نَوّارة ”
اليوم هو يوم الأحد. يوم عطلتها الأسبوعية. بعد مراطون التسوق والتفسح. وقبل أن يأخذ فراشها لونه الوردي وينقلب إلى مِنصة عُرس. رأت أن تضحكَ قليلا وهي المرأة الضحوك. استفزّت شيطانها وتمسّحت على أطرافه. لا بدّ أن توفّر لنفسها نومة هادئة. أفراد عائلتها كلٌّ يمارس طقوس سهرته وترتيب سبُلَ راحته بإتقان وذلك بالاعتماد على التلفاز والحواسيب.
انبطحت بروب النوم فوق الفراش الوثير تدغدغ المخدّة بنهديها وساقاها تدغدغان الضوء الأصفر الخافت. وضعت بجانبها فنجان شاي أخضر بالنعناع وقطعة مرطبات في صحن صغير. خيالها وشيطانها يقاسمانها انبطاحها. حلّقت نواياها على أطراف الورقة البيضاء. وما أن أمسكتْ بالقلم. حتى بدأت هذه النوايا تتقافز تنقر الورقة وتسيل. هي نوايا لا يراها غيرها. كما النار الراقصة في مقلتيها. هَمست في نفسها :” أنا في ذِروة النجاح والانتشار ولا عزاء لمن صَهده لهبي. لقد تسلّحتُ بالأساطير والملاحم وكتب النحو والصرف.. ”
أتمّت الكتابة بسرعة على الورقة. انسلت إلى تحت خفيفة. وجاءت بحاسوبها. بسرعة نقلت مَا كتبته على الورقة بدقة. لقد كتبت دون تلكإ ما يلي :” لن تمرّي أيتها المرأة ( .. ) أنتِ أيتها المشغولة بقشرتكِ المستوردة. ستتبخرين مثل البَخور أو السيجارة أو حتى رائحة ” الماقون ”
كلّ مساء لي معكم يَا ” أنتم ” موعدٌ أعدِّدُ فيه لعناتي عليكم وشتائمي لكمْ بينما أرواحكم المنكسرة تتزاحم ليلا نهارا متعلقة بأطراف صورتي المرشوقة بأعلى صفحتي ب ” الفايس ” كنوّارة ” خمرية مسكرة على مرّ الفصول. ثمّ يا ” أنتن ” لقد أجّلتُ موعدي معكن إلى وقت لاحق. سيكون ساعتها تركيزي أعظم.
ختاما.. المطلوب منكم جميعا أن لا تكتفوا بالنبش بحثا عن سلالة هذا ال..ن..ص ”
دقائق قليلة وتزاحمت ” الجامات الزرقاء والحمراء ” وصور الورد بأنواعه وحتى الدموع والآهات. لا أحد من جَماعة ” أنتم ” سألها مثلا : من تقصدين ب ” أنتم ” بل تحرّكت صفحتها وكأنها تنفض ما علق بها من ” جامات وبكائيات ”
فجأة طرقتْ ” مملكتها ” أسماء جديدة. أحد هذه الأسماء قال :
” هذا النص ليس سوى خاطرة ”
قال اسم آخر جديد : ” لا. ليست خاطرة. هذه ق ق ج ”
ثالث قال : ” هذه قصيدة نثرية ”
طلبت منها أحداهن – وهي الوحيدة التي تدخلت ” منهن ” وسألتها :
” هل لكِ الجرأة وتخبريننا عن هذه ” النوارة من تكون ”
أغلقتْ حَاسوبها متمتمة ” تصبحون على…
أفريل 2020
التّواصل ولعبة الخداع في أقصوصة “نوّارة”
للكاتب أحمد بن ابراهيم
تضعنا أقصوصة “نوّارة” للكاتب أحمد بن إبراهيم أمام حكاية تتحكّم فيها حالاتٌ من التّواصل طريفةٌ ومستفزّةُ، تواصلٌ يبنيه صاحب النصّ على طبقات من السّرد تتحكّم فيها نيّة المراوغة والمخادعة، والمراوغة في هذه الأقصوصة توجّه ممنهج ومقصود، عليه يقوم نسيج الحكاية، وعلى أساسه تُبنى الفكرة. ويمكن أن نتبيّن هذا التّوجّه الممنهج في بناء التّواصل في أكثر من مستوى: *
مستوى سرد الحكاية: وفيه يمارس الرّاوي المراوغة وهو يبني تواصله مع القارئ الضّمنيّ
. *مستوى الحكاية: وفيه تمارس الشّخصيّة المحوريّة (شخصيّة نوّارة) المراوغة وهي تبني تواصلها مع جمهورها “الفيسبوكيّ”. مستويان يتضافران لبناء الفكرة، وخدمة موضوعِ القصّة
. في البداية يصافحنا الرّاوي بتصوير مشهديّ يوظِّف فيه وجوه من الإيحاء تخلق لدى القارئ أفق انتظار مداره الشّهوةُ: الزّمان: مساء يوم الأحد. “يوم العطلة الأسبوعيّة بعد مرطون التّسوّق والتّفسّح .” المكان: غرفة النّوم. وفي مشهد مثير يصوّر لنا الرّاوي نوّارة وهي ترتّب سبيلها إلى المتعة، ” قبل أن يأخذ فراشُها لونَه الورديَّ وينقلب إلى منصّة عرس”، وبكثير من التّفاصيل ينقل للقارئ حركات نوّارة، أنثى تتغنّج، وتمارس الغواية وقد ” انبطحت بروب النّوم فوق الفراش الوثير، تدغدغ المخدّة بنهديها، وساقاها تدغدغان الضّوء الأصفر الخافت ..” وبرؤية من الدّاخل يغوص السّارد في باطن الشّخصيّة، فينقل لنا حالاتها وقد ” استفزّت شيطانَها وتمسّحت على أطرافه ” وللإيغال في مخاتلة القارئ يستدعي صورة الشّيطان وقد تواطأ مع ” نوّارة ” في ممارسة الغواية، فإذا بـ “خيالِها وشيطان يقاسمانها انبطاحَها”. ويتراجع حضور الرّاوي ليترك المجال لنوارة الشّخصيّةِ تمارس طقوس غوايتَها وقد بدت في ذروة استعدادها، وما ان يستقرّ الحكي على مشهد الاثارة حتّى ينقلبَ مدارُ السّردِ فيجد القارئ نفسه مع أجواء صاخبة تحرّكها فقط نوايا نوّارة، نوايا خفيّة ” لا يراها غيرها ” وقد حلّقت على أطراف الورقة البيضاء تتقافز وتسيل” وهكذا يجد القارئ نفسه أمام لعبة جديدة تمسك بخيوطها شخصيّة نوّارة، ويستفيق على حقيقة جديدة وهو يتابع مسارا جديدا للحكي يتعرّف من خلاله إلى جانب خفيّ من شخصيّة نوّارة وقد تملّكتها متعة التّواصل مع جمهورها الفايسبوكيّ الذي لا يعرف من حقيقتها إلّا ذاك الاسم المستعار “نوّارة”. تكتب نوّارة على الورق، ثمّ تنقل ما كتبته على صفحتها “الفيسبوكيّة”، فتصنع حضورا مستفزّا تبني عليه تواصلها مع الآخر. تكتب نوّارة ” دون تلكإ ” وبسخريّة تواجه جمهورها باستفزاز وتعال فتقول:” كلّ مساء لي معكم يا “أنتم” موعد أعدّد فيه لعناتي عليكم وشتائمي لكم بينما أرواحكم المنكسرة تتزاحم ليلا نهارا متعلّقة بأطرافي صورتي المرشوقة بأعلى صفحتي بالفايس كنوّارة خمريّة مسكرة على مرّ الفصول..” وتختم نوّارة “المطلوب منكم جميعا أن لا تكتفوا بالنّبش بحثا عن سلالة هذا النص” وهكذا تنكشف حقيقة نوّارة، لتخترق أفق انتظار القارئ، فإذا هي تلك الذّات الافتراضيّة التي تفترش صفحات الفيسبوك وتمارس الإغواء كما يشاء لها، بأدوات تواصل افتراضيّة “لا سُلالة لها”، وبنصّ كتابة لا هويّة له، ” فتتزاحم عليها الجامات الزّرقاء والحمراء”، من ذوات افتراضيّة، لا تكاد تفقه ما تتلقّاه.. هكذا يكشف لنا أحمد بن إبراهيم بأسلوب ساخر فيه الكثير من المراوغة عن الوجه الزّائف للكتابة التي صارت تخترق وسائل التّواصل الحديثة، وهو ذاك المجال التّواصليّ الذي صار يسمح بممارسة أشكال من الزّيف والمخادعة، يكون فيها التّفاعل مجرّد مرور سريع يحتكم إلى آداب دخيلة لا ضوابط عليها، وحيث يُفتح باب التّواصل العابر بمجرّد فتح حاسوب، وينغلق بغلقه أو بمجرّد كلمة تقول ” تصبحون على خير ”
بقلم الأستاذة سعاد بن يوسف
Discussion about this post