ما بينهما … _1
(الياسمين يذبل لكن لا يموت )..
ما ..
ما بين جسد ڤيينا ودمشق خيوط جدا دقيقه ..وتفاصيل جدا عميقه ..ما بينهما عامل مشترك .. الوجه الحسن الذي تتماوج صفحاته أسرار من عمق التاريخ وألغاز وشيفرات لا يمكن فكها إلا يد ممتده في تخوم الزمن ..
ما بين بردى والدانوب همس وحكايات ..وأساطير تسبح فوق صفائح وجه النهرين
لو وضعنا الخلايا التي تسبح في شرايين النهرين تحت المجهر الالكتروني الزمني لوجدناهما من بيضة واحدة منشؤهما ..
هنا سبحت ماريا يوما ما وهناك سبحت مريم وهنا ظل جسدها ما زال عالق بتخوم وشفة النهر وهناك بمحازاة شفته ..كانت ترنوا ماريا يوما ما إلى ذاك الجبل الذي يلف هذه المدينة الحسناء كما يلف المحب محبوبته وهناك ترنوا مريم إلى جبل قاسيون وهو يحرسها لا يعرف النصب والكلل والملل ..كانوا يغنوا لهم ولا تنام ڤيينا ولا دمشق إلا تحت صوت الحبيب ..
وفي يوم كئيب حزين خارج رزنامة الزمن يمد رأسه ليولد من فمه غريب ليغتصب دمشق .. ليطعنها وليغتصبها وليشرد أبناؤها وليوقظ ظل مريم من ثباتها بجانب النهر ليعدمه كما حاول ذات يوم أن يغتصب ماريا ويقتلها ويستبيح جسدها من جانب الدانوب ..
أفلتت منه ذات يوم ماريا وأهلها ووطنها والمدينة الحسناء ڤيينا وإنتصرت عليه بعد ردح من الزمن .. كشرت عن أنيابها وعقصت شعرها وشحذت سكينها وقاومت وفقئت عينيه ..قتلته بعد أن نكل بها وشوه جسدها لكن روحها لن يستطع المس به ..كانت صلبه ومقاومه ..إصطبغ الدانوب بلون الشرف والتمرد وأضحت رائحته أزكى وأطيب يفوح منه عبق المقاومه على المستعمر
ذات يوم تمازج ماء الدانوب مع دماء أبناء تلك الحسناء ڤيينا
ذات يوم خلعت تلك الحسناء قميصها المزركش وأدلفت لأرواح أبناءها بالصبر ومقاومة ذاك الدخيل لجسد أمهم
بقيت ردحا من الزمن لا تمشط شعرها ولا تصبغ شفتيها ولا تغتسل ولا تتطيب .. سنوات من الصبر وهي تقاوم ..كسروا أسنانها لكن لم يكسروا عقيدتها ..سلخوا جلد وجهها لكن ما زال ذاك الوجه الشاحب يمتلؤ حسنا وجمالا رغم غيوم الحزن الذي تغطيه ..
قاومت وإنتصرت …
حاولوا أن يكسروا جمجمتها بالصواريخ فوق رؤوس أبناؤها وأن يعدموا التاريخ الذي يسكن جسدها لكن فشلوا ..
ما أقساك وأظلمك أيها الإنسان ولكن الظلم أشد حلكة عندما يأتيك من جارك أو أخيك ..
البنيان يعاد ترتيبه وعمارته من جديد إذا هدمته يد الظلم أما بنيان الإنسان لا يمكن أن يعاد بناؤه إلا بعد عقود من الزمن والصبر والعلم ..
تصدعت أجزاء كثيره من وجه ڤيينا لكن لم تمت ..إستشهد الكثير من أبناؤها لكن لم تيأس إستلم الرايه نساؤها وبصبر وعزيمه أعادوا ترميم ما هدمته الحرب من يد الظلم وخلال سنوات أعادوا لوجه ڤيينا نضارته وبهاؤه بعد أن إحتضنوا أحزانهم وتجرعوها صابرين ..
وها هي ڤيينا تنهض من تحت الركام لتعيد بهاؤها السليب والذين حاولوا تشويه وجهها .. عادت الوجنتين كتفاحتين وصبغت شفتيها بأبهى صبغه من دم شهداء أبناؤها ومشطت شعرها وردمت تلك المخلفات في حفرة الماضي ورمت ببصرها لنور المستقبل ..
كانت نساءها جدا مناضلات وبنوا صرح ذاك الوجه بصبرهم وثباتهم وكدهم.. كانوا الجميلات في هذا الكون الرحيب ..بنوا وطنا بيد ويد أخرى تبني الإنسان فكان أعظم بناء …
وها هي ترنوا إلى شقيقتها في البهاء والتاريخ والنضاره دمشق لتقص عليها ما وطئها من ويلات ثم إنتصرت ..
دمشق الان تئن تحت أنياب الدخيل الظالم … شعرها منكوش ومتناثر ووجهها شوهه الاغراب والاقارب وشفتيها مشققتين وتلهث من ثقل الحمل الذي علا ظهرها من المستعمرين ..
بردى نضبت دموعه وجف وقاسيون أصابت أطرافه الشلل وكل شيئ تغير في وجه دمشق ..
حزينة هي ڤيينا على دمشق …
مات الكثير من أبناء دمشق ..وهاموا على وجوههم الكثير من أبناؤها وبلع البحر الكثير من أولادها وتقطعت السبل بالكثير من فلذة أكبادها ولم تنتهي الحرب بعد ..
تهشمت جمجمتها وتصدعت كل خلية في وجهها وكسى الحزن عيونها ولم تنتهي الحرب ..
نفوس أبناؤها أصابها الضياع والقلق والتشرد وإنتشروا في كل أصقاع الدنيا …
همست لي دمشق ذات ليلة دافئه قبل أن يدخلها ذاك الوحش ..
هناك ..هناك وإشارات لي بإصبعها غربا إذا إعتراك خطب ما أو عارض ما أو حزن ما أو مصيبة ما ..هناك أختي .. إختي بإنتظاركم .. يد الظلم جمعتنا ويد الحرب جمعتنا ..حضنها دافئ ونساؤها جميلات عفيفات وهم من صنعوا هذه الأجيال التي أعادت ترميم جسدها بعد أن دخله الاغراب ..
هناك حضن يشبه حضني وثدي يشبه ثديي وحليب يشبه حليبي ونهر يشبه نهري وجبال تشبه قاسيون تظلها وتحميها..إلى هناك ارحل ذات يوم ..
لن تشعر بغربه وكأنك في سوق الحميديه وبالجامع الأموي ..وزقاقاتها كزقاقات المرجه ..وأبواب تشبه باب ساروجه والميدان وباب شرقي ..هناك توابل لها نفس الطعم ونفس الرائحه ..وسوق الهال ..
هناك لن تخرج من جلباب تراثك وعاداتك ولن تشعر بقشعريرة التشرد ..
قالتها يوما ما وأنا في حضنها أنتظر طائر النوم كي يدخل قفص الجسد والروح ومن باب التسليه ولا تعلم وما خطر على بالها أن المستعمر بأطراف السور والباب يرمق ويحدق ويشد على شفته الغليظه مقطب الحاجبين ..
لم تعلم بأنه سيأتي ذاك اليوم وطائر النوم يرفرف فوق رموش العيون وأغصانها ومكتوب على جناحيه ممنوع الدخول إلى قفص هذه العيون وتخومها إلا قليلا لشهور طوال إلى أن يمسك أطراف روب يشبه روب ٱمه دمشق وخيوطا تماثل تلك الخيوط في الروب وكان ذلك بعد أمد من الدهر والقهر ..
ومد رأس غراب الحرب ليرمق دمشق وهطلت غيوم الطائفيه في أرض النفوس بعد أن كانت طهرا ..تلك الغيوم سحبتها رياح المستعمر بأيد قريبه وحلت الكارثه ..
شوهوا وجه دمشق وقلعوا لسانها وأسنانها وهشموا جمجمتها وتناوبوا في تعذيبها وسلخ قدراتها ..قتلوا كثيرا من أبناؤها ولم تنته المناوشات ..غذوا أنيابهم ومخالبهم في جسدها والدماء جرى في زقاقات جسدها ولم ينتهوا … وما زالت ..
سكن الحزن عينيها وسكن اليتم لكثير من أبناؤها وكبرت النفوس وشاخت وأصابها الهرم قبل ميعادها وإشتعل كل جسدها شيبا وما زالت تنبض باالألم …
مرت خمس أعوام عليها وهي تقاوم وما أن تغلق طاقة ألم وجرح حتى يفتح المستعمر جرحا أعمق وأشد ألما …
كل سماء دمشق تتلبدها غيوم من حقد وكره وظلم وكل الأمطار التي تهطل فوق أبناؤها تكاد تغرقهم ولا بارقة أمل ولا بصيص فرج يلوح بالأفق فالانفاق كلها حالكة الظلمه ..
وبدأت أقدام العوز والحاجه تتسلل إلى بيوت الناس وبدء القلق والاضطراب يدق أرواحهم التي تزدريها رياح الخوف ..
الخوف من كل شيئ .. ولف دمشق سواد القهر والجوع والدم والقتل وتشظي النفوس ودخل الكره كل حجرة إنسان وأضحوا خراف الشائعات التي تذبحهم ..خراف الإقتتال فيما بينهم والكل يغتال الكل والكل يقاتل الكل وإختلط الحابل بالنابل وجار الامس أضحى عدو اليوم ..كل ذلك صنعته ألسنة الفتنة من العمامات التي تعلوا رؤس الطوائف وماكينة الدعاية والفتاوى المعلبه كان منشؤها من تحت العمامه ..تلك العمامات تتسول من بلدان للاسف نعتبر دمها يشبه دمنا وعقيدتها تشبه عقيدتنا وتسامحنا تشبه تسامحنا …إلى أن هطلت بعض من ذاك المطر النذير بيتنا ..سلخ بعض من أبناءنا وقتله وهدم بيتنا وأصابنا قحط الامان والحياة ..قحط أبسط مقومات حياتنا ..
هنا همست لي دمشق بالرحيل ..
كانت دمشق تسكن قلبي وقريبة من روحي ..
قالت إرحل فوطنك لوثته جرثومة الطائفيه والشفاء منها يبدو معجزه الآن .. فوطنك أينما وجدت كرامتك وحريتك وإنسانيتك ..
هناك ..هناك ستجدها تنتظرك في مدينة السلام والمحبه ..ستلتقي بالدانوب وتبخ في أحشاءه قبلات بردى الذي يبكي الآن فقد بكى الدانوب قبله وعافاه الله وستلتقي بالجبال حول جسد شقيقتي ڤيينا ستعانقك فرائحة فمي في داخلك وخيوط روبي تلف روحك لن تشعر بالقر .. لا تنتظر ليس إبنك الوحيد الذي بلعه الحوت فجل أبنائي بلعهم وعصرهم في معدته وفي ظلمات بطنه …ليس هناك بصيص أمل ..ارحل
خلعت ذاكرتي وما تحوي من ذكريات طفولتي وحارتي .. نظرت إلى قهقهات كانت ملتصقه على الحيطان ..إلى آثار أقدامي وهي مختلفة الحجم والطول وعلى مدى خمسون عاما .. نظرت إلى بيتي الذي بنيته حجرا حجرا وفرشته وسادة وساده وخبئت ظل أطفالي وأحلامهم تحت تلك الوسائد وكنت لا ادري أنها ستحترق يوما ما ..
كل ظل فناجين القهوه تحت تلك الداليه بكت لعيوني وأنا ارمقها النظرة الاخيره ..كان أحب لاشياء لقلبي تلك المكتبه التي صرخت ..إلى أين .. تطايرت أوراقها بإتجاهي ..مسكتني من يدي التي لامست خدودهم جل الوقت ..إلى أين ..سيصيبنا عمى الألوان لفراقك ..سيعلوا وجوهنا إصفرارا ..لكن الحياة أقسى ..
أغلقت الباب الازرق بيدي ..كنت قد دهنت وجهه بيدي منذ عامين ..نظرت فيه ..قبلته وهمست له ..ما أشد ألم النفس عندما تعيش في وطنها بغربه .. فقد الامان والفقر والجهل والقتل والطائفية في وطن غربة مستعرة
حملت نصف قرن فوق كاهلي ودمشق في قلبي وسرت بدون أن ألتفت خلفي …
رميت تعب عمر كامل في دهاليز الزمن ومشيت وحدي شريدا ..
كانت كل أبواب الأقارب والجيران موصدة في وجوهنا …
هناك باب واحد ..إمي الثانيه تنتظرني ..
هناك العشيقه ڤيبنا تفتح كلتا زراعيها .. لكن أبواب الجيران مغلقة في وجوهنا فكيف الوصول إلى حضن إمي الثانيه ..
تركنا كل شيئ وحملنا أثقل الاشياء قلقنا وعيون اولادنا الذي بلعهم الحوت في ظلمات سجنه وبعض الملامح التي لا تريد أن تخرج من عيوننا وغذينا السير ..
الباب الوحيد الذي يصلني إلى حضن أمي ڤيينا موصد في وجهي ..
كانت الماكينه الاعلاميه تزين سوأة من قفل الباب ..
كل الحدود التركيه مراقبه والباب مقفل والمفتاح مع صاحب الجلاله وصاحب الجلاله يدهشنا بمحبته وخطاباته أمام الإعلام وتحت الشمس .. ويغذ في قلوبنا سكاكين النفاق والدجل في عتمة الظلام ..
مشينا الجبال وقطعنا الأسلاك ورمينا عمرنا وما يحمل من قهر وراء ظهورنا وتساوى الموت والحياة عندنا وليس هناك شيئ آخر سنفقده وهل هناك أغلى من دمشق وقبر والدي وقبر امي ..
وفي غلس الليل عبرنا الحدود ومعجزه من لم تصطاده رصاصة بن الجيران الذي يحبني في النور ويقتلني في الديجور. .
وكأن بركات ملامح دمشق وعيونها أطفئت تلك اللحظه عيون ذاك القناص ودخلنا تحت جنح الظلام وبكف الرحمن توسدنا ..نفخنا في وجه جاري الذي يدعي الايمان الحارس لبلده من دخول المعذبين نفخنا كل ضعفنا وكل اتكالنا على الله وكل همومنا وكل محبتنا لأمنا الثانيه فأصابت عيونه الرمد وكأن برزخا من كف الرحمن وضعه فيما بيننا …
وصلنا كااللصوص والمجرمين وكقاطعي الطرق وقلوبنا كقلوب العصافير مضطربه من أي صياد يفشي بسرنا فيغتالنا حرس السلطان ..ومشينا مشينا في غربة القهر اليأس يلفنا لولا ومضة أمل تلوح بيدها لنا من بعيد لتلاشينا ولأصاب نفوسنا القنوط والشلل ..
كانت يد ڤيينا تلوح لنا من بعيد فقد بعثت لها برسول قبل مغادرتي ولدي الكبير ليخبرها بأننا آتين لا محال لذلك إن لم يبلعنا البحر و أعماقه ..إن لم يفتك بنا رجال السلطان أية لحظة شؤم ..وإن لم تقيدنا كلاب الحدود الكثيره وتعضنا ويصيبنا داء الكلب فتتحول لغتنا لنباح ويتبدل بكاؤنا لنحيب. ..
أكثر ما كان يقلقنا رغم كمية القلق التي تسري في شرايين كلاب السلطان فوق اراضي الجاره التركيه …
لشهريين ونحن نمشي ونتسكع في أمعائها ..وكاد المال الشحيح الذي معنا أن ينفض غباره ويصيب جيوبنا القحط .. جائت عناية الله ويده التي سلختنا عن تلك الجاره التي تدعي الاسلام والمسامحه والرحمة في النور وفي العتمه تقتلنا وتغتصبنا وتنكل بنا
وركبنا وجه البحر في غلس الليل والموت يصطحبنا والقهر والظلم والنزوح ..قرأنا التعاويذ وتبتلنا وترجينا الله أن يلطف بنا …
وبعد شهر من ركوب وجه البحر وعبور الحدود الكثيره على أقدامنا وأحيانا نركب السيارات خلسه حتى نجانا الله ..
وها هو الذي يحملني في سيارته المغلقه وأنا مكوم كا البعير الأجرب مع أثاث وأغراض ورائحه وظلام دامس ولا منفس هواء وأنفاسي تختلج. ..
أرى نفسي فجأة مرمي بجانب الطريق أشعث ..أغير .. جائع .. قلق ..ضائع ..حيران ..غائب عن الوعي
وإذ بيد ..توقظني ..تمسح رأسي .. تحضنني . .. تأخذني في حضنها تهمس في إذني .. إنني أمك ..أنا ڤيينا لا تقلق ..لا تخشى من أي شيئ .. لا تقنط ..وصلت إلى بلد النور
وألقت وشاحها فوق قلبي الخائف ونفسي المضطربه كي أهدء من روعي وأتنفس قليلا بعضا من السكينه وأغط بثبات عميق بعد رحلة شاقه ..
وللقصة بقيه..
بقلم
طارق حامدي
Discussion about this post