كتاب يستحق المتابعة :
https://www.facebook.com/DarMoutawassitia
(وحلة الكلاب) للروائي فرج الحوار
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير .
منْ تقاضي إذا كان خصْمكَ القاضي ؟
في كتابه بسيدو (Pseudo) ورد على لسان إميل أجار ويمكن اعتباره الإسم المستعار للكاتب الفرنسي رومان قاري( Romain Gary ) :
(… أنا بالفعل مؤلف جماعي بسبق إضمارأو بدونه .ليس في وسعي بعد أن أؤكد لكم أحد هذين الإحتمالين , وأنا لا أعتقد للوهلة الأولى أن لي ما يكفي من الموهبة لأتخيل إمكانية وجود سبق إضمار زهري أو من نوع مماثل , لا لشيء إلا لأختلس من نفسي أثيّرا أدبيّا …).
وهذه الفقرة بالذات وردت في تصدير لرواية جديدة للكاتب والروائي فرج الحوار إختار لها عنوانا غريبا ومستفزا في آن ( وحلة الكلاب) .فهل هذا يعني أن الحوار هو نفسه مؤلف جماعي بسبق إضمار وبدونه, وهو بالفعل يختلس من نفسه نصوصه الإبداعية ؟ وما علاقة وحلة الكلاب بالرواية ؟
والمعروف في الذاكرة الشعبية التونسية عن المثل (وحلة الكلاب ) ويقابله المثل( وحلة المنجل في القلة) وكذلك المثل (وقفتْ الزنقة للهاربْ),خاصة في توصيف الوضع المتردي الذي آلت إليه البلاد في غياب الحلول الضامنة للخروج من الأزمة ,وفي غياب العقل الحكيم والمسؤول لمعالجتها والخروج منها بأخف الأضرار, كان القفز على حلّ إشكال (وحلة الكلاب ) بالإعدام , وربما حلّ إشكال وحلة المنجل في القلة , إما بقطع المنجل أو تكسير القلة.وربما كذلك حل إشكال وقفت الزنقة للهارب بالقضاء على الهارب , وفي كل الحالات ستشتدّ الأزمة ويسير الوضع نحو الأسوأ .
والأكيد أن الكاتب فرج الحوار من خلال هذا العنوان المثير أراد أن يضعنا منذ البداية في صلب الموضوع الذي عالجه في روايته والذي من خلاله سنكتشف حقيقة وضع البلاد في هذا الزمن بالذات.
ولكن قبل الغوص أكثر في متاهات هذا النص الروائي لا بد أن أشير بأنني في متابعتي لكل كتابات الحوار خاصة التي كتبها باللغة العربية لاحظت تنوعه وبحثه الدائم عن الشيء الجديد والمغاير وحرصه الدائم على الإبتعاد عن التكرار والرتابة في مستوى الأسلوب. كما لاحظت إستمراره في خلق لغة جديدة تثير فضول القارئ و تدفعه إلى الغوص بعيدا في مقاصد النص وصاحب النص .
و( وحلة الكلاب ) هو نص جديد متجدد للكاتب فرج الحوار جاء بعد سلسلة من الروايات التي تتعرض إلى فظاعة الإسلام السياسي في فترة ما يسمى بثورة الياسمين وما تابعها من ممارسات أصحابها الراكبين على الدين والذين أغرقوا الوطن في الظلمات وعادوا بالمواطنين إلى زمن كنا نعتقد أنه مرّ ولن يعود . وأذكر من بين هذه الروايات (المنسية) و(التطهير) و(الجريمة) و(حدثني الفينيق) و( المؤامرة ) وغيرها . وهذا النص الجديد صدر عن الدار المتوسطية للنشر بتونس سنة 2022 ,في أكثر من 400 صفحة .وقدمه الأستاذ الجامعي محمد نجيب العمامي الذي كتب في صفحة 15 : كلنا في حالة سراح شرطي …وجاء في التقديم :
(… تروي “وحلة الكلاب” محاكمة ما كان لها أن تولّد السرد , ولا أن تكون محوره الرئيسي , لو لم تدر في فترة تحوّل سياسي وليد ثورة سكت النصّ عن مطالبها وأهدافها ومنفّذيها . ولكنه أفرد , في المقابل , مساحة كبيرة للمستفيدين منها , ولمن توهّموا أنّه يمكن أن ينتفعوا منها . وبما أنه لا بدّ لكلّ ثورة من ثورة مضادّة – كما جاء على لسان احدى الشخصيات – فإن الشخصيات انقسمت حزبين متنافرين : حزبا أغلبيا , وحزبا أقليا , ضعيفا , مستضعفا ,لا يضم غير المتّهميْن , علي أبوحيرة وزوجته نزيهة الفارح , حبيسي قفص الإتهام .)…
و(وحلة الكلاب) رواية أرادها صاحبها في خمسة فصول واختار لها شخصيات متنكرة خلف أقنعة عديدة وبأصوات مختلفة بداية بالزوجة نزيهة الفارح وبزوجها علي بوحيرة المتهم الرئيسي وقد كان مستكتبا بأحد المحاكم ويعرف أسرارالقضاء وتجاوزات القضاة التي يتوصل إليها من خلال تقاريرهم. وصولا إلى الطبيب النفسي ياسين الدويخيلي استمات في الدفاع عن الزوجين المتهمين . بالإضافة إلى شخصيات أخرى فاعلة في هذه الرواية أذكر من بينها القاضي ورب العرين أو المنصة وكذلك قحبة الجمهورية .وهذه الشخصيات في سلوكها وممارساتها يمكن توزيعها إلى صنفين . صنف يسعى لطمس الحقيقة وإسكات الأصوات . وصنف يحاول بشتى الطرق أن يكشف المستور ويفضح التجاوزات التي أودت بالبلاد إلى وضع يصعب الخروج منه .وعلى هذا الأساس كان اختيار الكاتب موفقا .لأن عنوان (وحلة الكلاب ) يجسد الحالة التي أصبحت عليها البلاد بعد العشرية السوداء تحت حكم النهضة وأتباعها وكذلك فترة الباجي الذي كثيرا ما ردد المثل (وحلة المنجل في القلة )ومن بعدهم وصول قيس سعيد إلى قصر قرطاج .وتجسيد المثل القائل (وقفت الزنقة للهارب).
والحال أن (وحلة الكلاب) , ( وحلة المنجل في القلة ), (وقفت الزنقة للهارب ),(وخر وخر ظهر البهيم وفى ), تقريبا كل هذه الأمثلة تتردد كثيرا في هذه الفترة بالذات في أغلب وسائل الإعلام وفي فضاءات التواصل الإجتماعي ولعلّ الغاية منها توصيف الحالة التي وصلت إليها تونس من غلاء الأسعار وتفاقم ظاهرة البطالة وغياب المواد الأساسية في الأسواق والمحلات التجارية والإقبال الكبيرعلى هجرة الموت والشعور بالخوف وبعدم الإستقرار في بلد يفتقد لكل مرافق العيش الكريم . وعن هذا الوضع الكارثي ,وفي قفص ,رغم ضيقه يسمح للقارئ بمتابعة كل ما يحدث في هذا البلد بما في ذلك العلاقة الحميمية بين الزوجين المتهمين .وبأسلوب فيه من السخرية الشيء الكثير وفيه من العمق ما يجعل الباحث يغوص ويحوم في المعاني ويخلع الأقنعة عن الشخصيات ليقف وجها لوجه أمام الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة التي يعيشها كل مواطن في هذا البلد المهزوم .
وكما ذكرت سابقا علي بوحيرة هذا المستكتب في المحكمة هو في الحقيقة مبدع وصاحب رواية (الكلمة الفصل ) أو الكلمة النصل كما يحلو له تسميتها , فصلوه عن العمل , وأبعدوه عن الحبر السحري والقلم الأمين ,مخافة أن يكشف النقاب عن المخازي التي تواري العورات النتنة في جلباب العدالة الإنتقالية المهووسة بالشكل دون المضمون .حبسوه في قفص وانهالوا عليه سبا وشتما وتنكيلا حتى تثبَت إدانته ويُعدمَ كما هو مقرّر منذ البداية لأنه حسب رأيهم عدو الثورة وعدو الحياة . وكما يقول المثل الشعبي ( إذا كان خصمك القاضي من تقاضي ) وهو مثل ينطبق على من يحاول أن يصل إلى حق أو إلى طموح معين أو إلى قضيه يأمل أن يكسبها وكل الدلائل تؤكد أحقيته في الأمر ومع ذلك يذهب الأمر والحكم إلى شخص آخر بسبب قربه من القاضي أو أن صاحب الحكم في الأمر هو الخصم الذي سيكون في هذه الحالة حريصا على منع الحق من صاحب الحق، ولهذا ليس له إلا هذا المثل الشعبي الدارج الذي يدل على الاستسلام وعدم المحاولة لأن الخصم هو القاضي وبالتالي لاداعي لمقاضاته لأن الحكم معروف سلفاً.وقد وردت فقرة في صفحة 333 بعنوان المتهم جاءت على لسان (هو) أي رب العرين :
(… إن قلت من أنت أو لم تقل , أجبك أنك أذنبت و أبعدت في الذنب . وإن قلت ما شئت , أو ما شيء لك , أو ما لن تجود به المشيئة أبدا , أجبك أنك أجرمت في حق لسانك فقطعته خوفا أن تورطه في جريمة أخرى تهدر دمك .قل أو لا تقل فالعدالة الإنتقالية أرحم بك من لسانك في كل الأحوال …).
وفي تصريح للمتهم علي بوحيرة عند لقائه مع الطبيب النفسي قال في صفحة 107 :
(…جحافل الأوغاد , ومعاول النكير والزجر في حرم العدالة الإنتقالية , وفي غيرها من حرمات الغد الأفضل وملاحقه المحرّمة , تسللوا إلى حرمتي الجسدية , وأعملوا فيها شرائعهم و قوانينهم ومحاكمهم حراما ومنعا ونهشا وتمزيقا , وهم يتراكضون كحصار قدّ من لحم الفتح العتيق ودمه المبين …).
وكم حاول هذا الطبيب النفسي شرح بعض المبهمات النفسية الجمالية التي كان علي المتهم الرئيسي في هذه القضية غافلا عنها طوال حياته المهنية ومصدقا أن القضاة لا يقولون إلا الحق . وأكد له في صفحة 86 :
(… القضاة يكذبون ويسرقون ويرتشون ويفسقون ويقيمون الثورة ولا يقعدونها حفاظا على الإستقلالية التي تسعى بالكنوز إلى جيوبهم المتورمة بالكسب الحلال …).
في هذه الرواية نلاحظ أن كل الشخصيات ترتدي أكثر من قناع , ولكن أصواتها تفضحها وتحيل القارئ إلى الواقع .فلا يتعب كثيرا في البحث عن الذي يختفي خلف القناع .فأكثر من كلمة ,وأكثر من جملة ,وأكثر من صورة,وأكثر من مشهد ,تحيلنا مباشرة لصاحبها أوقائلها أوحتى المخلوقة على قياسه . بحيث من البداية تتوقفنا عند القراءة هذه الإشارات التي أضحت علامات خاصة بأصحابها . فنقرأ على سبيل المثال في صفحة 50 : (كفى الإنقلاب ما عبث يا مولاي سنلقي به خارج صندوق الإقتراع بالقانون) وفي صفحة 64 : (وليسقط الإنقلاب). وفي صفحة 65 : ( الثورة متمة نورها ولو كره الكارهون ). وفي صفحة 77: (ألم أقل لكم إن البوليس غير مضمون ) وفي نفس الصفحة (ألم أقل لكم أن العسكر غير مضمون ) .وفي صفحة 90 : ( لماذا تزهد في الخيال الوطني ). وغيرها كثير وهي إشارات تدل على أصحابها في الساحة السياسية في تونس ما بعد الثورة .
أما عن أحداث الرواية فهي لم تخرج من هذا المكان الضيق الذي يسمى قفص الإتهام . أي أنه قفص يشبه أقفاص القردة . وحتى المتهمين وُصِفا في أكثرمنْ مرّة بالقردة .ورغم ذلك فضيق المكان لم يمنع الزوجين من التصرف والتحرك بحرية ,وكأنهما في منزلهما الخاص بعيدا عن أنظار الغرباء بحيث نقرأ في صفحة 36 على لسان الزوجة نزيهة :
(…كنت وعليّي نرى ونسمع , ونحن جالسان في الصالون الواقع في الركن الأيمن من قفص اتهامنا , فراب الأصلع جمودنا ووجومنا , وسأل القاضي وهو يمد نحونا يمينه : من هذان القردان ؟ …).
وبعد أن قضيا زمنا طويلا في هذا القفص وسُلبا منهما كل شيء الرأس واللسان والجهاز التناسلي ولم تعد لهما حياة تذكر بتهمة تحبير كتاب ( الكلمة الفصل ) للمتهم علي ومشاركة نزيهة بصفتها محرما لزوجها .وكانت النهاية التي تقرّ بأن علي أحبّ نزيهته حتى الموت , ونزيهة أحبت عليّها حتى القتل . حيث نقرأ في صفحة 400 على لسان البطل علي :
(… لم تتمالك نزيهة أن صاحت وقد تملّكها الروع :
– أنا أزهق روح عليّ بشيئي …
وددت لو تواتيني الشجاعة فأعترف لنزيهتي أنّ للقفص منطقه الذي لا يقرّه منطق عش الزوجية . ولكن الجبن الإبداعي ألزمني بالصمت حتى لا أنغص عليها ما تبقى من عمرها الإفتراضي . ومن يدريني ألاّ تحرمني نزيهة , إن هي غضبت بدون رجعة منْ شرف مشاركتها حبل المشنقة …).
ولعلها النهاية المحتومة والمقررة مسبقا من قبل السلطة الحاكمة في هذا البلد .
وقبل أن أختم هذه الجولة السريعة في مفازات الرواية , لا بد أن أشير إلى ماكتبه الأستاذ صالح الماجري في التقديم وتحديدا في صفحة 24 :
(…هذه الرواية هي قبل أن تكون غرضا أو قصا أوأفكارا , هي قبل كل شيء أسلوب . وهو في عديد مظاهره ومن هذا المنظور يشبه بشكل عجيب المؤلّف الأخير لسيلين (حرب) ( Guerre ) الذي صدر أخيرا عن دار غاليمار Gallimard.
يجب أن نقر أخيرا أن قراءة هذه الرواية تتطلب زادا ثقافيا واقتدارا لغويا …).
Discussion about this post