في مثل هذا اليوم 29 نوفمبر1939م..
ذكرى سلخ لواء الاسكندرون عن سوريا من قبل تركيا.
يرد في تقرير الأرشيف الوطني البريطاني رقم 20845، المسجل بتاريخ 31 كانون الأول 1937، أن عشاءً تم في العاصمة التركية أنقرة، جمع بين رئيس وزراء سورية، جميل مردم بك، والرئيس التركي كمال أتاتورك. كان مردم بك عائداً من فرنسا يومها وفي قلبه الكثير من الخوف على مصير منطقة لواء إسكندرون التي كانت تركيا تنوي احتلالها. وكانت المنطقة واقعة في زاوية التي يُشكلها الشاطئ الشرقي من البحر الأبيض المتوسط والحدود السورية التركية، وفيها مدينة أنطاكيا التاريخية، أكبر وأعرق مُدن “السنجق”.
فاتح أتاتورك مردم بك بالموضوع وأصر أتاتورك أنه لا يريد ضم اللواء، بل فقط إعطاء بعض الحقوق السياسية لسكانه الأتراك. اختلف مردم بك مع الرئيس التركي في تحديد عدد سكان اللواء. أتاتورك قال إن فيه 300 ألف نسمة، وأن ما يقارب 240 ألفاً منهم كانوا من الأتراك. عارضه مردم بك بشدة قائلاً إن عدد سكان اللواء كان لا يتعدى 220 ألفاً، مضيفاً أن نسبة الأتراك فيه لا تتجاوز %39.
وبحسب سجلات الحكومة السورية يومها، فإن 48% من سكان اللواء كانوا عرباً (10% سنّة و28% علويين و8% مسيحيين)، إضافة إلى حوالي 4% من الكرد واليهود و11% من الأرمن. في سنوات لاحقة، وجهت اتهامات شتى لجميل مردم بك، بأنه “باع اللواء” إلى أتاتورك، وفضل تمرير معاهدة مع الفرنسيين مقابل تخليه عن اللواء، وهذا كلام عارٍ تماماً عن الصحة، لا يتعدى ثرثرة لا دليل لها أو سند تاريخي بالمطلق.
الجميع يعرف أن تركيا لم تكن راضية عن الحدود التي فُرضت عليها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وأنها قبلت بها على مضض. ولكنها، وفي المادة 16 من اتفاقية لوزان، قبلت أيضاً بحدودها الجديدة مع سورية، التي اعترفت باللواء كأرض سورية. فمنذ بدأ الانتداب الفرنسي عام 1920، كانت دمشق وحدها هي من تعين محافظي المنطقة وكل قضاتها، وأبرز هؤلاء كان حسني البرازي، الذي أصبح رئيساً لوزراء سورية سنة 1942، بحسب ما يذكر في ” مذكرات دولة الرئيس حسني بك البرازي” في 2016.
جاء أول مطلب تركي في اللواء بمذكرة بتاريخ 10 تشرين الأول 1936، رُفعت بمعية سفير فرنسا في أنقرة، جابرييل بونسو، المندوب السامي الأسبق في سورية ولبنان. وفي تشرين الثاني من نفس العام، تحدث أتاتورك عن اللواء في خطابين متتالين، أحدهما أمام البرلمان التركي، معتبراً أن مصيره بات في خطر في حال بقي تحت سيادة الدولة السورية، كما يرد في كتاب فيليب خوري “سوريا والانتداب الفرنسي” في عام 1987.
الاستفتاء الشهير
قررت فرنسا رفع الأمر لعصبة الأمم في جينيف، واقترحت أن تكون منطقة لواء إسكندرون منزوعة السلاح وتابعة للجمهورية السورية من الناحية المالية والإدارية وفي سياستها الخارجية، بحسب فيليب خوري. يُذكر طبعاً أن سورية لم تكن عضواً في عصبة الأمم وأن تركيا نالت عضويتها سنة 1932، أي قبل سلخ اللواء بست سنوات. وقد طالبت عصبة الأمم بإجراء استفتاء في اللواء، تشرف عليه لجنة مشتركة من الفرنسيين والأتراك، لمعرفة إن كان سكانه يريدون البقاء ضمن الأراضي السورية أم الالتحاق بتركيا.
لم تعترض الحكومة السورية وقبلت بفكرة الإستفتاء، ظناً منها أن سكان اللواء العرب كانوا كفيلين بقلب الموازين ضد تركيا، وكذلك الأرمن الرافضين لأي هيمنة تركية على منطقتهم. ولكن الحكومة التركية مارست ضغوطاً هائلةً يومها، فقامت مثلاً بنقل ثلاثة آلاف مواطن تركي من تركيا إلى اللواء، للتصويت لصالح الضم، مستندة إلى أنهم كانوا من مواليد اللواء.
أجري استفتاء في لواء إسكندرون سنة 1932لمعرفة إن كان سكانه يريدون البقاء ضمن الأراضي السورية أم الالتحاق بتركيا، مارست فيه الحكومة التركية عدداً من الضغوطات لمنع العرب والأرمن من سكانه من قلب الموازين ضد سيطرتها
وقد سهلت سفر هؤلاء ودفعت لكل واحد منهم 25 ليرة تركية، بحسب التقارير البريطانية. إضافة لذلك، كان معظم الأجرة والفلاحين من العرب في اللواء، يعملون في أراضي ملاكين أتراك، فهددت تركيا بطردهم من أماكن عملهم لو صوتوا لصالح سورية، بحسب خوري. وأخيراً، ساعدتهم فرنسا باعتقال كافة الزعماء الوطنيين، من أبناء اللواء المناهضين للمشروع التركي، وقامت بإغلاق مكاتب عصبة العمل القومي والكتلة الوطنية في أنطاكيا
كانت تركيا قد مارست ضغوطاً مشابهة على سكان أهالي اللواء، خلال الانتخابات النيابية السورية التي جرت سنة 1936. فقد أجبرت كافة المواطنين السوريين من أصول تركية على مقاطعة تلك الانتخابات، ومهاجمة النواب العرب الثلاث الذين فازوا بمقاعد نيابية على قوائم الكتلة الوطنية.
في كلتا المرتين نجحت تركيا في مساعيها، ولكنها في المرة الثانية قامت بعقد صفقة مع فرنسا، ضمنت من خلالها دعم أنقرة لباريس، أو حيادها في حال نشوب حرب عالمية جديدة في أوروبا، مقابل دعم الفرنسيين لسلخ اللواء عن سورية. ومع حلول شهر شباط من العام 1939، ونتيجة ذلك الاستفتاء والصفقة، تم فصل اللواء كلياً عن سورية وأصبح جزءاً من الجمهورية التركية. وقد دخل الجيش التركي إلى اللواء يوم 4 تموز 1938 وما زال موجوداً فيه حتى اليوم.!!
Discussion about this post