قصه قصيرة
” لقاء غير عابر ”
العصر كان قد مر ، الطريق مبتل . زخات المطر والسماء غائمة .. ورغم ذلك أمارس عادتي بالمشي علي شاطيء النيل حيث يخفف ذلك من وحدتي المطبقة ، ألجأ للنيل حينما تجتاح نفسي لوعة الإحساس والغربة ، واحتمالات الزلل ، لفحات الهواء ، كلها صارت جميلة بالنسبة لي . علي بعد خطوات بجانب السور المطل علي شاطيء النيل تقترب مني سيدة أنيقة في الأربعينات تذكرتها كنت أعرفها منذ زمن غير بعيد ، تنظر لي كلما تحولت عيني نحو عينيها الرائعتين المتطلعتين نحوي دائماً اقتربت تسلم عليٌ بيدها الحلوتين تقبضان علي يدي ، تغرد بضحكتها العذبة إبتهاجاً بوقوع اللقاء المفاجيء ، تبتسم لي ، مسحت العرق حول رقبتي نظرت إليها لقد طلقها زوجها الأول وأصبحت لشدة العوز والحاجة تعمل في البيوت خادمة ، كانت تغسل ملابسنا في الشقة التي أسكنها مع أولاد عمي الثلاثة ، وفي يوم من الأيام عند عودتي من الكلية النظرية بعد يوم شاق طويل وعند مدخل الباب .. وجدت صياحاً وجلبة لقد حاول أولاد العم مضاجعتها عنوة – أيام كثيرة فكرت فيها طاف جسدها بخيالي ، ولكني لم أكن أمتلك الشجاعة ، اندفعت إلي ” زينب ” هذا اسمها أخذتها من يدها … الموقف كان يحتاج كلمات حاسمة كنت أحدق فيهم لم أكن أتوقع أخلاقكم تصل الي هذا المستوي من أناس متعلمين هذه مهزلة ، في اليوم التالي دخلت زينب علي بينما كنت مستغرقاً في قراءة كتاب اقتربت مني قائلة:
– أشكرك علي ما فعلت فأنا الآن لك وحدك فافعل ما تشاء .
أفهمتها بأني ما فعلته أقل من الواجب ولا يحتاج إلي الشكر بهذه الطريقة ، ظلت تنظف الشقة وتغسل دون أن يقربها أحد أو يمسها بكلمة حتي خرجت ولم تعد … سمعنا من الجيران أنها تزوجت نجاراً من “طنطا” وسافرت معه هناك … الموقف اليوم مختلف أنا محتاج إليها وهي محتاجة إلي ، إلي المنزل إذن ، السهر ، الحب ، الحياة ، الدنيا ، التخلص من قيود العقل ، وبرودة الغرفة الموحشة ، أمسكت بيديها قائلاً :
– تزوجتي !
– نعم رجل أعمال
– سعيدة في حياتك ؟
– إلي حد ما .
بدأت أفكر في الليلة التي سأقضيها معها .. أنا أهفو لجسد إمرأة .. جميلة قبيحة لا فرق ، الفرق هو أن الحياة بلا إمرأة ليست حياة ستكون ليلة رائعة .
– أين تسكنين الآن ؟
– في شقة في مصر الجديدة .
– وأنت ؟
– نفس الشقة القديمة في “السيدة زينب” .
– معكِ أولاد ؟
– الحمد لله معي أشرف وسارة وهاجر ( كانت تحدث نفسها ) ما زلت أعاني من حياة لا أعيشها وواقع لا يمت لي بصلة لا أستطيع الهروب كأنني شيطان اعتاد الجحيم ، عندما يكبرون سيحلون علي مكاتب في وظائف محترمة سنفتخر بهم ونتباهي أمام كل العشش المجاورة لنا .
– أشوفك علي الأقل مرة كل أسبوع وليكن يوم الخميس ؟
– مشغولة هذا يوم مخصص للشوبنج ( يتبادلان نظرات الإعجاب في صمت وحيرة ) تذكرت منذ فترة أن يوم ” الخميس ” دائماً يوم الطبيخ ، تحرص علي شراء العظم من عند “الجزار” الذي يمنحها أحياناً قطعة لحم نظراً لملابسها المتهالكة ونظرات الحرمان والإنكسار المحفورة في ملامحها ، تطبخ للأطفال شوربة وأرزاً بالكاد تخفي قطعة صغيرة من اللحم لزوجها يأكلها عندما يصحو من اغفاءاته الطويلة .. حاولت قطع فترة الصمت قائلة :
– أنت معتاد علي المجيء إلي هنا ؟
– كل يوم تقريباً في نفس الميعاد ( كان يحدث نفسه ) اشعر بميل شديد نحوها لم أعد لدي صبر لكبت أشواقي .. تعالت ضحكتها وكانت هذه المرة مصطنعة علي شفتيها فجائتني قائلة :
– كم ستدفع ؟
– مثلما يدفع الآخرون . ضغطت علي أسنانها خمسمائة جنيه ..
– موافق ..
– عيناها تتابع سيارة بيضاء لامعة بداخلها شخص يلوح بيديه ورأسه باشارات وايماءات متلاحقة ..
– إلي اللقاء .
في سرعة البرق داهمنا عربة الشرطة أخذت كل الموجودين في الشارع ، انتفض جسدي رعباً أخذت عيناها تفحصان عينان صارميتن لضابط شاب طويل ذي شعر أسود تلمع علي كتفي بدلته البيضاء النجومُ الذهبية ، عم المكان صمت غريب كان الضابط يحاصرنا بالأسئلة :
– وبعدين معاكي يا زينب أقصد زيزي هانم مش تحترمي سنك بدل شغل الدعارة ده .
دق قلبها بعنف ابتسمت ابتسامة مصطنعة كاشفة عن أحد أسنانها العلوي المتهالك قائلة :
– آخر مرة يا سعادة البيه .
امتزجت مشاعري بالغضب والقلق داخلي .. حلبة مصارعة بين ثور الشهوة الهائج الذي تتوالي الطعنات عليه . فيترنح سكير مرات ومرات ينزف دم تمزقه رياح الغدر والتقاليد ، مصيره في النهاية الرمي للكلاب وبين فارس “الماتادور” الذي يستعرض سيفه بحركات استعراضية بطيئة ومعه المهرجين بملابسهم المتلونة المنفرة التي تتلائم مع المظاهر الخادعة في حياتنا ، أتحامل علي نفسي لأرتفع بجسدي الذي استسلم للأرض قائلاً :
– لم أفعل شيئاً أستحق عليه أن يقبض عليٌ .. حاصرتني الحسرة العميقة المعبقة برائحة اليأس أري الفزع والذعر في عينيها الباكية كنت أفكر طوال حياتي في استمالتها وكسبها إلي جانبي .. لكنها تجاهلت عذابي رأيت أيامي تضيع آه من أمانينا الخادعة توارت في التراب .. آه من شهوة خارقة حمقاء .. تلاشت كالسراب .. قدمي متجمدة حول مكتب المهانة المنبعثة رائحتها من كلمات الضابط الرنانة بعد فترة خرجت بأعجوبة من حبس محقق .. وجدتها تجذبني من جديد كي تشعرني بطعم الحرية والنشوة واللذة .. تتلاعب بي كدمية في يدها .. أنها “حياتنا الغادرة” التي تحتفي بسهرات جديدة وزبائن جدد وبعد أن تنال غرضها تلحق بهم كسابقيهم فتأوي بهم إلي جوف النشوة الزائلة والمهانة واليأس حيث القرار الأخير.
Discussion about this post