امرؤ القيس وأنا وفنجان قهوة
بقلم: غريد الشيخ
صحوت عند الساعة الحادية عشرة صباحًا… ابتسمت … أشعر أنني كصاحبة امرئ القيس:
(وتُضحي فتيتُ المسكِ فوق فراشها
نَؤوم الضُّحى لم تنتطق عن تفضُّلِ)
طبعًا هذه عادة جديدة، أي التأخر بالنوم صباحًا، ربما لأن العمل صار خفيفًا هذه الأيام، أو لأنني فعلا بحاجة إلى استراحة المحارب بعد عملٍ طويلٍ مرهق…
المُهم يجب أن أستثمر هذه الفترة وأدلل نفسي..
تناول القهوة الصباحية، دون أن تكون مضطرًا إلى ابتلاعها لتلحق عملك، شيء جميل وممتع…
ولكن حشريتي لمعرفة تفاصيل صاحبة امرئ القيس دفعتني أن أدخل غرفة مكتبي مع قهوتي وأتناول ديوان شعره الذي شرحته يومًا لإحدى دور النشر..
وبدأت أقرأ بمتعة كبيرة، قرأت الوصف الدقيق وكأن فنّانًا يحرك ريشته على أنغام موسيقا العشق…
كيف لا وهو امرؤ القيس الذي غامر وتجاوز الحرّاس ليصل إلى محبوبته، وهو عارف أنهم لو ظفروا به لأردوه قتيلاً:
(تجاوزتُ أحراسًا إليها ومَعشرًا
عليَّ حِراصًا لو يُسِرُّونَ مَقتلي)
ووصل إليها وكانت قد ألقت عنها ثيابها مستعدة للنوم..
(فجئتُ وقد نَضَّتْ لنومٍ ثيابها
لدى السِّترِ إلا لِبسةَ المتفضِّلِ
فقالت: يَمينَ الله، ما لكَ حيلةٌ
وما إن أرى عنك الغوايةَ تنجلي)
ولكن مغامرة مع العاشق الولهان أفضل من النوم وأكثر متعة،
(خرجتُ بها أمشي تجرُّ وراءنا
على أَثَرَينا ذَيلَ مِرطٍ مُرَحَّلِ)
وكأن صاحبتنا كانت على موعد وانتظار ومستعدة لهذه المغامرة أكثر منه، فها هي ذي تجرُّ ذيلَ إزارها على الآثار لتُعفي آثار خطواتهما…
ويبدأ وصف المحبوبة التي لو تمعنّا بأوصافها لاستطعنا معرفة مقاييس الجمال في ذلك العصر
(فلمّا أجزنا ساحةَ الحيِّ وانتحى
بنا بَطنُ خَبتٍ ذي حِقافٍ عَقنقلِ
هَصرتُ بِفَودَيْ رأسِها فتمايلتْ
عليَّ هضيمَ الكَشحِ رَيَّا المُخَلخلِ
مُهَفهَفةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضةٍ
ترائبها مصقولةٌ كالسَّجَنجلِ
كبِكرِ المُقاناةِ البَياضُ بِصُفرةٍ
غذاها نميرُ الماء غيرُ المُحَلَّلِ
تَصدُّ وتُبدي عن أسيلٍ وتتّقي
بناظرةٍ من وحشِ وَجرةَ مُطفِلِ
وجِيدٍ كجيدِ الرِّئمِ ليس بفاحشٍ
إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعطَّلِ
وَفَرعٍ يَزِينُ المتنَ أسودَ فاحمٍ
أثيثٍ كَقِنْوِ النَّخلةِ المتعثكِلِ
غدائرُها مستشزراتٌ إلى العلا
تَضِلُّ العِقاصُ في مُثَنًّى ومُرسَلِ
وكَشحٍ لَطيفٍ كالجديلِ مُخَصَّرٍ
وساقٍ كأنبوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّلِ)
لا بدَّ أن أتوقف عن القراءة لأعودَ إلى معاني الكلمات التي ما عدنا نستخدمها لتغيّر ظروف العيش…
ولا بدَّ أن أعرف صورة فاطمة امرئ القيس وكان يدللها ويقول لها: عُنَيزة من خلال وصفه لها
هي إذن ضامرة الخصرِ، ممتلئة اللّحم والشّحم في موضع الخلخالِ من ساقيها.
مُهفهفةٌ، أي: قليلة اللّحم ضامرة البطنِ، أما ترائبُها، أي موضع القلادة فكالمرآة مصقولة، أو هي سبيكة الفضة أو الذهب (السَّجنجل).
أما لونها فبيضاءُ ، ولكن ليست بخالصة البياض، فبياضها يخالطهُ صفرةٌ، فكأنه أراد أن يخبرنا أمرين: أحدهما أنها بيضاء ليست خالصة البياض، والآخر أنها حسنة الغذاء.
أما عنقها فهو كعنق الظبي الأبيض الخالص البياضِ.
أما شعرها فخصله مرفوعات إلى فوق، إلا أن بعض هذه الخصل قد ضلَّ وأُرسلَ،
ويعود بنا ليصف خصرها الدقيق اللين كأنه حبل من الجلد المجدولِ اللين…
وليست فاطمة ممن يستيقظن باكرًا لعمل عليهن القيام به، بل هي تُضحي في نومها، ويبقى فتيت المسك في فراشها:
(وتُضحي فتيتُ المسك فوق فراشها
نَؤوم الضُّحى لم تنتطقْ عن تفضُّلِ
وتَعطو برَخصٍ غيرِ شَثنٍ كأنه
أساريُ ظَبيٍ أو مساويكُ إسحلِ)
أما بَنانُها فليّنٌ ناعم، كأساريع ظبي (وهي دوابُّ ظُهورها ملسٌ تظهرُ في الرمل والأمكنة النديّة، تُشبَّهُ بها أنامل النساء)، أو كالمساويك المأخوذة من شجر الإسحل.
ولكن امرأ القيس لا يكتفي بتلك الأوصاف الجسدية للمحبوبة، بل إنه يصف إشعاعها الداخلي فهي كمنارة الراهب التي تضيء في الظلام، والتي هي حلم يرنو اليه الحليم:
(تُضيءُ الظلامَ بالعشاء كأنها
منارةُ مُمسى راهبٍ مُتَبَتِّلِ
إلى مثلِها يرنو الحليمُ صبابةً
إذا ما اسبكرّتْ بين درعٍ ومِجْوَلِ
تسلّت عماياتُ الرجالِ عن الصبا
وليس فؤادي عن هواكِ بمُنْسَلِ
ألا رُبَّ خصمٍ فيك ألوى ردَدتُه
نَصيحٍ على تَعذاله غيرَ مُؤتَلِ)
ها هو يُؤكد لها أنه لن يسلوها ولن يكفّ عن حبها رغم من ينصحه بذلك..
وانتهت صبحيتي مع امرئ القيس.. وانتهت قهوتي… ومع أني حسدت فاطمة أو عنيزة على هذا المحب المغامر للحظات، ولكنني أفضل أن أكون أنا من يكتب عن مغامرة، فقد ذهبتْ هي ولا نعلم عنها إلا أنها فاطمة أو عنيزة أو واحدة من اللواتي غامر معهن الشاعر، وبقي هو ونصوصه ومغامراته……
Discussion about this post