يدك لاتعرفني” مجموعة قصصية للكاتب التونسي أحمد بن ابراهيم .
( استعراض حالات نساء مختلفات بأنامل ذكورية وأصوات أنثوية )
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
قد يتقمص الكاتب دورالمرأة فيكتب بلسانها ادق التفاصيل الانثوية وقد ينتج عملاً ابداعياً نسائيا
يفوق الأدب الذي تكتبه المرأة عن نفسها ويكون بذلك قد انجزعملاً مميزاً يكون له وقع في الساحة
الأدبية ولعل هذا ما لاحظته في مجموعة أحمد بن ابراهيم القصصية (يدك لاتعرفني) . فماذا عن هذه
القصص ؟ وهل يجوز إدراجها ضمن ما يسمى بالأدب النسوي ؟
لقد قيل أن خير من يكتب عن المرأة هي المرأة نفسها . ولكن ماذا نقول عن بعض كتابات الرجال
الموغلة في تفاصيل عالم المرأة ؟ وهل تختلف كتابة الرجل عن كتابة المرأة ؟ وهل تصح تسمية كتابات
المرأة بالأدب النسوي؟
في الحقيقة ومن زمن بعيد ظهرت العديد من التسميات حول هذا النوع من الأدب ,وقد ابتكرها
الغرب ثم تحولت إلى الساحة العربية . فبعد أن ظهر في السويد أدب (الملائكة والسكاكين), أطلق عليه
الكاتب أنيس منصور إسم أدب (الأظافر الطويلة ) .وجاء على لسان إحسان عبد القدوس أدب ( الروج
والمانكير) . والمعروف عربيا أن الكاتب الكبير يوسف السباعي هومن أبرز من كتب بلسان المرأة خاصة
في روايته “إني راحلة”, وقد تحدث فيها عن مشاعر امرأة حقيقية. وهذا ما حدث مع الكاتب أحمد بن
ابراهيم في قصص (يدك لا تعرفني) , الصادرة عن دار المنتدى للنشر في أواخر سنة 2021 .
(أحببت أبي …سكن قلبي كشجرة وحيدة نائية . ثم كرهته مثل أمي الباردة …)
بهذه الجملة القصيرة العميقة والمكثفة , يبدأ الكاتب سرد الحكاية .وبهذه الكلمات القليلة يكشف عن
حقيقة هذه المرأة التي نشأت في وسط عائلي مهمش وفي حي شعبي مزدحم بالبؤس واليأس والإحباط .
الأب العائل الوحيد لأسرته يفضل شرب الخمرة على القيام بواجبه الأسري .زوجته القابعة تحت سقف
البيت تتحمل قساوته وتعنيفه وضربه لها ولأولادها بسبب وبلا سبب وظلت صابرة ولا تقدرعلى ردعه .
و(أنثى الجندب) وهو الإسم الذي تعود الأب نعت ابنته به , تمردت على الجميع وقررت الفرار من جحيم
البيت قبل أن تنخرط في دراسة الفن المسرحي لتصبح ممثلة ناجحة . غير أنها أبدا مانسيت طفولتها
وماضيها في هذا الحي البائس , وها هي تعود لتلقن والدها ,ومن خلاله أمثاله ,وهم كثر, درسا سوف
يبقى راسخا في الذاكرة رغم تأثير الخمرة .وهي التي وقفت على مسافة متر من أبيها وبكل جرأة خاطبته
ويداها على خصرها في صفحة 16 :
(…آن الأوان لتسمعني بانتباه ولا تقاطعني …أنا اخترت طريقي …لقد نسيت كم صفعتني من مرة منذ
صغري ؟ وكم مرة أحسنت إلي وإلى أمي وأخي …لذا قد بدأت منذ أشهر في تمارين تنشيط الذاكرة …).
ولعل عنوان هذه القصة وهو في نفس الوقت عنوان المجموعة يحيلنا إلى أن اليد بصفة عامة
بقدرما تُمدّ للمساعدة على الوقوف ولتقديم العون فهي تستعمل للضرب والصفع والتنكيل . وهذه اليد
تعرف جيدا مهمتها ولا تميز بين الخير والشر ,بل نراها تلبي رغبة صاحبها , ورغبة الوالد في ضرب
إبنته وصفعها فاقت الحدود وجعلتها بالفعل لا تعرف ضحيتها .ومن هنا جاء العنوان ( يدك لا تعرفني).
هذه المجموعة تحتوي على إحدى عشر قصة بين طويلة وقصيرة موزعة على 135 صفحة من
الحجم المتوسط . وحضور المرأة في كل حالاتها ملفت للإنتباه في كل النصوص وخاصة صوتها ,بل
لسانها الذي تمكن منه الكاتب أحمد بن ابراهيم وخط به أكثر من نص.وأتقن الدخول في عوالمها النفسية
والجسدية حتى أننا نلاحظ أنه يتماهى مع البطلة لدرجة أنه يتبنى كل أفكارها ويحثها على المضي قدما في
ممارسة ماعزمت عليه دون تدخل حتى وإن كانت مخطئة في تصرفاتها .
وبعد أنثى الجندب في (يدك لا تعرفني ) طلع علينا بنوارة الفيسبوك وهي إمرأة تسلحت
بالأساطير والملاحم وكتب النحو والصرف وعبر صفحتها الخاصة توجه رسائلها اليومية للمرأة
والرجل على حد السواء بأسلوب مستفز وساخر وبإسم مستعار (نوارة) .وكم هي كثيرة الأسماء
المستعارة في صفحات التواصل الإجتماعي ؟ وقد يكون خلف هذا الإسم رجل يتقمص دور المرأة ويتكلم
بلساها وقد جاء في صفحة 20 :
(…لن تمرّي أيتها المرأة …أنت أيتها المشغولة بقشرتك المستوردة مثل البخور أو السيجارة أو حتى
رائحة “الماقون” . كلّ مساء لي معكم يا (أنتم) موعد أعدد فيه لعناتي عليكم و شتائمي لكم , بينما
أرواحكم المنكسرة تتزاحم ليلا نهارا متعلقة بأطراف صورتي المرشوقة بأعلى صفحتي كنوارة خمرية
مسكرة على مر الفصول . ثم يا (أنتن ) لقد أجلت موعدي معكن إلى وقت لاحق , سيكون ساعتها تركيزي
أعظم …).
ومهما كان الشخص خلف إسم (نوارة )فإن الكاتب ومرّة أخرى يتقمّص دور نوع آخر من النساء
ويكتب بلسانهن , وهو بذلك يكتب قصة تعكس الواقع وتشكل مرآة نقرأ فيها مظاهر و تفاصيل مما يقع
على صفحات الفيسبوك .
وفي قصة (للمطر لون واحد) نستمع لصوت عائشة المزلزل والموجع في آن ,وهي إمرأة جاءت
للوجود وهي فاقدة لعنفوان الوجود فصلوها عن المعهد بعد سنتين ناجحتين وزوجوها من رجل هو أقرب
للوحش من الإنسان , رجل لا تعرفه وفي اعتقاده أن في الإختيال وقاره .والكاتب تماهى مع مشاعر هذه
المرأة وأحاسيسها الرقيقة وكتب بلسانها في صفحة 24 :
(…باب أغلق ورائي ,وحش متجمّل ,صرخته زلزلتني ,صرخت ألما كمن طعنت غدرا.صوت رصاص
أعلن موتي ,دماتئي لوثت أياديهم , وزغاريد كفتني .فأعلنوا جميعهم عن حياتهم الجديدة فوق جثتي …).
ونلاحظ في هذا الإختزال وفي هذا التكثيف أن الكاتب أدرك حجم الوجع الذي شعرت به هذه المرأة في
لحظات كان من المفروض أن تكون فيها سعيدة ونقل لنا بلسانها فظاعة بعض الممارسات التقليدية التي
مازالت تمارس في مناسبات الزواج في بعض المناطق المهمشة في هذا الزمن بالذات .
صوت أنثوي آخر يُسمع في قصة (فاصل ثمّ) وهي زوجة محسن مساعد منتج في شركة للإنتاج
السينمائي كان قد طلق من أجلها زوجته الفرنسية ويسعى لإسعادها وللعيش معها في سلام , ولكن يحدث
ما لم يكن في الحسبان ويتم الطلاق في ظروف غامضة ويمنعه أهلها من رؤيتها .هذه المرأة تبدوعنيدة
ولا سبيل للصلح بينهما ولم يبق منها غير صراخها الذي يرج قعر جمجمته في صفحة 42 :
(…كرْ , أنت الآن حر, أنت حر ,اذهب حيث شئت , عش حياتك كما تشاء , فكل شيء شائع في شريعتك ,
احتمي بأحضانهن ولا تدخر جهدا في اسعادهن , أرقص أو حتى ابك بين ضحكاتهن . لقد انتقمت لنفسي
منك , نعم وشفيت منك …).
وعلى عكس ما حدث في هذه القصة يعطي الكاتب للمرأة دورا مثاليا في قصة ( على أطراف حلم ) كان
البطل فيها كاتب قصص , وفي واحدة من قصصه تحدث عن زوجة تملك من الإنسانية الشيء الكثير ,
وهي إمرأة سمينة وردية البشرة أخرجها زوجها من مستنقع الحانات الملتهبة وشقق الدعارة الحامية
وميزتها أنها مثقفة وتحب الأدب وكل الفنون . وهو كاتب صاحب مبادئ وبصدق أحب هذه المرأة وكان
حضورها في حياته مؤثرا جدا . وقد دأب على الكتابة عن الفقيرات اللواتي قست عليهن الدنيا وحرمن
من لذة الحياة المشتهاة . وفي قصته يعترف لزوجته فيقول في صفحة 63 :
(… لتعلمي يا زوجتي العزيزة أنك قمت بواجبك كأنثى على أحسن ما يرام . هل تعلمت كيف تحللين
شخصية المرأة في الواقع طبعا لا إمرأة متخيلة ؟…).
وأختم بحارسة الناظور في قصة ( بين بارقة وأخرى) وهي امرأة غريبة عاشت ظروفا غريبة
وماتت موتة غريبة أيضا لأنها ألقت بنفسها أمام سيارة مجهولة على مقربة من دار خطيبها الطبيب .
والكاتب أحمد بن ابراهيم تقمص دور هذه المرأة وكتب بلسانها في صفحة 114 :
(…كنت أرى المدرسة حديقة غناء , فكل مافيها كان يبهرني حتى البسيط من الأشياء , معلمتي السيدة
(روضة )كانت تنعم علي برقتها و لطفها , فكنت أرجو أن أكون معلمة في مدرسة كي أتواصل مع الصغار
وأعيش الفرح في أحضانهم …).
غيرأن حلمها لم يتحقق لأن والدها فرض عليها المشاركة في مناضرة حراس الناظور .
والسارد لم يتقمص أدوار النساء العربيات فقط بل نجده في قصة (اللعب بالجمر) يستعرض
حياة الآنسة الفرنسية “ماركوس ديرندو” وهي أستاذة فلسفة بمعهد ثانوي قريب من أحد الأحياء
المهمشة . وكذلك فعل في قصة (ألواح وطين) بحيث تحدث عن الفرنسية الثرية وعلاقتها بالمرأة الفقيرة
(تفاحة) وابنتها . غير أنه في هذه القصة استعمل صوت المرأة (تفاحة) بالدارجة التونسية وقد جاء في
صفحة 129 :
(…عايشة في هالخربة , تقولشْ زريبة , حليلي ابيّ حني ,دعوة شر دمغتني على غفلة , أشنهي هذا ؟
لعنة الله عليك يا مريّشْ …).
والمتابع لكل القصص يلاحظ سيطرة الفكرالذكوري وتدخل الرجل في حياة المرأة بصفة عامة.
ويلاحظ أيضا أن الرجل يمكن أن يكتب بأفكار ومشاعر وصوت المرأة . والكاتب أحمد بن إبراهيم كان
أكثر إخلاصا للتفاصيل والعلاقات الدقيقة بين الأشياء والمشاعرالمرتبطة بالحياة ومكوناتها. وقد حاول أن
يستعرض في نصوصه أغلب حالات المرأة المختلفة بأنامل ذكورية وبصوت أنثوي جميل رغم الوجع .
والنهاية لا بد أن أذكّر بما كتبته الإعلامية والكاتبة وحيدة المي في تقديمها لهذه المجموعة وقد أشارت
في صفحة 7 إلى أن الكاتب قدم الإنسان بأكثر من وجه :
(…قدم فيها الإنسان بأكثر من وجه , وأكثر من شخصية , من السوي إلى الهش , ومن الناسك إلى
السكير , ومن البغي إلى المرأة الملائكة …).
Discussion about this post