رحيل …….. ل عمار عباس
كانت ليلة كئيبة تلك التي عشتها بعد نقل والدتي الى المستشفى لوعكة ألمت بها , ولطالما كانت تراودها وخاصة خلال السنوات القليلة المنصرمة , لكنها تعوّدت دائماً أن تتخطى بأقدامها الجراح وآلام الداء الذي أخذ ينهش صحتها بغير رحمة .
منذ كنت صغيراً إستحوذت على تفكيري طبيعة أمي فهي كانت دنيا واسعة من العطاء وقلباً يفيض حناناً غمر الجميع , فعتبة دارنا كانت ولا تزال شاهد حق لها فكلما طرق بابنا أحد المحتاجين , إلاّ وتراها مستعدة أن تعطيه أي شيء حتى ألعابي البسيطة أو ملابسي الصغيرة .
وفي كل مرة يفيض فيها عطاء أمي حتى يصل الى مقتنياتي وألعابي التي طالما تهب جزء منها لأطفال محتاجين أو فقراء كانت أمهاتهم تصطحبهم معهن .
لذا كانت تستنفر في داخلي الأحاسيس وتستفزني المشاهد حتى أسأل نفسي هل أنّ أمي لاتحبني وتفضل هذا الطفل الغريب عليَّ لتعطيه ألعابي أو ملابسي ….؟
ولكن سؤالي هذا سرعان مايتلاشى أمام حقيقة أمي ومساحة نبض قلبها الذي إحتضن سماوات بعيدة من العواطف الصادقة .
قلبي الصغير لم يكن أبداً مثل قلب أمي , لذا لم أستطع التمييز الأكيد بين تصرفاتها في ذلك العطاء المادي المتمثل بمساعدة الآخرين , والمعنوي الذي يغمرنا نحن أولادها بحنانها ومحبتها .
وفي تلك الليلة التي تحوّلت الى كوابيس وليلٍ داجٍ مؤلم من التفكير المتعدد الإحتمالات رفعنا قلوبنا جميعاً بالدعاء للواحد الأحد .
أيامٌ مرّت وهي تحتضن سرير المرض هذا والذي لم يكن الوحيد من بين أسرّة تلك الردهة العابقة بآلام المرض وتهدجات شجونه , كلما جئت لهذا المستشفى لترتطم نظراتي بوجهها الباسم مودة ورحمة , أطمئن لأنها تتكلم فأحمد الله .
وفي يومٍ ثقيلٍ كنت لديها لم تكلمني كالمعتاد , أنصتُ بكل إهتمامٍ لها , سمعتها منشغلة بالدعاء لمريضةٍ كانت تتألم بجنب سريرها , عندها علمتُ جيداً كم كانت أمي عظيمة حتى وهي تودع آخر اللحظات قبل الرحيل .
Discussion about this post