مختارات ..
=-=-=-=-=-=
أبو الطيب المتنبي ..
د.علي أحمد جديد
هو أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي الكِندي . شاعرٌ عربيٌّ وحكيم شهيرٌ (شاعر الحكمة) ، شخصيته مميزة وواضحة ولا يكتنفها غموض ، وشِعره حَيَّرَ الناس واستعصى عليهم فهم مقاصده ، وهذا مادفع “ابن رشيق” ليُطلق عليه صفة
(مالئ الدنيا وشاغل الناس)
ولم يحظَ شاعر بما حظي به شعر (المتنبي) من الاهتمامِ والعناية ، إذ قام بشرحه أفذاذ اللغة وعلماؤها ، ومنهم عالم النحو الكبير “ابن جنّي”، والشاعر “أبوعلاء المعرّي” ، واللغويّ المعروف “ابن سيّدة” .
ترك (المتنبي) عدداً كبيراً من القصائد والتي تزيد في عددها عن ثلاثمائةٍ وستةٍ وعشرين قصيدةً ، والتي يمكن اعتبارها كسجلٍّ تاريخي لأحداث القرن الرابع الهجريّ الذي عاش فيه ، كما وتعتبر أيضاً بمثابة سيرته الذاتية ، حيث جرت أبياتها بالحكمة على لسانه وتطورت ، ولاسيّما في قصائده الأخيرة التي سبقت موته .
تختَلفُ الأقوال والروايات حول سبب تسميته باسم (المُتنبّي) ، فقد قيل بأنه قد لُقِّبَ بهذا الّلقب لِما قيل عنه من (ادّعاء النبّوة) في شبابه ، و لقيَ عِقاب ادّعائه من والي حمص فسُجِن .
إلّا أنّ هذه الرواية لفقّها خصومه ولا صحّة لها ، لأنها وُضعت بعد زمنٍ من وفاة (المتنبّي) كما يثبت الأديب المصري “أبو فهرٍ محمود محمّد شاكر” ، المتتبع لروايات النبوة كلها .
وقد لُقِّب (المتنبّي) بهذا الّلقب لما وردَ عنه من ورعٍ في خُلقه ، وكان آخذاً نفسه بالجدّ ، ومُنصرفاً للعلم .. مبتعداً عن الفواحش . وقد حظيَ بمنزلةٍ عظيمة عند عُلماء الأدب واللغة والنحو أمثال “الربعي وابن جني وأبي عليٍّ الفارسي” ، وكان مُكثِراً من ذِكر الأنبياء في شعره ، ومُشبِّها نفسه بهم مُقارناً أخلاقَ من يمدحهم بأخلاقهم ومن ذلك قوله عن نفسه :
مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ
كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ
أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّـه
غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ
وقد وردَ عن “أبي علاءٍ المعرّي” قوله عن (المتنبي) في كتابه الشهير (رسالة الغفران) :
” إن (المُتنبّي) قد لُقّب بهذا اللقب نسبة إلى (النَبْوَة) ، والتي تعني “المكانُ المرتفع” إشارةً لرفعة شِعره وعُلوّه لا إشارةً لادّعائه النبوّة” .
كانت حياة المتنبي زاخرة بالمحطات التي صاغت تجربته الشِعرية ومكانته الأدبية ، إذْ وُلد (المتنبي) في الكوفة سنة ثلاث وثلاثمائة هجرية في منطقةٍ اسمها (كِندة) واختلف المؤرخون في نسبه ، فمنهم من نسبه إلى (قبيلة كندة) وهي إحدى أشهر قبائل العرب ، ومنهم من نسبه إلى (حيّ كِندة) في الكوفة الذي هو مكان ولادته وأنكروا نسبه إلى (قبيلة كِندة) .
كما اختلف المؤرخون أيضاً في اسم والده ، فمنهم من قال أنّ اسم المتنبي هو (أحمد بن الحسين بن مرّة بن عبد الجبار الجعفي) ، ومنهم من قال أن اسمه (أحمد بن محمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي) .
وأخبر آخرون غيرهم أن اسمه (أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي) ، وقال البعض أن والده كان شيخاً يسمى عبدان ، وذلك لأن (المتنبي) لم يأتِ على ذكر والده في أشعاره أبداً ، فلم يمدحه ولم يفتخر به ، وكذلك لم يَرْثه حين مات . ولم يستطع المؤرخون معرفة سبب تجاهله لذكر والده في شعره . فهل كان السبب لعدم معرفته له؟ أم أنّ أباه كان رجلاً بسيطاً ولم تكن له قيمةً تُذكر؟!.
أمّا أمّه فلا يُعرف عنها اسمها ولا أصلها ولا من أي البلاد هي ، إلا أنّه من المعروف أنّه بعد موتها كفلته أمها التي هي جدّته ، وعطفت عليه وأحبته حباً كبيراً ، وقامت بتربيته إلى أن اشتد عوده وأصبح رجلاً ، دون معرفة اسمها أيضاً ولا اسم أبيها ، لكنّ بعض الرواة ذكروا أنّها كانت من الكوفة وأنها تُنسب إلى (بني همدان) هناك ، وأنّها كانت امرأةً صالحةً ، كما أنّ (المتنبي) لم يذكر عن نسبها شيئاً في أشعاره ، لكنّه أشار إلى أنّ نسبها كان كريماً في هذا البيت حين رثاها فقال :
لَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ
لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا
التحق المتنبي بكُتَّابٍ كان فيه أبناء أشراف العلويين لتَلقّي علوم اللغة العربية من الشعر ، والنحو ، والبلاغة ، وكان يقضي معظم أوقاته ملازماً للورّاقين كي يقرأ في كتبهم ، وهذا ما أكسبه معظم علومه .
عُرِفَ عن (المتنبي) حبُّه الشديد للعلم والأدب ، كما أنّه تمتع منذ صغره بالذكاءِ وبقوّة الحفظٍ . وقد أخبر أحد الرواة قصةً طريفةً عن قوة حفظه في صباه ، وهي أنّ أحد الوراقين أخبر أنّ أحدهم جاء ليبيع كتاباً يحوي نحو ثلاثين صفحة ،
وكان (المتنبي) عنده حينها ، فأخذ الكتاب من الرجل وصار يقلّب صفحاته ويطيل النظر فيها ، فقال له الرجل :
– يا هذا لقد عطلتني عن بيعه ، فإن كنت تبغي حفظه في هذه الفترة القصيرة فهذا بعيدٌ عليك . فقال له (المتنبي) :
– فإن كنت حفظته فما لي عليك؟.
قال الرجل :
– أعطيكه بلا أي مقابل .
فقال الوراق :
– فامسكت الكتاب أراجع صفحاته والغلام يتلو ما به حتى انتهى إلى آخره ، ثم استلبه فجعله في كُمِّه ومضى لشأنه !!.
أقام (المتنبي) في البادية أكثر من سنتين ، عاشر فيهما الأعراب واكتسب الفصاحةَ وتمكّن من اللغة العربية بشكلٍ كبير .
ومن الجدير بالذكر أنّ (المتنبي) كان كثير الرواية ، جيد النقد . وكان من المكثرين من نقل اللغة والمطّلعين على غريبها وحواشيِِّها ، كما أنّه لم يكتفِ بما حصل عليه من العلم من مصاحبة الأعراب في البادية أومن ملازمة الورّاقين ، ولا ممّا تعلّمه في كتّاب الكوفة ، بل اتصل أيضاً بالعلماء وسافر إليهم وصاحبهم ، وتعلّم منهم االكثير .
ولد (أبو الطيب المتنبي) في مدينة الكوفة العراقية ، ولكنه نشأ وتربّى في سوريا ، وتلقى تعليمه في دمشق .
وفي عام 927 من الهجرة عاد (المتنبي) إلى الكوفة ليستقر فيها وليكرّس وقته وجهده في كتابة الشعر ونظمه ، حيث بدأ كتابة الشعر في سن مبكرة من طفولته.ط . وفي عام 932 ميلادي قاد (المتنبي) ثورة “القرامطة الإسماعيليين” ضد الدولة العباسية في سوريا ، وبسبب طموحاته السياسية سجن لمدة عامين . وبعد خروجه من السجن اتجه للعمل .
فعمل (أبو الطيب المتنبي) بدايةً في مدح الملوك والرعاة من أجل كسب لقمة عيشه ، ورغم أن الأمر لم يُجدهِ نفعاً لكنه استمر في نظم الشعر حتى اشتهرَ بين شعراء عصره .
وبين عامي 939 و 940 للميلاد ، أصبح (المتنبي) شاعرًا لوالي دمشق “بدر بن عمار” ، ولكنه لم يلبث لديه فترة طويلة ، فاختلف معه واضطر إلى الهروب باتجاه الصحراء حتى وصل إلى (سيف الدولة الحمداني) حاكم مدينة حلب آنذاك . فأقام عنده وحظي برعاية سخية وكرم كبير . ونظم الشعر في مدحه مُركّزاً على مدح معاركه ضد البيزنطيين ، والتقى هناك بالشاعر المعروف (أبو فراس الحمداني) ، ولكنه اضطر للفرار مرة أخرى بسبب مؤامرة عسكرية ضد الأمير (سيف الدولة) بعد أن أقام عنده لمدة تسع سنوات .
اتجه المتنبي إلى مصر وأصبح شاعر (كافور الإخشيدي) حاكم مصر ، ونظم فيه الشعر ومدحه طمعاً بأن يكون أميراً على إحدى ولايات (الإخشيدي) ، وكان يطمح أن يصبح حاكماً أو والياً ولكن (الإخشيدي) لم يستجبْ لمطالب (المتنبي) الأمر الذي دفعه للهروب من مصر بعد أن هجا (الإخشيدي) وكتب في وصفه أبشع القصائد :
لاتشتري العبدَ إلا والعصا معه
إن العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدُ
وفي هذه الأثناء سافر (المتنبي) باتجاه العراق ليزور مسقط رأسه بعد 34 عاماً من فراقها ، وتوقف في بغداد ليلتقي هناك بشعراء وكتاب مشهورين أمثال “أبي الفرج الأصفهاني” .
وأثناء إقامته في العراق تلقى دعوتين اثنتين ، كانت الأولى من (سيف الدولة الحمداني) الذي يحبه رغم كل شيء ، يدعوه فيها للعودة إلى حلب ، وكانت الدعوة الثانية من الأديب (ابن العميد الفارسي) وزير (عضد الدولة ابن بويه) وهي الأسرة التي كانت تحكم بلاد فارس (إيران) ، وقرّر (المتنبي) أن يُلبي دعوة ابن العميد فترك الكوفة متوجهاً إلى مدينة (أرجان) مقر الحاكم الذي منحه بيتاً فورَ وصوله . بقي المتنبي في (أرجان) لمدة شهرين ، وكتب قصائد المدح والإطراء ، ومن ثم اتجه إلى مدينة (شيراز) ليزور “عضد الدولة” ، فأقام عنده فترة بسيطة وكتب فيه قصائد المديح . ولكنه العودة إلى الكوفة . وكان من القصائد التي كتبها (المتنبي) قبل عودته إلى الكوفة قصيدة هجاء في رجل اسمه “ضبة” ويُقال إنها كانت السبب الرئيس في مقتله على يد “فاتك الأُسدي” خال “ضبة” بعد أن تتبع أثر (المتنبي) حتى وصل (دير العاقول) بالقرب من بغداد ، فباغته “فاتك الأُسدي” مع رجاله الذين برفقته . وبعد صراع بينهما استطاع (المتنبي) الفرار منهم ، ولكن فاجأه الغلام الذي كان يتظاهر برفقته لكنه كان أصحاب “فاتك الأُسدي” وقال للمتنبي أثناء فراره :
“أتفرّ يا أبا الطيّب وأنت القائل
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وهذا ما استفز (المتنبي) فعاد إليهم على حصانه وقاتلهم حتى تمكنوا منه فقتلوه وسرقوا كل ما كان معه من المال والكتب والمتاع .
Discussion about this post