وما زالت سورية الحبيبة تثري أدبنا العربي بمواهب فذة
لقاؤنا اليوم مع موهبة نقدية أذهلتني قراءتها لنصي البسيط
إنها الأستاذة الأديبة/ جدوى عبود
…………………………………. ……
النص
* بعضنا لا يستحق أن يعيش مرتين *
………………………
نص تجريبي ل / محمد البنا
…………………………………
سألته باهتمام
– أريد أن أسمعها منك مرة أخرى
– أحبك..أحبك..أحبك
أطرقت رأسها وصمتت هنيهة ظنها دهرا
– لم أعد أحس بها منك
أصابه وجوم سبقته دهشة، سألها
– ما الذي تغير بين أمس واليوم؟..كنا..كنا..
أشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى، تتأمل الفراغ الممتد إلى اللاشيء، همهمت
– الكثير الكثير..تغير الكثير
نظر إليها يتمعن ملامحها مستغربًا كلماتها، صافحها صوته المتهدج
– أنا لم أتغير!
أجابته دون أن يكمل جملته
– أنا التي تغيرت..ألا تفهم ؟..أنا أحب رجلًا آخر
صفعتها حروفٌ تناثرت من بين شفتيه المشتعلتين غضبا
– وأنا ! ..أكنت تتلهين بي سنينًا مضت..أجيبي
هو انتظر إجابة، وأنا اتخذت قراري ألا تجيبه أبدا، حاول معي كثيرًا أن أضع كلماتٍ على لسانها، وحاولت أنا أن أقنعه أن يتركها ويمضي؛ ليحفظ بعضًا من ماء وجهه الذي أراقته أمام عينيه بدمٍ بارد، بينما كانت هى تراقبنا في صمت، قرأت في عينيها الغائبتين عن مسرح الحدث، أن بخلدها شيءٌ آخر تعتزم المضي إليه دون الرجوع إلي، ولكنها آثرت الانتظار، لترى ما سيؤول إليه نقاشنا، وسؤالي لكم يا قرائي الأعزاء..هل لكم أن تخمنوا من منا سيقنع الآخر؟..وهل قرأتم ما خبأته نفسها عني، ذلك الذي باحت به لي عيناها؟
– سمعتك يا صديقي سمعتك، ولكن هل يشاطرك الآخرون نفس الرأي؟..أترى همهماتهم؟ لا أنا ولا أنت نسمعها، ولكن يمكنك من تتبع انفعالات ملامحهم أن تلحظ أنّ بعضهم يوافقك، بينما يعارضك البعض الآخر..
يا الله!.. انظروا لقد فاجأنا جميعا، وبادرها بسؤالٍ دون..دون أن يعيرني أي أهمية، دون أن يعبأ بوجودي، بل وبقدرتي على محوه تمامًا من سطور قصتي..أقلتُ قصتي؟.. بلى قلتُ وسمعتموها كلكم، كانت حروفها نقية واضحة ودامعة أيضا
– ضعي نفسك مكاني للحظة..
قاطعته وقد التفتت إليه بكامل جسدها البلوري
– ماذا تقصد؟
– لو جئت أنا إليك وأخبرتك أنني لم أعد أحبك، وأن أنثى أخرى استحوذت على كل مشاعري..ماذا ستفعلين ؟
أجابته دون تردد
– سأحبك أكثر
سألتها نظرته المندهشة والمستغربة في آن، استطردت
– لن أدعك لتهنأ بك غيري وتمتلكك..أنت لي أنا، أنا فقط..أتفهم ؟
– إذن هى غريزة امتلاك، لم يكن ما بيننا حبًا..امتلاك..كان هدفك امتلاكي ..امتلاكي فقط
– سمّيه ما شئت، لا تعنينني المسميات في شيء
وفي غفلة مني – هو ظن ذلك- أمسك بيد معولي، وضربها على أم رأسها، ليشج التاج نصفين، قبل أن تتناثر بلوراتها وتسّاقط هاويةً إلى أرضية الغرفة دون دماء.
محمد البنا…القاهرة في ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٢
…………….
القراءة
بعضنا لايستحق العيش مرتين :
في داخل النص شيءٌ صامت خفيٌّ كما فيه انفعال ٌ وغضبٌ وازدحام شخصياتٍ.
ظهرَ الإنفعال في علاقةٍ مضطربةٍ بين عاشقٍ ومعشوقته ،ثمّ ظهر في غضبه من هيامه بها ولامبالاتها بمشاعره، ثم ظهر في وقت الازدحام بأشخاصٍ كُثرٍ هم جمهور القراء الحاضرين في مسرح الأحداث ،ثم في ظهور الكاتب على الملأ كي يجوهر النصَّ ويتقن تقديم الأفكار ،حيث أبدى رغبته بأن يخلق توازناً بين عاشق اراق ماء وجهه على مذبح الحب،ومعشوقةٍ أروع ما فيها تلك الشفافية والرقة والنقاء مكللاً بالكبرياء كل هذا تاجٌ تتزين به الأنثى.
تُرى أيظهر عمق وجدانها وعمق ماتفكر فيه من عينيها كما يقول البطل؟ أم من عمق رغبته واشتياقه ولوعته في الحب وهي أمامه؟
هي مرآته ومرآة أفكاره الخفية(طوع أمره) .
هي الانثى التي أكد أنه صاغهاكما يحبُّ ويشتهي وكأنه يقول:
كوَّنتُ طيفكِ تمثالاً يبادلني
نجوى
فَشَاقَنِي سِحرُهُ الدَّاجِي وأغْوَانِي
أهديْتُ مُقْلتَكِ الهَدباءَ حِلْكَتَها
ألا ترَيْنَ بها طبعي وألواني
إذا تبرَّأتِ الأكوانُ من نِعَمِي
فكيفَ يُجْحِدُها ثغرٌ وعينانِ ؟
إذا بها تتمرد ،وتأبى البقاء وتقول له كلمتها القاتلةَ: أحبُّ رجلاً آخر..
هنا تظهر العقوبة في جملة العنوان بصمتٍ :بعضنا لا يستحق الحياة مرتين..تكفيه مرة واحدة وقد أحب فليمت بعد أن انتهى الحب.
قرأت في النص ولهاً وتعلقاً دلَّتْ عليه الكلمات: أحبك أحبك أحبك، مستغرباً كلماتها ،آثرت الإنتظار ،خبأته في نفسها .. ..
يتداخل حديث البطل مع حديث الكاتب ويقترح عليه مايراه مناسباً ..كل هذا في مرحلة فقد الحب ، ليبدوا شخصاً واحداً تتنازعهما رغبةٌ واحدةٌ في حفظ الكرامة.. يتجاوز اللاشعورُ الشعورَ ويحمل ازميلاً يريد أن يتخلص به من قلق التجاهل واللامبالاة فيضرب تاج كبريائها مما يهشم الجسد الذي يتناثر ويصبح هباءً.
هنا تظهر مرة أخرى: بعضنا لايستحق الحياة مرتين..مع وعي المرأة وشفافيتها ورقتها حياة لاتستحقها بعد أن ترفض الحب ..
الآن..هل هذه المرأة تمثال حقاً أمام البطل ؛ام هي حقيقة امرأة فيها نقاء الكريستال وروعته وقيمته ،كما فيها الإنفعال والضجر والتقلُّبُ تسقطها وتهشِّمُها كلماتٌ من رجل تعرض للرفض والخيانة.. والإهانة؟.
هل يقصد الكاتب أن يقول:
حين تحبُّ المرأة تملأ الحياة رغَداً وحين تريد المغادرة تغادر
فلايبقى منها سوى وهم وبعض الكلمات..
هل تبقى حياة الرجل خاوية بدونها؟ أليس العكس صحيحاً أيضاً..؟
في هذا النص بدت المرأة تمثالاً صنعه الرجل كما شاء وأتقن صنعه وأحبَّه ُ..
في سبر أغوار الرجل قلقٌ اضطرابٌ إلى جانب قوةٍ وعنفوانٍ يأبى أن يكون الضعيف ، يفضّل أن يبقى الصورة التي لايمكن أن تهتَزَّ أو تُهانَ.
حقاً ماقال: تهَشَّمَتْ دونَ دماءٍ ..فهدرُ الكرامة والكبرياء ليس قتلاً للجسد،ليس موتاً ،وانما قتلٌ للنفس والروح
وهذا موت آخر..اشدُّ وأصعب
قصده الرجل حين ضرب التاج بالإزميل وهنا تتأكد مقولة العنوان حقاً مقصوداً عن سبق إصرار
بعضنا لايستحق الحياة مرتين..
سأقف عند كلمة الازميل الذي
كان مرَّةً في يد النحات صانع التحفة وقد نطقت
وكانت رمز الروعة والحُسن .
ومرةً في يد البطل انتقم فيه من محبوبته بتهشيم تاجها وتساقط جسدها هباء(قتلها)
ومرة في يد الكاتب قلماً يكتب ويوجِّه الفكر والأحداث نحو ماشاء ليقول على لسان البطل عن امرأة غادرة ورجلٍ عاشقٍ ينتقم منها ويضع حداً لحياتها بالموت .
شكراً للكاتب الناقد والأستاذ @Mohamed Elbanna
على نص يدخل فلسفة العلاقة بين الرجل والمرأة من باب القيم والأخلاق والحب .. والإحساس بالجمال.
شكراً على نصٍ قويٍّ عميقٍ صعبٍ بقدر ماهو مُلفتٌ بالقيمة والأهمية..
تحيتي وكامل الاحترام.
جدوى عبود …سورية في ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٢
Discussion about this post