في مثل هذا اليوم10 ديسمبر1520م..
مارتن لوثر يقوم بإحراق مرسوم كنسي بطرده من الرحمة عقابًا له على معارضته لسلطة الكنيسة، واعتبرت هذه الخطوة خطيرة ساهمت بابتعاده عن الكنيسة الكاثوليكية.
مارتن لوثر (10 نوفمبر 1483 – 18 فبراير 1546) راهب ألماني وقسيس وأستاذ للاهوت ومُطلق عصر الإصلاح في أوروبا، بعد اعتراضه على صكوك الغفران. نشر في عام 1517 رسالته الشهيرة المؤلفة من خمس وتسعين نقطة تتعلق أغلبها بلاهوت التحرير وسلطة البابا في الحل من «العقاب الزمني للخطيئة»؛ أدى به رفضه التراجع عن نقاطه الخمس والتسعين بناءً على طلب البابا ليون العاشر عام 1520 وطلب الإمبراطورية الرومانية المقدسة ممثلة بالإمبراطور شارل الخامس للنفي والحرم الكنسي وإدانته مع كتاباته بوصفها مهرطقة كنسيًا وخارجة عن القوانين المرعيّة في الإمبراطوريّة.
أبرز مقومات فكر لوثر اللاهوتي هي أنّ الحصول على الخلاص أو غفران الخطايا هو هديّة مجانيّة ونعمة الله من خلال الإيمان بيسوع المسيح مخلصًا، وبالتالي ليس من شروط نيل الغفران القيام بأي عمل تكفيري أو صالح؛ وثانيًا رفض «السلطة التعليمية» في الكنيسة الكاثوليكية والتي تنيط بالبابا القول الفصل فيما يتعلق بتفسير الكتاب المقدس معتبرًا أنّ لكل إمرئ الحق في التفسير؛ وثالثًا أنّ الكتاب هو المصدر الوحيد للمعرفة المختصة بأمور الإيمان؛ وعارض رابعًا سلطة الكهنوت الخاص باعتبار أن جميع المسيحيين يتمتعون بدرجة الكهنوت المقدسة، وخامسًا سمح للقسس بالزواج. ورغم أن جميع البروتستانت أو الإنجيليين في العالم يمكن ردهم إلى أفكار لوثر، إلا أن المتحلقين حول تراثه يطلق عليهم اسم الكنيسة اللوثرية.
قدّم لوثر أيضًا ترجمة خاصة به للكتاب المقدس بلغته المحليّة بدلاً من اللغة اللاتينيّة التي كانت اللغة الوحيدة التي سمحت الكنيسة الرومانية باستخدامها لقراءة الكتاب المقدس، ما أثر بشكل كبير على الكنيسة وعلى الثقافة الألمانيّة عمومًا، حيث عزز الإصدار من قياس مفردات اللغة الألمانيّة وطورت بذلك أيضًا مبادئ الترجمة، وأثرت ترجمته لاحقًا على ترجمة الملك جيمس باللغة الإنكليزية للكتاب المقدس؛ كما ألّف لوثر عددًا كبيرًا من التراتيل الدينيّة التي أثرت في تطور فن الترنيم في الكنائس. في السنوات الأخيرة من حياته، تزامنًا مع مرضه وتدهور حالته الصحيّة، كتب لوثر ضد اليهود وطالب بالتضييق على حرياتهم وحرق كنسهم ومنازلهم، ما دفع إلى رشقه بمعاداة الساميّة.خلال حياته الرهبانيّة، كرّس لوثر قسطًا طويلاً من يومه للصوم الطويل والتأمل والصلاة، والحج والاعتراف المتكرر.
في عام 1516 أُرسل يوهان تيتزل، الراهب الدومينيكاني والمفوض البابوي الخاص إلى ألمانيا لبيع صكوك الغفران، بغية جمع الأموال اللازمة لإعادة بناء كاتدرائية القديس بطرس في روما. كان اللاهوت الكاثوليكي الروماني يرى أن الإيمان وحده – أو التوبة وحدها – غير كافيّة للحل وغفران الخطيئة بل يجب أن تترافق مع أعمال صالحة كالأعمال الخيريّة التي من ضمنها التبرع بالمال للكنيسة. في 31 أكتوبر 1517، كتب لوثر إلى أسقفه ألبرت الماينزي، احتجاجًا على بيع صكوك الغفران، ومعتبرًا أن الإيمان وحده كافٍ لنيل التبرير، أرفق لوثر مع رسالته نسخة من أحد كتبه التي عرفت باسم الأطروحات أو القضايا الخمس والتسعين، والتي أعلن فيها لوثر أنه لا ينوي مواجهة الكنيسة أو البابوية مطلقًا، لكن الرسائل والمناظرات خلال تلك الفترة وأسلوب الكتابة، ينمّ عن وجود نوع من التحدي في العديد من الأطروحات لاسيّما الرسالة 86، والذي سأل فيها: «لماذا يريد البابا بناء بازليك القديس بطرس من مال الفقراء، بدلاً من ماله أو مال الفاتيكان الخاص؟». اعترض لوثر أيضًا على قول منسوب إلى الموفد البابوي يوهان بمعنى أنه حالما ترنّ العملة في قاع الصندوق، فإنّ أرواحًا تتخلص من العذاب. رغم كون هذه العبارة غير مؤكدة نسبتها تمامًا.
ركّز فكر لوثر اللاهوتي، أنّ الله يمنح المغفرة بمعزل عن أي عمل صالح، وأن الغفران يحلّ من أي عمل تكفيري أو عقوبة مرتبطة به، واعتبر أنه لا يجوز على أتباع المسيح القبول بمثل هذه «الضمانات الكاذبة» المتعلقة بالعمل الصالح. في يناير 1518 قام مجموعة من أصدقاء لوثر بترجمة الأطروحات الخمسة والتسعين من اللاتينية إلى الألمانية وطبعت ثم وُزعت النسخ على نطاق واسع، ما جعلها واحدة من أول أكثر الكتب انتشارًا في التاريخ، وفي غضون أسبوعين انتشرت في مختلف أنحاء ألمانيا، وفي غضون شهرين في جميع أنحاء أوروبا؛ وتعممت في فرنسا وإنجلترا وإيطاليا عام 1519، وفي فيتنبرغ احتشد الطلاب لسماع مواعظ لوثر وأفكاره. حيث نشر، بعد القضايا الخمس والتسعين، كتيبات أشبه بالتعليق على الرسالة إلى أهل غلاطية وسفر المزامير؛ كان هذا الجزء الأول من شهادة لوثر وأعماله الإنتاجية التي لاقت بدورها قبولاً واسعًا؛ غير أن أشهر ثلاث مؤلفات للوثر نشرت عام 1520، وهي: النبالة المسيحية والأمة الألمانيّة وكتاب السبي البابلي للكنيسة وكتاب حرية المسيحي.
من مقالات لوثر حول الموضوع:
بموت المسيح من أجل خطايانا لمرة واحدة تبررنا (روما 3: 24-25) وأنه وحده هو حمل الله الذي حمل خطايا العالم (يوحنا 1: 29) وأنّ الرّب قد وضع عليه إثم جميعنا (أشعياء 6: 53). فالجميع قد أخطأوا، والله قد برر وغفر لهم بغض النظر عن أعمالهم السابقة وتفاوتها (روما 3: 23-25)، وهو أمر ضروري يجب أن يكون موضع إيمان. فلا يمكن الحصول على التبرير أو اغتنام الغفران من قبل أي قانون أو عمل صالح، فالتبرير هو هدية للمؤمن، تثمر الأعمال الصالحة.
النزاع مع البابوية
البابا ليون العاشر، بريشة رافائيل.
لم يقم مطران ماينز وماغديبرغ بالرد على رسالة لوثر التي طرح فيها القضايا الخمس والتسعين الخاصة به، وأعرب عن قناعاته بأنها تحوي بدعًا وهرطقات، وأرسل إشعارًا إلى روما بذلك. وجه البابا ليون العاشر أمرًا إلى سلسلة من اللاهوتيين المختصين في «إصلاح الهراطقة» لمحاججة لوثر وذلك «بقدر كبير من العناية» وكما «هو صحيح». and he responded slowly, “with great care as is proper.” وعلى مدى السنوات الثلاث التالية نشر اللاهوتيون سلسلة مقالات ضد لوثر، التي لم يكن من أثارها سوى تصلّب معاداة لوثر للبابوية، حيث أشار مجددًا إلى الأموال التي تستخدم من أعمال التكفير في بناء كاتدرائية القديس بطرس. أخيرًا رفع الراهب الدومينيكاني سلفستر مازوليني دعوى قضائية على لوثر أمام محاكم العقيدة بتهمة الهرطقة، فاستدعي لوثر إثر قبول الدعوى إلى روما. غير أن القرار عدّل لاحقًا، بحيث تتم جلسات الاستماع إلى لوثر في أوغسبورغ برئاسة الموفد البابوي الكاردينال كاجيتان، في مبنى برلمان أوغسبورغ وبضمانته. عقدت الجلسة الأولى في أكتوبر 1518 حيث أعلن لوثر أنّ البابوية غير منصوص عنها في الكتاب المقدس، وتحولت الجلسة إثر إعلانه إلى مشادة كلاميّة، وطوال الجلسات ركز لوثر على مهاجمة البابا رغم كون قضية جلسات الاستماع هي مناقشته القضايا الخمس والتسعون الخاصة برسالته الشهيرة.
لم يستطع الموفد البابوي اعتقال لوثر في أوغسبورغ، حيث ضمنت الحكومة الأمان للوثر، رغم أن التعليمات الصادرة عن روما للموفد البابوي تنصّ على اعتقال لوثر في حال رفض الارتداد عن معتقداته. كما أن لوثر غادر المدينة في الليل ودون إبلاغ الكاردينال أو الحصول على إذنه. في يناير 1519 عينت البابوية القاصد الرسولي كارل فون ميلتيز في ألتنبرغ في ولاية سكسونيا لإعادة الاستماع إلى لوثر. كان القاصد الرسولي ذو نهج أكثر ميلاً للمصالحة وقدم بعض التنازلات للوثر في التفاصيل. وفي شهري يونيو ويوليو 1519 نظمت مناظرات بين أنصار لوثر وأنصار التقليد الكاثوليكي، وتمت دعوة لوثر شخصيًا للمناظرة. أكد لوثر بشكل أجرأ خلال هذه الفترة أن متى 18: 16 لا يضفي على البابوات الحق الحصري في تفسير الكتاب المقدس، ومن ثم طعن في العصمة البابوية في الأمور العقائدية.
في 15 يونيو 1520 أصدر البابا مرسومًا يقضي بالطرد والحرم الكنسي للوثر في حال لم يتراجع عن 41 جملة مأخوذة من كتاباته بما فيها القضايا الخمس والتسعين، وذلك ضمن مهلة ستين يومًا. حاول يوهان إيك في ميسين، وكارل فون ميلتيز والسفير البابوي التوسط في إيجاد حل؛ ولكن لوثر الذي أرسل للبابا نسخة من كتابه «حرية المسيحي» في أكتوبر، أضرم النار في المرسوم البابوي على الملأ في فيتنبرغ يوم 10 ديسمبر 1520. وانتهت هذه القضية بصدور الطرد والحرمان من قبل البابا ليون العاشر بحق لوثر في 3 يناير 1521.
في 18 أبريل 1521 عُرض مارتن لوثر على مجلس ورمز. كان المجلس مجمعًا في مدينة ورمز على نهر الراين يضم قضاة من مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ويترأسه الإمبراطور نفسه. وكان سبب انعقاد المجمع الذي بدأ أعماله في 28 يناير وحتى 25 مايو، على مناقشة القضايا الخمس والتسعين التي طرحها لوثر، وآلية تفعيل الحرم الكنسي عليها. حضور لوثر لهذا المجلس، جاء بعد أن حصل على صكّ أمان من الأمير فريدريك الثالث.
قدّم يوهان إيك، متحدثًا نيابة عن الإمبراطور، نسخًا من كتابات لوثر، وسئل بداية إذا ما كانت الكتب من وضعه، ولا يزال موافقًا على محتوياتها. أكّد لوثر أن الكتب من تأليفه، وطلب وقتًا للإجابة على السؤال الثاني. صلى لوثر، واستشار أصدقاءه، وقدّم رده في اليوم التالي، بأنه مقتنع ولديه ثقة بشهادة الكتاب المقدس وحدها، دونًا عن البابا أو المجامع، التي تخطأ وتناقض نفسها في كثير من الأحيان. واعتبر لوثر نفسه في نصّ جوابه الرسمي «أسير كلمة الله»، ورفض الارتداد عن أفكاره، وقال أنه لا يجوز أن يكره بأن يعتقد ما هو ضد ضميره.
على مدى الأيام الخمسة التالية، عقدت جلسات متوالية لتحديد مصير لوثر. قدّم الإمبراطور المسوّدة النهائية التي يراها ملائمة في 25 مايو 1521، وفيها إدانة لوثر بوصفه خارجًا عن القانون، وحظر مؤلفاته، كما طالب باعتقاله بوصفه «زنديق سيء السمعة»؛ كذلك فقد نصّ القرار على تجريم كل مواطن في ألمانيا يأوي لوثر أو يقدم له مساعدة، كما أهدر دمه بمعنى أن قتله العمد لن يتسبب بأي أثر قانوني.
عاد لوثر سرًا إلى فيتنبرغ في 6 مارس 1522. وكتب «خلال غيابي، دخل الشيطان إلى حظيرة الأغنام في بلادي، جالبًا ويلات عديدة لا يمكن إصلاحها عن طريق الكتابة فقط، بل من خلال وجودي الشخصي وكلماتي المعاشة». ابتداءً من يوم الأحد 9 مارس، ولمدة ثمانية أيام لمناسبة الصوم الكبير، أعلن لوثر ثمانية خطب، أصبحت تعرف باسم «العظات»، ناقش خلال هذه الخطب أهمية سيادة «القيم المسيحية» الأساسية مثل الحب، والصبر، والإحسان، والحرية، والثقة بكلمة الله بدلاً من العنف في إحداث تغيير ولو كان ضروريًا. وعظ لوثر فيما يخصّ الموضوع الأخير: «هل تعرف بماذا يفكر الشيطان عندما يرى الرجال يستخدمون العنف لنشر الإنجيل؟». ليستنتج أنّ الشيطان هو من يجني الفائدة في ذلك، وأنه يخاف بالأحرى وينهزم عندما يرى الكلمة والعمل هما سلاحا الميدان في المعركة.
كان تأثير عودة لوثر كبيرًا للغاية، فبعد العظة السادسة، كتب فقيه فيتبرغ جيروم سشورف: «يا للفرحة من عودة الدكتور مارتن، تنتشر بيننا كلماته من خلال الحرمة الإلهية، وإعادة جميع المضللين اليوم، إلى سبيل الحقيقة». أما المجموعة الثانية من عظات لوثر، فكانت حول إقرار أو تعديل ممارسات كنسيّة بعينها، كما عمل خلال تلك الفترة مع السلطات المدنية لاستعادة النظام العام؛ وقد واجه معارضة قويّة من المحافظين الذين أرادوا المحافظة على الطقوس دون مساس، وهو ما أدى إلى إثارة الاضطرابات الاجتماعية والعنف.
وعلى الرغم من نبذ لوثر للعنف، فإن مساعديه من الدعاة أمثال نيكولاس ستورش وأنصار الأنبياء تسفيكا، وتوماس منتزر، قاموا بتحريض الفلاحين الألمان خلال فترة 1524-1525 للثورة، ارتكبت خلالها العديد من الفظائع، وغالبًا تحت اسم لوثر. كانت الثورات الفلاحيّة على نطاق صغير، أمرًا منتشرًا في ألمانيا خلال القرن الخامس عشر، لكن منشورات لوثر عن رفض التراتبية الهرمية في الكنيسة، وتكرار استخدام عبارات مثل حريّة وليبرالية، أجج اعتقاد الطبقات الفلاحيّة بأن لوثر سيدعم أي هجوم على الطبقات العليا بشكل عام. اندلعت ثورات في فرانكوفونيا، وشوابيا، وساكسونيا السفلى في عام 1524، وتحول الأمر إلى صدامات مسلحة أشبه بحرب.
تعاطف لوثر مع شكاوى بعض الفلاحين، وأظهر ردًا مستفيضًا في مقالاته الإثني عشر التي صدرت في مايو 1525، لكنه أكّد في الوقت ذاته على وجوب طاعة السلطات الزمنيّة. وصرّح خلال جولة له في ساكسونيا السفلى، أنه غضب على نطاق واسع من حرق الأديرة ومقرات الأساقفة والمكتبات؛ وعمليات القتل والسرقة؛ التي قامت بها عصابات الفلاحين الداعمة له. بعد عودته إلى فيتنبرغ، قدّم تفسيره لرأي الإنجيل في الثورة، وأدان بشدة أعمال العنف التي وصفها بكونها أعمال إبليس، بل دعا النبلاء إلى إخماد المتمردين «مثل الكلاب المسعورة».
تبريرات لوثر لمعارضته ثورة الفلاحين كانت في ثلاثة أسباب، السبب الأول أنهم اختاروا العنف في وجه حكومة زمنيّة شرعيّة، متجاهلين قول المسيح في «تقديم ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، واستشهد أيضًا بالرسالة إلى روما 13: 1-7 حيث أوضح القديس بولس أنّ السلطة هي من الله وبالتالي لا يمكن مقاومتها. والسبب الثاني، الأعمال المخالفة للوصايا الإلهية خلال الثورة من قتل وسرقة ونهب والتي وضعت الفلاحين خارج «شرع الله وقوانين الإمبراطورية» لذلك فهم «يستحقون الموت في الجسد والروح، إذ غدوا قطاع طرق وقتلة» والسبب الثالث هو التجديف، إذ إنهم قد قاموا بأفعالهم هذه، تحت شعار الإنجيل.
ومن دون دعم لوثر للانتفاضة، ألقى العديد من المتمردين أسلحتهم، وشعر البعض الآخر بالخيانة. وبعد معركة فرانكن هوسن في 15 مايو 1525، انتهت حرب الفلاحين. ليجد بعض المتطرفين ملاذهم في جماعات أخرى نشأت على غرار اللوثرية مثل حركة تجديد العماد.
مع عام 1526 وجد لوثر نفسه وبشكل متزايد، ينظّم كنيسة جديدة. بين عامي 1525 و1529 شكّل لوثر هيئة للإشراف على الكنيسة، لخدمة المكان ووضع الكتب والشروح وتنظيم أشكال العبادة. أراد أن تكون الكنيسة لا مركزية، بحيث لا يمكن استبدال النظام التراتبي المعمول به في الكنيسة الكاثوليكية بآخر شبيه، ولذلك فقد أوجد الكنائس المحليّة، مثل كنيسته في ولاية سكسونيا والتي لا تتدخل في شؤون الكنائس في سائر الولايات الألمانيّة، وإنما تتعامل كمستشار لكنائس المناطق الجديدة لا غير. فصل لوثر الإدارة المالية من رجال الدين، وأناطها بمسيحيين عاديين في مجالس خاصة لهذه الغاية، حسب بريشت كاتب سيرة مارتن لوثر، فإن هذه الخطوة، كانت بداية تطور غير مقصود في تاريخ البشرية، حول سيطرة السلطة الزمنيّة على ممتلكات وأموال الكنيسة. تصريحات لوثر التي أطلقها لرعاة الكنائس عام 1528 شكلّت تراجعًا عن حدة مواقفه السابقة، فالبيان الذي صاغه ملنشتون بموافقة لوثر، شدد على دور التوبة في غفران الخطايا، على الرغم من موقف لوثر أن الإيمان كافي للتبرير؛ كذلك فقد أدان تدريس كون الإيمان منفصل عن الأعمال. هذه التعليمات، في وثيقة رسمية صادرة عن لوثر، شكلت مشكلة لأولئك الذين يسعون لتطور ثابت في الفكر والممارسة عند لوثر.
كان لوثر، وبناءً على طلب أتباع الكنيسة، قد كتب ونشر قداسًا ونشره في بداية عام 1526، وهو يشبه إلى حد بعيد الرتبة الرومانيّة الكاثوليكية، غير أن الفروق تميزت باللغة، فالكنيسة الرومانية كانت توجب تلاوة نصّ القدّاس باللاتينية حتى المجمع الفاتيكاني الثاني الذي انعقد في النصف الثاني من القرن العشرين، في حين أن لوثر ومنذ القرن السادس عشر وضع نصّ القداس باللغة الألمانية السائدة؛ كما أنه قام بتبسيط بعض الحركات الطقسية؛ وأغفل من النص أي عمل كفاري من قبل المشاركين في القدّاس عن خطاياهم. احتفظ لوثر بالتنظيم الكنسي التقليدي، من حيث ارتفاع الهيكل ووجوب الكأس، في حين جعل الشموع وغطاء المذبح وثياب القس المحتفل اختياريّة. بعض المصلحين البروتستانت اللاحقين أمثال زوينجلي نظر إلى قداس لوثر وتنظيمه على أنه «بابوي جدًا»؛ المؤرخون لاحظوا أن أغلب تعديلات لوثر أدخلت لاحقًا على رتبة القداس الكاثوليكي الروماني نفسها.
قدّم لوثر أيضًا رتبًا عن العماد والزواج، وعيّن مواعيد يوميّة في الكنائس لتلقين التعليم للأطفال أو الشباب أو الفقراء. هذا التنظيم، الذي بدأ في العام 1527، شكل بنوع أو بآخر، أساس مدارس الأحد لدى سائر الطوائف حديثًا؛ والدافع الأساسي له، كتابات لوثر عن عدم معرفة الناس كثيرًا عن العقيدة المسيحية، وأشار إلى كون كثير من القساوسة تنقصهم المهارة والأسلوب في الوعظ والتدريس، لذلك فقد وضع لوثر نظامًا آخر، لتقوية الوعظ في الكنائس؛ كما نشر عام 1529 كتابه الشهير عن التعليم المسيحي، والذي قدّمه كدليل للرعاة والمعلمين، ويشتمل على تعاليم مسيحية سهلة الفهم مثل الوصايا العشر، والصلاة الربيّة، والعشاء الأخير. أشار لوثر أنه من غير المطلوب أن يحفظ المسيحيون فقط عن التعليم المسيحي، بل أن يفهموها أيضًا. ولا يزال، كتاب لوثر عن التعليم المسيحي مستعملاً حتى اليوم، إلى جانب العديد من الترانيم التي صاغها، وترجمته الخاصة للكتاب المقدس. ولقد أثبت التعليم الذي قدمه لوثر – لا سيّما المنشورات اللاحقة التي قدمها في كرّاسات صغيرة – فعاليّة كبيرة، في مساعدة الآباء تعليم أطفالهم، وكذلك كان فعالاً بالنسبة للقساوسة. استخدام اللغة الألمانية العاميّة وتبسيط العقيدة، كانتا النقطتان الأساسيتان في تأليف لوثر.
شر لوثر ترجمته الألمانية للعهد الجديد عام 1522، ثمّ أنهى ومعاونيه ترجمة العهد القديم عام 1534، ليُتمّ بذلك ترجمة الكتاب المقدس كلّه. واستمرّ على دراسة اللغات القديمة والعمل على صقل الترجمة حتى نهاية حياته. انتُقد لوثر لإضافته كلمة «وحده» بين كلمة «الإيمان» في روما 3: 28، غير أن لوثر استفاض بتبرير عمله لكون الخلاص بالإيمان وحده حسب رأي لوثر هو العقيدة الأساسية في المسيحية، وأن القديس بولس كان يريد أن يوصل هذه الفكرة، وبالتالي فإضافة الكلمة أمر ضروري لكي يتضح بشكل ناصع فحوى العقيدة المسيحية في التبرير كما رآها لوثر.
انتشرت ترجمة لوثر في جميع أنحاء ألمانيا، وقال أنه يعتزم العمل بكامل طاقاته لجعل الوصول إلى الكتاب المقدس سهلاً ويوميًا بالنسبة لجميع الألمان، وإزالة أي عائق قد يراه الشخص أمام بعض المفاهيم أو الألفاظ. حظيت ترجمة لوثر بشعبية كبيرة وتأثيرًا كبيرًا في ترجمة الكتاب المقدس، ودفعت إلى ارتفاع الطلب على المنشورات باللغة الألمانية، كما ساهمت مساهمة فعالة في تطور اللغة والأدب الألمانيين؛ وذهب البعض إلى أن انتشار اللوثرية في مختلف أصقاع ألمانيا يعود لترجمته هذه؛ ومما يذكر، هو تأثير هذه على ترجمات أخرى لاحقة مثل ترجمة الكتاب المقدس للإنجليزية عام 1525، ومن ثم ترجمة الملك جيمس الشهيرة لاحقًا.
الترانيم
ترك لوثر إرثًا غزيرًا من الترانيم، التي جاء بعضها تلحينًا لمقاطع من الكتاب المقدس، أو وحيًا من مقاطع بعينها منه. قدّم لوثر ألحانًا للطبقات العليا، وكذلك استخدم الموسيقى الشعبية، بحيث تجمّع حول ترانيمه رجال الدين والرجال العاديين والنساء والأطفال. انتشرت ترانيم لوثر في العبادات، والمدارس، والمنازل، والساحات العامة. الكثير من ترانيم لوثر، كانت مرتبطة بمواقف معينة من حياته لاسيّما كفاحه في سبيل الإصلاح، فمناظراته مع الكنيسة الرومانيّة هي التي دفعت لتقديمه ترنيمة نشيدًا جديدًا، نرفع نحن. (بالألمانية: Ein neues Lied wir heben an) والتي ترجمت لاحقًا إلى الإنجليزية ولحنتها ماريا تيدمان عام 1875.
في عام 1524 قدّم لوثر ترنيمته العقائديّة التي تشرح وجهة نظره للمعتقدات المسيحية بعنوان نحن جميعًا نؤمن بإله واحد حقيقي (بالألمانية: Wir glauben all an einen Gott) وهي من ثلاث مقاطع تشرح إيمان الرسل، وتشكل أحد أساسات التعليم المسيحي؛ وتم توسعتها وتطويرها في مراحل لاحقة وباتت أحد أهم الاناشيد الواسعة الانتشار في الكنائس اللوثرية، كما تعتبر من أشهر الترانيم اللاهوتيّة في القرن الثامن عشر، غير أن لحنها الصعب جعل استخدامها نادرًا في القرن العشرين. وفي عام 1538 قدّم لوثر الصلاة الربية ملحنة، مع تفاسير لها تتوافق مع التعليم المسيحي كما رآه لوثر، وذلك بتعليق على كل مقطع من الطلبات السبعة التي قدمها المسيح في الصلاة، وترنّم في الكنائس اللوثرية كتهيئة للقداس، وكوسيلة لدراسة المرشحين لتولي التعليم المسيحي. عدّل لوثر ونقّح في النص مرات متعددة، مما يدلّ على رغبة لوثر في تعزيز النص واللحن لتوفير الصلاة بشكل أكثر ملائمة.
في عام 1523 استوحى لوثر من المزمور 130 ترنيمته من أعماق الويل، أبكي لك (لغة ألمانية: Aus tiefer Not schrei ich zu dir) وأرسلها كعينة لتشجيع زملائه على تلحين المزامير أو وضع أناشيد على غرارها لاستخدامها في العبادات؛ ونشرت هذه الترنيمة مع سبع أخرى في كتاب التراتيل اللوثرية الأول. وفي العام التالي، وضع لوثر ترنيمة عقائديّة أخرى بعنوان وحدها النعمة والتي استخدمت على نحو واسع في الطقس اللوثري لاسيّما في الجنازات. كما أصدر لوثر لحنًا للمزمور 67 وآخر للمزمور 51، مع شرحه من كتاب التعليم المسيحي للوثر والخاص بسر الاعتراف. وعلى الغرار نفسه في وضع الترانيم العقائديّة، كتب لوثر عام 1540 ترنيمة إلى الأردن جاء المسيح (لغة ألمانية: Christ unser Herr zum Jordan kam) ليعكس بخلالها بصيغة الأسئلة والأجوبة متعلقات بالتعليم المسيحي عن العماد. هناك عدد كبير من الترانيم الشهيرة الأخرى التي صاغها لوثر حول عيد الميلاد وعيد الفصح والمجيء الثاني للمسيح والوصايا العشر، أثرت لاحقًا على الفن الموسيقي الديني في أوروبا، كما أثرت في كبار الموسيقيين أمثال يوهان باخ الذي أعاد تقديم عدد من ترانيم لوثر في صيغ حديثة.
لوثر كان يعاني من اعتلال صحي لسنوات عديدة، لا سيّما الدوار، والإغماء، والطنين، وانسداد إحدى عينه، بدءًا من عام 1531 وحتى 1546 حين تدهورت حالته الصحية بشكل كبير. الصراع مع روما، والانشقاقات بين زملائه الإصلاحيين، والفضيحة التي نجمت عن موافقته قيام الأمير فيليب بزوجتين، كل ذلك أدى إلى المزيد من التدهور في حالته الصحية. في عام 1536 أخذ لوثر يعاني من الحصى في الكلى والمثانة، والتهاب المفاصل، والتهاب الأذن، وتمزق طبلة الأذن. وفي ديسمبر 1544، بدأ يشعر بآثار الذبحة الصدرية.
تدهور صحته البدنية، جعله سريع الغضب، وأشد قسوة في كتاباته وتعليقاته، وقد قالت زوجته كاترينا صراحة: «لقد كنت وقحًا للغاية». آخر خطبة للوثر كانت في كنيسة أيسلبن مسقط رأسه في 15 فبراير 1546، قبل ثلاث أيام من وفاته. وقد خصصها بشكل كامل، لليهود، واقترح فيها الاستعجال بطردهم من ألمانيا إن لم يصبحوا مسيحيين، لتتخلص ألمانيا من الربا والافتراء، كما برر. في 17 فبراير اختتم بنجاح مفاوضاته مع أشقائه حول إرث والده في التجارة والتعدين. وفي مساء تلك الليلة نفسها، بعد الساعة الثامنة مساءً، قال أنه شعر بآلام في الصدر. وعندما ذهب لينام، صلّى: «يا رب في يدك أستودع روحي». العبارة المقتبسة من سفر المزامير 31: 5، وهي من صلوات الاحتضار. وفي 1.00 صباحًا، استيقظ نتيجة شعوره بآلام مبرحة في الصدر، والتي خفف عنها بالمياه الساخنة. آخر سؤال كان للوثر، من قبل صديقيه جوستوس جوناس وماكيل كوليوس: «أيها القس الأب، هل أنت مستعد للموت بثقة في المسيح، وأنت متعرف بالمذهب الذي كنت قد علمت باسمه؟»، وبشكل متميز كان رد لوثر: «نعم». السكتة الدماغية اللاحقة، منعته من الكلام، وتوفي بعدها بوقت قصير في 2:45 صباحًا يوم 18 فبراير 1546 وله من العمر 62 عام، في أيسلبن مسقط رأسه، ودفن في كنيسة القلعة في فيتنبرغ تحت المنبر، وترأس صلاة الجنازة عليه عدد من أصدقاءه أمثال ملنشقون فيليب. وفي العام التالي، دخلت قوات الإمبراطور شارل الخامس – عدوّ لوثر – البلدة، لكن أمرًا من الأميز تشارلز، منع تدنيس قبره.!!
Discussion about this post