أجمل النّصوص هي التي نحوم فيها حول هواجسنا وتوتراتنا بتفاصيلها الدّقيقة …وبعض المبدعين المرهفي الحسّ يستلهمون حالة في الذّات فيتوغلون في مضايقها ويتحررون من كل قيد وضغط في طمرها أوتكميمها…وفي هذا النّص تبثّنا الشاعرة سهام العطاوي ماضاق به عالمها
تقول في نصها
كيف نتعلّم كل هذا النسيان
من يومي لا احسن التذكر
واتعس محاولاتي حفظ الاسماء
و هذه الامكنة لا تشبهني
و حين اكتب التاريخ يصيبني الدوار
كيف لعقلي ذا …
ان يتحول الى اسفنجة
تبالغ في التضخم …
كنت اخشاها ان تتكور
…ليلا فتسد الباب
ذات فجرالتهمتْ النور المطل من شرفتي
فنبتُّ من قلب الله
…بعد ترحالي جنوبا اخرجني البرد
…غيمة
على خاصرة رجل غريب
…غيمة
تمر كخيط رفيع من ابرة كل مساء
لتجوب المنازل
… والحزن
… والمقابر
وبيوت الليل
تهطل مع الشجر و الارض
تغسل الغبار عن الجدران
واول الصبح تتلملم للعبور
مجددا تدلّك الطريق البعيد
اتضحت الرؤيا الان
بوسع الرجال الحزانا العودة
و قد رسمت نسوتهم على الجدار
رمزا للانتظار
سهام العطاوي
النّسيان الذي خلناه …نعمة …ننسى به فقدا أو وجعا أو غيابا أوحادثا ظلّ منغرسا في عمقنا كوخز الإبر…النّسيان الذي جاء في تعريف من تعريفات علم النّفس له
بأنّه محو لآثار اللاوعي بالتجارب الماضية القديمة وخاصة إذا كانت صعبة وذات تأثير سلبي فنحن نحبّ أن ننسى أسم شخص أساء إلينا وجرحنا
ونحبّ أن ننسى أزمنةاقترنت تواريخها بفقد وأوجاع وخيبات ..
ونلوذ بنسيان أمكنة أمكنة احتضنت ذكريات سيئة مؤلمة….
غير أنّ هذا النّص الموغل في جهامة وفداحة النّسيان صيغ من ذات أدركت الوصول الى أسرارها وأغوارها فجاءت الأصداء جليّة ..
فلنحطّ عند هذا النّص لنفهم محددات أخرى لهذا النّسيان عند مبدعتنا سهام .
فأول الكلام سؤال يومض بجهامة النّسيان..
تقول
كيف نتعلّم كلّ هذا النّسيان
مستهلّة نصّها بسؤال.يتسّم ب قدرة تفاعليّة توالديّةعلى امتدادجسد النّص ومقاطعه …هو السؤال الذي يعيد انتاج نفسه ..
والفعل “نتعلم” الماثل بصيغة الجمع المتكلّم يجعلنا لا نقتصر على التّلقي بل يأخذنا إلى الغوص في مدارات القلق والبحث وكلّنا نسّاؤون..وهي مهارة منها في تلبيسنا عباءة النّسيان وضرورة وعينا بفداحته
فبعد الاستفهام الأول تجيب الشاعرة بجملة تحقّق بها الإجابة عن سؤالها فالنّسيان سمتها إذ تقول
من يومي لا أحسن التّذكّر””
والتّذكر يُعتبر أحد العمليات الجوهرية التي تجري في الذّاكرة، إلى جانب التّرميز للمعلومات وتخزينها،
هو في تحديد دقيق من علماء النفس
استعادة الصّور السّابقة المرتبطة عقليا ببعض الأحداث الزّمنية والمكانية. والذّاكرة تعسفيّة كما يقال ، بمساعدة الجهود المطبقة للإرادة ، وكذلك لا إرادية ،
وشاعرتنا تعترف بأنّها لا تتقن عمليّة التّذكّر في اشارة إلى دقّة هذه العمليّة
ثمّ تتعامل مع التّأكيد على “النّسيان” بطريقة تشكّل ظاهرة لها دلالاتها في نصّها فتتسّع في اشباع المعنى بقدرة لغوية فائقة فتكثّف التكرار دون ترك انطباع الملل لدى متلقيها
تقول في هذا السّياق
وأتعس محاولاتي حفظ الاسماء
و هذه الامكنة لا تشبهني
و حين اكتب التاريخ يصيبني الدوار
فهذه الإعترافات تحدث اثارات في ذهن المتلقي وتشكّل منبهات تتنامى معلنة خطرها وتداعياتها على شاعرتنا
وتتناسل الدلالات ومعانيها في بنية تقوم على تشبيه للحالة وهل يمكن لشاعرة ألّا تؤسس لوصف الحالة على غير الاستعارة
تقول
كيف لعقلي ذا …
أن يتحوّل الىإاسفنجة
تبالغ في التّضخم …
فبإمعان النّظر في ما انتابها من نسيان فادح فهي تشبّه عقلها بإسفنجة ..وهو تشبيه يوصلنا إلى المعنى الدّقيق ..
فالإسْفَنْج في تركيبه وشكله وثقوبه ورخاوة ملمسه وامتصاصه -يتشرّب السوائل ويمتصّها نقول “تربة إسْفَنْجِيَّة”
فكيف وكيف
وهذه المبالغة في التّضخّم ..
فشاعرتنا لم تستوعب هذه الوضعية التي صارت عليها عملية التّذكّر لديها
وتطلق العنان عنتا على عنت وتحتلها وضعيتها من رأسها الى إخمصها ويجود الكلام عليها فتعانق روحها وقد هطلت وسالت وانسكبت شعرا ..
تقول
كنت اخشاها ان تتكور
…ليلا فتسد الباب
فالخشية تتلبسها وتضرب حولهاطوق النسيان واستعصاء التّذكّر وانسداد الباب المضيء إليها
وتكشف عن مقطع نصيّ لاحق باسطة سلطتها على اللّغة منمرّدةعن لحظة .ذات فجر..
ذات فجرالتهمتْ النور المطل من شرفتي
فنبتُّ من قلب الله
لحظة نورانية تنبجس..
تأخذها لحين …ثم تسحبها
موزّعة…. يتناسل ايقاع الشّعر من حالتها النفسية
فتعلن بيانها الشّعري الإبداعيّ
…بعد ترحالي جنوبا اخرجني البرد
…غيمة
على خاصرة رجل غريب
تستعيض بعذوبة الكلام فتصير غيمة
على خاصرة رجل غريب
لتصير كائنا اللّامرئيا تبتكر لغتها وكونها الشعري فتصير حلما… خيالا… خيبة (والرّجل غريب)
ويتسّع المعنى للغيمة بكلّ الممكنات المجازية والشّعريّة
تقول
..غيمة
تمر كخيط رفيع من ابرة كل مساء
لتجوب المنازل
… والحزن
… والمقابر
وبيوت الليل
توجّه كلّ طاقتها الإبداعيّةتمثّلا فتعمّق الحزن والوجع مستعملة معجمه(الحزن…المقابر….بيوت الليل)
تهطل مع الشجر و الارض
تغسل الغبار عن الجدران
واول الصبح تتلملم للعبور
مجددا تدلّك الطريق البعيد
اتضحت الرؤيا الان
بوسع الرجال الحزانا العودة
و قد رسمت نسوتهم على الجدار
رمزا للانتظار
وتختم نصها بعمق وكثافة فتستبطن كنه الأشياء بجمالية استعاريّة من قبيل “تهطل مع الشجر والأرض…تغسل الغبار عن الجدران…تدلّك الطريق البعيد…ولمّا تتضّح الرؤيا
فبوسع الرجال الحزانى العودة…
وماغير نسوتهن رسمن على الجدران
رمزا للإنتظار
ففي النهاية تتجاوزوتخرق الواقع الرّاهن فتجمّل …وتضيء..وتمنح الكون توهجّه…ليصير النّسيان نسيانا للتّفاصيل ..للأشياء المحزنة الغائمة فتأذن بالعودة للرجال الحزانى …وماغير النّساءمرمى لكل معاني الحياة والجمال والإستمرار
ممكنات شعريةّمنيرة مثيرة بدت فيها مبدعتنا مشدوهة …حاضر.ة…غائبة ….متذكرة …ناسية
نصّ احتفى بأناقة اللّغة اتسّع لشظايا النّفس البشريّةواحتوى همومها وتداعياتها..فكم جميل أن ننزّل ما يتلفه الزّمن فينا من ذاكرة …من توهّج…من ثبات لينهض على أوتاد نصّ نفتح فيه أبعادنا وفي مهبّ دلالات لا تخلو من حمولات وجدانتية انفعالية جمّة
فشكرا لمنتجة هذا النّص الجميل …وتبقى القراءة فيه خاطئة تنتظر قراءات أخرى تكملها وتتقصى مزيدا ىمن مكامن الإبداع فيه
منوبية الغضباني
19.01.2023
Discussion about this post