل: هل حقًا أن جسدي هو مصدر عذاباتي؟ كأني أولد من جديد، لكن هذه المرة ولادة إلى الداخل!
***
عند الفجر، استيقظت المرأة لتجد نفسها تزحف ببطء ثم تطيرعاليًا. النسائم الملامسة للنهر أنعشت روحها فبدأت تحدث النهر:
كأني أراكَ لأول مرة، أمواجكَ لم تأتني بهذا الصفاء من قبل، أشعر بها متلهفة للقائي وكأنها كانت في انتظاري. الزوارق وهي تشق الماء متأرجحة أشعرتني بسكون أعماقكَ وأنت تحاول التخفيف من قلق الضفاف وخوفها.
بدأت تحدث نفسها المنشتية بما حولها: شيء غريب يحصل لي، بدأت الآن في إدراك ذاتي.
وهي تنظر إلى لون السماء الزرقاء والشجيرات الداكنة الخضرة والشمس الذهبية التي نشرت أشعتها لتترك ظلالًا سوداء على ما يقع تحتها، قالت بغرابة بينما جسدها يهبط: ما الحكمة من كل هذه الألوان؟! ما هذا السحر الذي يحيطني والتي بدأت خيوطه تلفني وتحكم وثاقها عليّ لتلقي بيّ عند أبواب البهاء ونوافذ الجمال؟!
بدأت استمع لغناء كل ما حولي أنا التي لم تعرف من قبل فن الإصغاء!
بينما كانت الأفكار تتلاعب في رأسها قالت:
ليلة البارحة كانت أسوأ ليلة تمر عليّ، الغريب أني اتذكر الألم لكن فقدت الشعور به!
اعترتها رجفة داخلية وهي تستمع لصوت من أعماقها يطلب منها التوقف، شعرت بالخواطر تنساب إليها، من أعماق النهر ومن جذور الشجر، حتى التلال التي تظهر قممها من بعيد كانت تفهم حديثها.
لم تعد مضطربة كما السابق.
بينما النهار يذوب من حولها والشمس تحترق في كرامة ناشرة ثوبها الأرجواني على النهر الشاحب، أحست بحب الوجود ينفذ إلى عينيها ليسير مع دمها ثم يستقر في أعمق نقطة في فؤادها الذي لم يعد يفرق في حبه بين مخلوق وآخر.
روحها المستيقظة ربطت بينها وبين كل ما حولها، لم تعد تتذكر أحلامها منذ أن ارتفعت بجناحيها الجديدين أعلى من ذي قبل فبدا لها العالم متكاملًا غير قابل للفناء.
كانت مستغربة من نفسها قبل أن تلتفت صوب صخرة تحتها جثة امرأة بلل النهر ثيابها. وقفت على مقربة منها محدقة في وجهها قبل أن ترفع رأسها قائلة:
– سأحلق صاعدة نحو الأفق.
حلقت عاليًا وهي تنظر صوب الجثة التي حملتها أمواج النهر دون ان تترك لها أي أثر على الضفاف .