عبير منون
قراءة نقدية
قراءة في رواية (دموع بغداد ) للدكتور عبد المؤمن القشلق
روايات الحرب هي روايات توثيقية أكثر منها أدبية، وقد تميز كتّابها بالسردية المشوقة بعيدا عن المنمقات البديعية واتخذوا من البساطة اللغوية عطرا لجذب القارىء المهتم بالحدث الحقيقي ٍوفورا يتراءى للذهن الروائي العالمي ليو تولستوي الذي كتب روايته الشهيرة (الحرب والسلام )والتي كان لها دورٌ كبيرا في التعرف على قصة المجتمع الروسي خلال الحملات التي قام بها نابليون على روسيا وقد زج الكاتب فيها شخصيات خيالية وضعت القارىء في منعطفات تاريخية لتصبح هذه الرواية الاولى في العالم من حيث الأهمية ، وكذلك الأمر في رائعته الأدبية (آنا كارنينا ) التي أيضا كتبت في زمن الحرب ولكن بقالب عاطفي واقعي ، وأما حديثي الآن واضاءتي انما عن رواية أخرى صدرت عن واقع عربي في زمن الحرب بقالب عاطفي لايخلو من الرومانسية والمشهدية الدرامية
تتمركز أحداث رواية (دموع بغداد ) في زمن الحرب الأمريكية على جمهورية العراق بحجة القضاء على الإرهابيين والتخلص من الترسانة النووية الموجودة لديها ولكننا كلنا نعلم أن هذه الحجج ليست إلا ستارا للسيطرة على الثروات النفطية العراقية والمخزون الإحتياطي بعد الإطاحة بمنظومة الرئيس صدام حسين ! ولكن ! من يبدأ بقراءة الرواية (دموع بغداد )التي كتبها الدكتور عبد المؤمن قشلق سيلاحظ أنها ليست إلا خيطاً ذهبياً يلمع وسط أحداث آثمة محزنة ولهيب من مشاعر القهر على اوجاع هذا الشعب الطيب ، هذا الشعب الذي أرعب بذكائه المنظومة اليهودية ومن منا لم يشهد قتل العلماء والأطباء والمهندسين الذين أرعبوا العالم بذكائهم وابداعاتهم
قبل البدء في محاولة طرح خصوصية هذه الرواية وتفردها بين أخواتها من الروايات التي كتبت في زمن الحرب أريد ان أنوه ان الرواية لم تتجمل بمنمقات بديعية ، ولم يحتاج القشلق إلى أجناس ادبية لسردها أو كلمات قوية جزلة لنسج أحداثها لتقوية العمل ! لأن السرد الروائي بحد ذاته كان سردا بحتاً لطيفاً بسيطاً خالي من الألغاز والتساؤلات يجد القارىء فيها سهولة في فهم الأحداث من دون معاناة
كما ان الواقعة ارتبطت بمكان وزمان محددين للبيئة وقد قدم الكاتب الشخصيات كأبطال ضمن مساحة جغرافية معروفة فكانت البداية على أرض العراق ثم سورية وبعد ذلك نيويورك ومناطقها ، قُدمت تلك البلدان بشكل لطيف آسر ، وذلك من خلال الاطلاع على تفاصيل بسيطة كانت عنوان حياة الشخصية في ذاك البلد وقد لاتلفت نظر القارىء كثيراً ولكنه في نهاية الرواية يستنتج أنه تعرفَ على البلد من خلال هذه التفاصيل البسيطة التي أكدت ووثقت علاقة الجسد في الأرض وكان للشخصية دورٌ كبيرٌ في إظهار حقيقة الاعتداء الذي كان قد طُرح على لسان البطلة العراقية فاطمة بشكل ساخر عندما قالت لمن اقتحم منزل عائلتها ((اعذروني ياأعزائي فأنتم المواطنون الأمريكيون ساذجون قليلا في السياسة أي أنكم مسيسون تماما ً ولاتعرفون مايدور من حولكم فماتقوله لكم الـ س ن ن تعتبرونه حقيقة ولاترون أبعد منه.))
الرواية مشوقة جدا ، مليئة بالأحداث الحربية أبطالها ثوريون في الانسانية وهم العنصر الأهم في العمل الفني (الشخصية) والتي جسدت جوهر العمل والفكرة الأساسية فتجاوزت الكلاسيكية في المفهوم وزاد في جمالها التوتر الواضح على شخصيات الرواية من خلال المونولوج الداخلي لكل شخصية ولم يجنح القشلق عن سير الخط العام للرواية فحقق بشخصياته حضوراً لافتاً توجب الإعتراف به وعبّر عن نضج عقل الكاتب وكما نعلم جميعا أن صفات الرواية الناجحة تتصف بطرحها أفكاراً جديدة تبث الفضول في نفس القارىء كما أن الأحداث المطروحة في الرواية انتهت نهايات واقعية بالرغم من حساسية المواقف ، لم يتعمد القشلق الهروب من المواقف العالقة فيها بل عمل على تنظيم التوازن بين شدة الأحداث ورخائها كما أن الكاتب قام بالإجابة عن كل سؤال بادر ذهن القارىء ولم يبخل في التفاصيل رغم استخدامه للحلول المصطنعة لتكون إقداماً نحو القمة على أسس لولبية مع خرق بعض الأعراف التي تخلص النفس الإنسانية من قيود المجتمع
وأنا كمتلق وجدت العديد من مداخل هذه الرواية مساعدة في النهوض الأخلاقي
بطلها شاب أمريكي برتبة رقيب اسمه مايكل يُزج في الجيش الأمريكي لمحاربة الارهابيين العراقيين ولتخليص العالم من تخلفهم ، تفوده الحرب مع رفاقه إلى مهاجمة أحد الأحياء السكنية ويدخل معهم إحدى البيوت ليفاجأ بثقافة العائلة المؤلفة من الطبيب عبد الرحمن وزوجته وابنته فاطمة الفائقة الجمال والتي تتكلم بالإنكليزيه
بطلاقة وهذا مازاد من دهشة مايكل الذي سأل بدوره الشابة أين تعلمتِ الانكليزية فقالت أنها تعلمتها في جامعة اكسفورد وكذلك الأمر باقي العائلة وأكدت له أنها ليست كما يظنون امراة تقايض بالابل ، يتركها مايكل ويفك قيودها وقيود عائلتها لتبقى الشابة بجمالها وذكائها عالقة في جدران ذاكرة البطل ويبقى على تواصل مع العائلة التي رحبت به كولد من اولادها حتى أتى اليوم الذي قررت فيه العائلة النزوح الى دمشق هربا من الحرب في العراق وخوفاً من الهجمات الأمريكية المتكررة
رمزت شخصية فاطمة الذكية والجميلة إلى السلام العالمي بزواجها من ابن الغرب مايكل الشاب الثوري ضد الحرب المحب للسلام وبدوره احترم عادات وتقاليد فاطمة العربية فهي فتاة مسلمة من عائلة محافظة وهو شاب مسيحي بعيد كل البعد عن عاداتهم وتقاليدهم وقد تعلم مايكل العربية جيداً بعد أن اضطر إلى أكل بعضا من أمعاء الخروف المحشية والمأكولات الشرقية التي اشتهر بها العرب
استطاع القشلق التنويه بلغة ساخرة ذكية إلى مايفكر به الغربي تجاه العرب فهم يعتقدون أن العربي انسان متخلف ارهابي ولكن مجيء الجيش الامريكي المؤلف من شرائح متعددة من الشباب المختلفة في تعليمها وثقافتها وأخلاقها أزاح عن وجوههم الستار لتظهر حقيقة هذا الشعب الطيب المسالم
لاتخلو أحداث الرواية من التنويه أن هناك من أتى هذه الأرض لكسب المال والسلطة فلايهمه من قُتل او سجن ظلماً ، جل اهتمامه أن تنتهي هذه الحرب بغنائم ثمينة ، فانتقال أحد الجنود إلى سجن أبو غريب يُعد بطولة في حد ذاتها وتعذيب من فيه أيضا بطولة أكبر
سلّط القشلق الضوء على ساحة المعركة ليرسم مشهدا دراميا وكأنك تراه أمامك على الشاشة فذِكر التفاصيل الحربية في الرواية حقيقةً لايعرفها إلا الضابط العامل في السلك العسكري أو الجندي الذي شارك في المعركة وإن دل هذا فهو يدل على وعي وثقافة الكاتب وإلمامه بالعلوم العسكرية وثقافتها وكأن الأحداث التي رصدها من هجوم ودفاع وتفجير وقتل ووصف للأسلحة توحي أنه كان أحد المقاتلين المتواجدين على أرض المعركة وبجمالية أكبر وخاصة عندما أصيب جوني صديق مايكل في الحرب و خسر ساعده فيما بعد والحالة النفسية التي أصبح الشاب فيها وتلاه بعدها إصابة مايكل الذي حزن على صديقه جوني كثيرا وكيف تم اسعافه حتى نقل الى المشفى ، للحظة حسبتُ فيها أنني فعلا على أرض المعركة ، ومع تتالي الحداث يستمر حب مايكل لفاطمة رغم هذه الحرب التي أصيب بها و قد ساقتنى الذاكرة إلى رواية الخيميائي التي كتبها العالمي باولو كويلو حيث أن بطل القصة الاسباني (سانتياغو ) يحب الفتاة المغربية فاطمة في رحلته أثناء البحث عن الذهب كما هو الحال قي رواية القشلق الذي يحب فيها البطل (مايكل ) الشابة العراقية فاطمة وكلاهما يعمل على تحقيق هدفه من أجل الحصول على فاطمة
بعد أن يصاب مايكل في المعركة تتم معالجته بإجراء عملية جراحية يتم فيها زرع أسلاك في قدمه وقد تكللت العملية بالنجاح ثم يضطر لاجراء معالجات فيزيائية بعد نزع تلك الاسلاك و يعود الى بلاده ويتابع دراسته الجامعية وطبعا لايغيب عن ذاكرتنا أن الكاتب طبيب يزاول مهنته الإنسانية وبالتالي فقد أغنى هذا الجزء من الرواية بالمعلومات التي تفيد ثقافة القارىء الطبية (مضى أسبوعان وتماثل مايكل للشفاء وأظهرت الصور الشعاعية أن العظام في وضع جيد ولكن الكسور لن تلتئم سريعا وتحتاج بعض الوقت وأخبره الأطباء أنه سيخضع لعمل جراحي ثان بعد ستة أشهر لنزع الأسلاك التي ربطت العظام والسلاميات ببعضها وأنه سيبقى في الكرسي المتحرك شهرا آخر )
على إثر اصابة مايكل الحربية تم تسريحه من الجيش كما أنه تم تكريمه بعدة أوسمة على أنه بطل حرب وتشاغل بعد ذلك في البحث عن عائلة الدكتور عبد الرحمن وعائلته فهو لم ينس فاطمة وعندما ذهب إلى المنزل الذي كانوا يقطنون به فوجىء بوجود أشخاص تسكن المنزل فعرف أنهم ممن استعمروا هذا البيت فاعترض لأنهم ليسوا أصحاب المنزل وسألهم عن عائلة عبد الرحمن فاكد القاطن في البيت ان عائلة الدكتور عبد الرحمن قد نزحت إلى دمشق وأنهم بخير
فرح مايكل لمعرفته أنهم بخير لذلك قرر السفر إلى دمشق بعد
أن تم تسريحه من الخدمة العسكرية , وصف الكاتب العراقيل التي اعترضت الشاب بدقة متناهية
كان بطلنا مايكل يتابع أخبار الحرب اليومية عبر التلفاز فلايرى إلا الأكاذيب التي تطلق عبر وسائل الإعلام فكان يتعمد إغلاق التلفاز لأنه عرف الحقيقة
الإشتياق والحب الصادق حملا بمايكل للقاء بمن يحب من جديد ولكن سفره من مدينته ديترويت حتى دمشق كان حافلاً بالتعب والمشقة ليبدأ عملية بحثه في دمشق من خلال التواصل مع فرع الصليب الأحمر الدولي وهو نزيل في فندق أمية السياحي حيث نوه له المسؤول الأمني أنه يجب تقديم معلومات عن هويته وأن يقبل اللاجىء بذاته رؤيته ، وقد مكث مايكل على أعصابه يسأل في كل يوم موظف الفندق ان وصلته رسالة من فرع الصليب الأحمر أم لا فتشاغل أثناء فترة نزوله الفندق من خلال الدليل السياحي (ليون ) في اكتشاف أنحاء دمشق التي تعتبر أقدم المدن في العالم وأجملها والتي تحتضن الغادي والرائح بكل حنان وطيبة ليبدأا الرحلة في زيارة الجامع الأموي الذي ذكّره بمدينة البندقية التي تزين ساحاتها الحمام الأبيض ثم زار السوق المسقوف الذي اكتظ بالناس والسياح والمصطفين والباعة على الصفين ( محال مزخرفة منها الذهبية ومنها الفضية ونحاسيات وألبسة فولكلورية شرقية وكل مايتمناه المرء ولفت انتباهه باعة جوالين يحملون آنية كبيرة على ظهورهم مطلية بالفضة وينادون عرق سوس…)
أما شخصية ليون الشاب الظريف المسيحي لم يكن وجودها في الرواية عبثا فقد كانت رمزا للتقارب الاجتماعي الذي يمثل معظم شرائح البلاد فهو شاب يعيش في حي، أهله من الدين المسيحي والاسلامي يتعايشون بحب بين بعضهم لافرق بين مسلم ومسيحي
تدرجت أحداث الرواية الشيقة بأسلوب روائي سلس عذب سلط فيه الكاتب الضوء على عادات وتقاليد بيئية شامية كانت ولاتزال حتى اللحظة عنوانا تعريفيا عن البلد كشرب العرق سوس من الساقي الذي يرتدي الزي الشامي
لم تكن فرحة مايكل قليلة عندما وصلته رسالة بموافقة عائلة الدكتور عبد الرحمن بلقائه وكان ذلك
فاستقبلته العائلة بكل ترحيب وبكل جرأة وبسرية تامة استطاع مايكل أن ينفرد بفاطمة وأن يخرج معها عدة مشاوير فتأكد من حبه الشديد لها فطلب يدها من أهلها لكن والد فاطمة لم يقبل على اعتبار أنها مسلمة وهو مسيحي الديانة ولايستطيع أن يقوَ على فراق ابنته التي ستمكث في أمريكا وطبعا على إثر هذا الرفض قرر مايكل أن يستاذن وأن يعود بلاده فلاداعي لوجوده في دمشق أكثر من هذا وعلى إثر هذا القرار مرضت فاطمة وشحب لونها فعرف والدها بحبها الشديد لمايكل لهذا بدّل رأيه و وافق على زواجها من مايكل
كانت فرحة العروسين لاتوصف وبعد أن أمضيا شهر عسلهما في سورية ،سافرا الى نيويورك حيث بدأت العراقيل والعنصرية الطائفية تظهر فقد عومل مايكل شر معاملة من قبل شرطة مطار نيويورك بعد أن عرفوا أن زوجته عربية مسلمة فعاملوها على أساس أنها ارهابية بالرغم من محاولة مايكل الدفاع عن زوجته العربية ووجوب احترامه لأنه بطل حرب ويحمل الكثير من الأوسمة التقديرية لكن الشرطي لم يعره أي اهتمام وزج مايكل في السجن بعد أن تشاجر معهم واتهموه بالاعتداء على السلطة ، فالتجأت فاطمة إلى جوني ليضعا محاميا ذكيا للخلاص من المشكلة وهنا تظهر براعة الكاتب في ايجاد الوسائل المقنعة لخلاص مايكل من
السجن فظهرت براعة كلٍ من فاطمة والمحامي والتي استطاعت بذكائها وحنكتها أن تستفيد من الظروف الصعبة التي وقعت أثناء المشاجرة في المطار حتى يحصل مايكل على البراءة
الرواية مليئة بالأحداث المشوقة وكأنك تشاهد فيلما سينمائيا رغم أنها مدونة في سطور على الورق ، برع القشلق في جذب القارىء إلى أحداثها مع العلم أنني قرأتها مرتين ولم أشعر بملل
أبارك للمكتبة العربية احتوائها هذا الإنجاز الأدبي الثمين وتمنياتي للدكتور عبد المؤمن القشلق بمزيد من الابداع والتألق.
Discussion about this post