مختارات ..
=-=-=-=-=-=
ديك الجن الحمصي ..
د.علي أحمد جديد
ديك الجن الحمصي (777م – 849م) هو أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن يزيد بن تميم الكلبي الحمصي ، واحد أشهر شعراء العصر العباسي ، ويُقال أن سبب إطلاق اسم “ديك الجن” عليه كان بسبب لون عينيه الخضراوين . ويقال أيضاً إنّ تسميته بهذا الاسم يعزو إلى قصيدة رثاء كتبها في (ديك عمير) بعد أن تم ذبحه .
وُلد ديك الجن وتُوفّي في مدينة (حمص) الواقعة في منتصف سوريا الحالية ، ويرجع أصله إلى مدينة تُدعى (السلمية) بالقرب من حماة ، ولم يفارق “ديك الجن” بلاد الشام ، وعلى الرغم من ذلك فقد فُتِنَ أهل العراق بجمال شعره ، ولا يُعرَف لماذا كان يخشى أن يقارع فحول الشعراء ، فلامه الشاعر (أبو نواس) حينما مرَّ بالشام على ذلك ، وقال له :
“اخرج فلقد فتنتَ أهل العراق بشِعرك ” .
قضى “ديك الجن الحمصي” معظم حياته في مدينة (حمص) التي وُلد وتربّى فيها ، وعاش حياةً حافلة بالأحداث ، وعلى الرغم من أنه عاش طفولة عادية مثل غيره من الأطفال ، حيث لا يذكر التاريخ الكثير عنها ، إلا أنه يمكن القول بأنّه درس على يد المعلمين والعلماء في المساجد نظراً لكمّ المعرفة والعلوم الذي كان لديه . أمّا فترة شبابه فقد قضاها في اللهو والركض وراء الملذات وقول الشعر .
انقسم الشعر عند “ديك الجن” إلى قسمين :
١ – شعر ماجن يذكر فيه الخمر والنساء .
٢ – شعر الحكمة والغزل العفيف في زوجته (ورد) وفي المدح والرثاء في (آل البيت) . أما حياته في فترة شيخوخته فهي لا تختلف كثيراً عن حياته في شبابه ، ولكن زاد عليها حزنه وتأثره بعد أن قتل زوجته (ورد) نتيجة مكيدة حاكها له ابن عمه . تشكّلت شخصية “ديك الجن الحمصي” نتاج عدد من العوامل الذاتية والموضوعية ، كالنشأة التي نشأها ، وطبيعة علاقته بأسرته وقبيلته ، والبيئة التي عاش فيها ، وتتمثل ملامح شخصية “ديك الجن الحمصي” في شعوره بالفخر بقبيلته التي كان واحداً منها والتي هي “قبيلة كلب” ولم يكن ذلك الشعور بسبب تعصّب قبلي ، وإنما بسبب نصرة (قبيلة كلب) للإسلام . وكذلك شعوره بالفخر بنسبه غير العربي حيث يرجع أصله إلى جذور فارسية ، وهذا الفخر زرعته فيه عائلته التي نشأ وتربى فيها . وكان ميله للخوف من الزمن وتقلباته وعدم ثقته فيه بل وعدم ثقته في نفسه وفي مظهره . أما المجون فعلى الرغم من وقوف قبيلة “ديك الجن الحمصي” لنصرة الإسلام ، إلا أنه كان ذا شخصية ماجنة ولم تعرف إلا اللهو . حيث كان “ديك الجن” شخصية متناقضة إلى حد ما ، فكان يعاني من تنافرٍ معرفي سببه توتره الداخلي من التشتت بين مجموعة من الأفكار . وكان “ديك الجن” ماهراً وعالِماً ضليعاً باللغة وبالأدب ، وقد أُعجب بشعر الصعاليك الرافضين المتمردين في الجاهلية . وكان ينظر إلى نفسه نظرة الجاني ويرى أنه ضحية نفسه ، وأنه السبب في تعاسته . كما كان التخوف الدائم من المواجهة واللجوء إلى الفرار طاغياً في سلوكه ، والسبب في ذلك هو تعرّضُه الدائم للانتقاد ممن حوله بسبب سوء تصرفاته وأفعاله . ويظهر التلوّن في تباين تصرفاته وتعامله مع كل طبقة من الناس حسب ما يناسبها . فنجد أنّ معاملته مع طبقة الأمراء والحكام تختلف عن معاملته مع شعراء عصره ، أوتعامله مع زملائه وأصحابه . وكان “ديك الجن” ذا طبيعة مسيطرة و لايقبل الانقياد أوالامتثال ، ولا يعرف للخضوع طريقاً لأنه كان يرى في نفسه بأنه الوحيد الذي يستحق أن يملك زمام أموره وحياته . وقد اتّسمت شخصية “ديك الجن” بالمراوغة وباللامبالاة قولاً وفعلاً ، فلم يكن ينظر للأخلاق نظرة احترام او التزام ولم يكن يعنيه الضمير . وكان يميل “ديك الجن” بطبعه إلى الاكتئاب والحزن وإلى المعاناة من القلق والتوتر . كما كان أسيرَ الشك بكل مَن حوله وتساوره الغيرة المرَضية التي ربما بسببها مالَ لشرب الخمر .
كان لديك الجن جارية مسيحية تُدعى (ورد)، فلمّا أحبّها دعاها ليتزوجها ، فوافقت وتزوجها .
ولما ضاق حاله رحل إلى (السلمية) قاصداً (أحمد بن علي الهاشمي) ومكث عنده لفترة طويلة ، وأثناء إقامته في (السلمية) انتشرت إشاعة تقول إنّ زوجته (ورد) في حمص على علاقة بغلام تهواه وتتخذه عشيقاً في غياب زوجها ، وكان ابن عمه هو مَن نشر هذه الإشاعة الكاذبة انتقاماً من “ديك الجن” لأنه تزوج من مسيحية وكان يهجوه في قصائده . وعندما رجع “ديك الجن” سمع بالشائعات ، فعاد إلى زوجته وسألها عن الأمر فأنكرت علمها بأي شيء ، حتى جاء غلام أرسله ابن عمه للذهاب إلى بيت (ورد) ومناداتها باسمها على الباب ، ولما سمعه “ديك الجن” يناديها باسمها نعت زوجته بأبشع الصفات ، وأستلَّ سيفه وقتلها .
بعد ذلك خرج “ديك الجن الحمصي” إلى دمشق ، فطلبه أمير دمشق ليحاسبه على جنايته وليخبره بحقيقة الأمر كاملًا ، ولما عرف حقيقة فعلة ابن عمه ندم ندماً شديداً وظل يبكي شهراً كاملاً او أكثر ، وكان لا يأكل من الطعام إلا ما يبقيه حياً ، وعلى هذا اشتهر “ديك الجن” بالغيرة القاتلة و المذمومة التي أدّت مقتل محبوبته لسوء ظنه بها ، ويُقال إنّ “ديك الجن” جلس عند رأس (ورد) يبكيها بعد قتلها وهو ينشد فيها أبيات قصيدته الشهيرة :
يا طَلْعَةً طَلَعَ الحِمَامُ عَلَيها وجَنَى لَها ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْها رَوّيْتُ مِنْ دَمِها الثّرى ولَطَالَما
رَوَّى الهَوَى شَفَتَيَّ مِنْ شَفَتيْها
وأجلت سَيْفي في مَجَالِ خناقها ومَدَامِعِي تَجْرِي على خَدَّيْها
فَوَحَقِّ نَعْلَيْها فما وطئ الحَصَى
شَيءٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَعْلَيْها ما كانَ قَتْليِها لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أبكي إذا سَقَطَ الغبار عَلَيْها لكنْ بَخُلَتْ على سواي بِحُسْنِها
وأَنِفْتُ مِنْ نَظَرِ الغلام إِليها
كان “ديك الجن” على علاقة بعدد كبير من شعراء عصره ولكنه لم يكن يسعى للقاء أحدهم ، بل كانوا يأتون إليه في حمص للقائه . وتميّز “ديك الجن” بأسلوبه الشعري المتينِ البناء والسبك مع رقة المعاني ودقة النسج وصدق الصورة والجزالة في الألفاظ .. وفي شعره الولائي . وترك أدبه تأثيراً في محيط مجتمعه .
وبالنظر إليه من نافذة التاريخ وما رسمه المؤرخون من صورة له وما شكّلَهُ شِعرُه من التأثير في زمنه نقرأ ماكتبوه عنه :
* قال (ابن رشيق القيرواني) :
“ديك الجن الحمصي) من المعدودين في إجادة الرثاء ، وهو أشهر فيه من أبي تمام ، وله فيه طريق انفرد بها ، وقد قصده الشاعر (دعبل الخزاعي) بما له من مكانة كبيرة في الشعر إلى بلده ونعته بأنه (أشعر الجن والانس) !!
* وقصده أيضاً (أبو نواس) من العراق ليقول له :
(فَتنتَ أهل العراق بشعرك) !
* وقال عنه (أبو الفرج الأصفهاني) :
(كان شاعراً مُجيداً على مذهب أبي تمام والشاميين) .
* وعَدَّه (ابن شهر آشوب) في شعراء أهل البيت – عليهم السلام – حين قال عنه :
(شاعر الدنيا وصاحب الشهرة بالأدب . فاق شعراء عصره وطار ذكره وشعره في الأمصار حتى صاروا يبذلون الأموال للقطعة من شعره … افتتن الناس بشعره في العراق وهو في الشام حتى أنه أعطى أبا تمام قطعة من شعره ، وقال له يا فتى اكتسب بهذا واستعن به على قولك ، فنفعه في العلم والمعاش) .
* وقال عنه (ابن خلكان) :
(هو من أهل سلمية . كان متعففّاً عن قصد الملوك ، ومتفرّداً عن شعراء عصره ، حتى إنه لم يفارق الشام مع أن خلفاء بني العباس في عصره في بغداد ، فلا رحل إلى العراق ولا إلى غيره متنفعاً بشعره ، وله مراثٍ في الحسين (عليه السلام) .
* وقال عنه(السيدالأمين) :
(يُعدُّ الشاعر ديك الجن في طليعة شعراء القرن الثالث الهجري ومن أبرزهم في الرثاء ، ولم يُجارِه في مدح آل البيت ورثائهم إلا السيد الحميري . وشعره يقوم دليلاً قوياً على أنه شاعر مطبوع ترتاح له النفس وتتذوقه الأسماع والقلوب ، وولاؤه لأهل البيت ظاهر على شعره) .
Discussion about this post