مختارات ..
=-=-=-=-=-=
د.علي أحمد جديد
بين الغريزة و الفطرة ..
* – الغريزة ..
(الغريزة) هي التصرّف التلقائي للكائنات الحية تجاه نمطٍ معيّن من السلوكيات لتمييز الأنواع ، وغالباً ما تكون (الغريزة) عبارة عن ردة الفعل على محفزات بيئية معينة . وتملك كل أنواع المخلوقات من الحيوانات والحشرات والزواحف مميزات وأنماط استجابة أو تفاعل موروثة بشكل عام ، وهي ماتستخدمه في بيئات مختلفة من دون وجود تعليمات رسمية ، أو تعلم من تجارب سابقة ، أو أي تأثيرات بيئية كانت بدافع حاجتها للبقاء . فالسلاحف البحرية مثلاً والتي تفقس على رمال الشواطئ تهرع تلقائياً نحو المحيط ، كما يتواصل نحل العسل عن طريق الرقص في اتجاه مصادر الغذاء ، وهذه أمثلة عن الغرائز الحيوانية التي تحدث بتلقائية من دون تعليمات ولا تجارب سابقة .
وتُعتبر (الغريزة) ميلاً تلقائياً واساسياً للتصرف سبّبته المنبهات الخارجية ، وإذا غلب عليها عامل الذكاء ، فيُعتبر الكائن مبدعاً وأكثر تلقائية و تنوعاً . والسلوكيات الحيوانية التي لا تستند إلى تجربة سابقة كالتكاثر والتغذية بين الحشرات ، وكذلك القتال بين الحيوانات ، والمغازلة بينها ، والهروب عند الإحساس بالخطر ، وبناء الأعشاش لدى الطيور . سلوكيات تُظهر (الغريزة) عند طيف واسع من الحياة الحيوانية في صراعات البقاء ، وصولاً إلى البكتيريا التي تدفع نفسها نحو المواد المفيدة بعيداً عن المواد الطاردة (المضادات) .
وليس هناك إجماع وجود تعريف دقيق حول (الغريزة) والسلوكيات البشرية التي يمكن اعتبارها غريزيةً بحدِّ ذاتها ، إذْ تزعم بعض التعريفات المحددة بأن السلوك الغريزي يجب أن يكون تلقائياً ولا يمكن مقاومته ، وتسبّبه المُحفّزات البيئية ، وهو مايحدث عند جميع أفراد النوع ، ويكون غير قابل للتعديل ، دون الحاجة إلى أي تدريب مسبق . وأنه لا وجود لسلوك بشري غريزي . ويعتبر بعض علماء الاجتماع أن (الغريزة) هي سلوكيات احتياجية تلقائية موجودة في أي نوع من أنواع المخلوقات الموجودة على هذا الكوكب ولا يمكن التغلب عليها ، ولكن الحاجة للجنس أوالجوع هي سلوكيات يمكن التغلب عليها .
وإن هذا التعريف الخاطئ سيؤدي إلى وجهة النظر التي تقول بأن البشر ليست لديهم (الغريزة) .
ويعتبر آخرون أن بعض السلوكيات البشرية هي من دافع (الغريزة) ، مثل المنعكسات التلقائية عند الأطفال (كالمباعدة بين أصابع القدم عند ملامسة أخمص القدم)، لأن ذلك لم يتم تعلمه من تجربة سابقة ، وكذلك بعض السمات الأخرى مثل الإيثار وردات الفعل السريعة (fight or flight response) ، ولا يزال هذا المفهوم موضع جدل كبير حتى اليوم .
ومن المنظور (الديني) ، تُعزى بعض الغرائز “النفسية” عند البشر ، مثل الإيثار والشعور بالإنصاف إلى ما اعتمدت تسميته باسم “الضمير” أو إلى (العقل) ، إذ اعتُبرت تلك المشاعر والميول كجوانب تلقائية للطبيعة الروحانية البشرية ، بدل اعتبارها كظواهر فيزيائية بحتة . وقد تتضمن المفاهيم الدينية أو الفلسفية بأن (الغرايزة) معترف بها كجزء من “العقل المادي” لدى كل المخلوقات من حيوان أو بشر ، بدلاً من “الجسد المادي” (جزء من الحمض النووي) . وكان من المثير للجدل ما إذا كانت الكائنات الحية مُلزَمة بطبيعة (الغريزة) . وعلى الرغم من أن (الغريزة) غير مكتسبة بشكل طبيعي أو ربما مع الوراثة ، إلا أن التكيّف العام والبيئة المحيطة بالكائنات الحيّة تلعب الدور الرئيسي في وجودها . وتُعتبر (الغريزة) لا تحتاج للذكاء ، بينما يكون (الحدس) فكرياً ويعتمد على التجربة و الذكاء والفطنة .
تُوَرِّثُ الغرائز الاستجابة السلوكية غير المكتسبة السلوك الغريزي بأنماط استجابةٍ لتعليمات طبيعية وبعيدة عن التجارب المسبقة .
فسلوك دحرجة البيضة للإوز مثالاً يمن الاستشهاد به على نطاق واسع لنمط الفعل الثابت ، وهو من المفاهيم الأساسية التي يستخدمها أخصائيو السلوك في شرح سلوك الحيوان .
ويُطلق على أي حدث يُنتِجُ سلوكًا تلقائياً (غريزياً) بالمحفز الرئيسي (Key Stimulus -KS) إذْ تؤدي المحفزات الرئيسية بدورها إلى آليات إطلاق تلقائية (Innate Releasing Mechanisms -IRM)، والتي تُنتج أنماطَ فعلٍ ثابتة (Fixed Action Patterns -FAP) . وأنماط الفعل الثابتة هي سلوكيات نمطية تحدث في تسلسل ثابت يمكن التنبؤ به استجابة لمحفّز بيئي محدَّد . فعند رؤية بيضة بقريبة من العش ، فإن الإوزة ستعيد هذه البيضة إلى العش بمنقارها كسلوك تلقائي وغريزي دون تجربةٍ سابقة لهذا الفعل . إذا سُحبت هذه البيضة ، فإن الإوزة ستواصل هذا السلوك ، وتسحب رأسها للخلف كما لو أنها مازالت تقوم بدحرجة البيضة بواسطة الجانب السفلي من منقارها ، وستحاول تحريك أي شيء آخر له شكل بيضة ، مثل كرة الغولف أو حتى بيضة كبيرة جداً لا تستطيع الإوزة نفسها أن تبيضها .
وقد يكون هناك حاجة إلى أكثر من محفز رئيسي واحد لبدء نمط فعل ثابت -FAP . إذْ تُعتبر خلايا المستقبلات الحسّية مهمة في تحديد النمط للبدء بالفعل الثابت . وكذلك هو استقبال الفيرومونات عبر خلايا المُستقبِلات الحسّية الأنفية الذي يؤدي إلى حدوث الاستجابة الجنسية ، في حين أن استقبال “صوت مخيف” عبر خلايا المستقبلات الحسّية السمعية قد يؤدي إلى حدوث ردّات فعل واستجابة سريعة Fight or Flight response .
وتساعد الشبكات العصبية لهذه الخلايا الحسّية المختلفة على دمج الإشارة في العديد من المستقبلات لتحديد درجة المحفز الرئيسي (KS) وبالتالي إعطاء الاستجابة المناسبة كرَدِّ فعلِ غريزي . ويتم تحديد العديد من هذه الاستجابات بواسطة رسائل كيميائية منظمة بعناية تُسمى بالهرمونات . ويتألف الجهاز الغِدّي المسؤول عن إنتاج الهرمونات ونقلها في جميع أنحاء الجسم من العديد من الغدد الإفرازية التي تُنتِج الهرمونات وتُطلِقها لنقلها إلى الأعضاء المستهدفة وعلى وجه التحديد في الفقاريات يتمُّ التحكّم في هذا النظام العصبي بواسطة الوطاء وحتى الغدة النخامية الأمامية والخلفية .
* – الفِطرة ..
(الفطرة) في الفلسفة تعني أن العقل البشري يولد حاملا معه أساس المعرفة الفطرية والبديهية والتي تتطور مع الخبرة المكتسبة .
وكما أن البشر يختلفون في أفكارهم على حسب البيئة والثقافة التي ينشأون فيها و يشتركون جميعا بالمعرفة الفطرية كما قال الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) :
“إن البشر قد يتفقون على فكرة فطرية واحدة في وجود الخالق الذي هو الله ، وهي البذرة الأولى للإيمان به والتي تصبح فيما بعد دينا يُتَعبَّدُ به” .
أما رواد (الفلسفة التجريبية) فقد أنكروا وجود العلم (الفطري) وذهبوا إلى أن المعرفة عند الإنسان تكون نتاج خبرته الحياتية وليست أمرًا فطرياً ولا عفوياً ، وهذا ما يخالفهم فيه أصحاب (المذهب العقلاني) الذين يقولون :
” هناك أفكارٌ فطرية تولد مع الإنسان ولا تمت للخبرة بصِلَة ” .
وما يزال الجدل قائماً حول أهم المواضيع التي تناقش (الفطرة) وهو موضوع (اللغة) فيما إذا كانت فطرية أم مكتسبة .
وقد ذهب بعض علماء السلوك إلى أن اللغة مكتسبة عن طريق التكيُّف والتقليد والمحاكاة . ومن أشهر الذين ذهبوا إلى أن اللغة مكتسبة (برهاس سكينر) في كتابه
“سلوك الكائن الحي”
الذي نشره عام 1938 وأثار جدلاً واسعاً في حينه ، وكان أهم مَنْ رَدَّ عليه معارضاً لنظريته تلك الأمريكي (نعوم تشومسكي 1928 – مازال الحياة) عالم اللسانيات والفلسفة التحليلية الذي قال في ردّه :
“لو أن الأطفال يكتسبون اللغة عن طريق التكيُّف والتقليد فلماذا ينطقون جملاً من تركيبهم لم يسمعوا بها من قبل ، ولماذا يقول الإنسان العاقل جملاً إبداعية لم يسبقه بها أحد .. مثل الحكم والأدب بأنواعه ؟!” .
وهناك موضوع آخر أخذ نصيبه من الجدل بين الفلاسفة والمفكرين وهو وجود (الأهلية) عند الإنسان واستعداد الإنسان للتكيّف ولتطوير ما لديه من علم فطري ، وهذه الأهلية تتجذر في تركيبته الوراثية وفي قدرته على استقبال المعلومة وتذكّرها وتحليلها وحل معضلاتها .. وكذلك النطق بها وهو ما يسمى بعلم (النفس الإدراكي) .
وفي تراث الأدب العربي قصة
“حي بن يقظان”
(لابن طفيل) التي تُستخدَم للدلالة على أن نشأة الإنسان في بيئة لا يوجد فيها غيره ليتعلم منه ، فإنه بعقله يستطيع أن يكتسب المعرفة التي تؤدي إلى الوصول لمعرفة خالقٍ للوجود . وقد كان (ابن طفيل) قد رأى في هذه التجربة طريقةً للبحث والاكتشاف و للارتقاء بالفكر البشري وبالحكمة الإنسانية ، معتمداً على وجود فكرٍ متحرّرٍ و متجردٍ من مؤثرات الغير يعتمد على الحواس التي يملكها الإنسان بشكل كلّي لاكتساب المعرفة .
كما تُجمِع الدراسات والبحوث الحيادية والمنطقية على أن الإنسان يولد ولديه مقوّمات التعلّم ، وأن قواعد العلم موجودة في بنيته التكوينية لأنها تنبع من (الفطرة) الموجودة في تكوينه الفيزيولوجي وما دور التجربة إلا زيادة هذا العلم وتطويره وصقله لتنقلب كل تجربة إلى معرفة ، وأن فكرة الخالق تولد معه وهي الجزء الاساس من (الفطرة) التي فيه .
Discussion about this post