الميثولوجية الشعبية في رواية (حكاية من النجف)
للروائي حمودي عبد محسن
بقلم: عبد الله الميّالي
رواية (حكاية من النجف) للروائي العراقي المغترب حمودي عبد محسن، صدرت في عام 2008 وتضم 146 صفحة. وللروائي خمس روايات أخرى، وثلاث مجموعات قصصية، ومؤلفات أدبية أخرى، ويقيم حالياً في السويد.
ملخص الرواية
يعود (سلام) وهو الشخصية الرئيسة في الرواية، من حرب (عاصفة الصحراء) 1991 ، مهزوماً لاعناً سماسرة الحروب، رامياً بندقيته وجزمته وملابسه العسكرية في سرداب من سراديب مدينة النجف القديمة. وفي أحد الأيام يعثر في إحدى غرف المنزل ضمن مقتنيات والده، على مخطوطة عنوانها (ملائكة الرحمة) تركها والده له جاء فيها: “أوصي بمخطوطتي ملائكة الرحمة إليه، ولا يحق لأحد بنشرها أو بيعها أو شرائها” ص48.
المخطوطة تتألف من اثني عشر فصلاً، وهذا العدد له رمزيته المعروفة عند طائفة من المسلمين، والمخطوطة تحكي قصة والد سلام وصراعه مع القوى الغيبية، ومشاركته في طقوس عاشوراء، وعمله في مهنة (السقاء) ، واعتقاله من قبل السلطة الحاكمة وتعذيبه، وأحداث ومشاهد أخرى. تتشابك أحداث الرواية بصورة درامية، لينبثق الواقعي من رحم الغرائبي، وينبثق الغرائبي من رحم الواقعي، وينصهر الماضي بالحاضر، ليتشكل في النهاية نص سردي متكامل.
بطل الرواية (سلام) الذي نجا من عاصفة الصحراء بأعجوبة، يقع ضحية قمع النظام لانتفاضة آذار 1991 بالقرب من ضريح الإمام علي بن أبي طالب، وعروجه إلى السماء بواسطة (حصان أبيض مجنح)! لتسدل الرواية خاتمتها على ذلك المشهد. بعد أن أفضى بما فيه الكفاية عن عوالمه الداخلية وهواجسه وصراعه مع النفس، ووجوده القلق المرتبط بحوادث غيبية ليس له بها ناقة ولا جمل.
ملامح الرواية ما بعد الحداثية
وتحمل بنية الرواية ملامح الرواية ما بعد الحداثية التي نظّر لها الكثير من النُقّاد والباحثين والدارسين، وأهم هذه الملامح: “أن تعكس البنى السردية اللايقين، أو أنها تطرح قضايا فلسفية تثير التأمل، وهناك بنى سردية تنهل من الغرائبية والعجائبية، وأخرى سمتها التفكك والتشظي، وأخرى تكون فسيفسائية لتأكيد التعدد والتنوع، ومنها ما يستلهم الأنواع السردية القديمة والحديثة لتوليف بنية سردية هجينة جديدة، وتطبع أخرى بسمة التداخل الأجناسي، وغيرها الكثير من البنى”[1] . مما يعني التخلي عن قواعد السرد التقليدية عبر انتفاء الحبكة وتكسر السرد الخطي وعدم الاهتمام بنمو الشخصيات أو رسم حدود المكان، وهذا ما وجدناه بوضوح في رواية (حكاية من النجف) . فقد عمد الكاتب إلى التنويع في تقنيات السرد، فلم يكن تسلسل المَشاهد والصور والأحداث وفق التسلسل الزمني، بل جاءت متداخلة مع بعضها، فتشابكت صورة الحرب مع صورة الغرفة والمنزل والسرداب في نسق واحد، تركه الكاتب لفطنة القارئ والمتلقي. وتشابك الواقع باللاواقع، والوعي باللاوعي، والخيال بالحقيقة، والمنام باليقظة، والعالَم العلوي بالعالَم الأرضي، والحاضر بالماضي، والمقدّس بالمدنّس، والحياة بالموت، والـ(هنا) بالـ(هناك) .
كما جاءت المخطوطة في الرواية لتشير إلى إحدى تقنيات وسِمات ما بعد الحداثية، وهي (الميتا سردية) ، حيث شكلت المخطوطة رواية أخرى انبثقت من الرواية الأم.
الميثولوجية الشعبية
حاول الروائي حمودي عبد محسن من خلال روايته (حكاية من النجف) منح مدينة النجف ذلك البعد الأسطوري، فقد تداخلت الأحداث والمشاهد والصور ما بين الواقعية من جهة والغرائبية من جهة أخرى. والعمل على استدعاء الميثولوجيا الشعبية للمدينة، فالبئر والسرداب والمقبرة تكون مسرحاً لأحداث غرائبية أقرب ما تكون صورة من صور ألف ليلة وليلة حيث عالَم الأشباح والأفاعي والجنيّات. فبينما نجد الصور الواقعية تتمظهر من خلال: (سلام، الجدّة، الجد، الأب، مركز الشرطة، شخصيات ثانوية أخرى، الأزقة، المقبرة، طقوس عاشوراء، انتفاضة آذار 1991 ، …) ، نجد في المقابل صور الغرائبية من خلال: (الثعبان، الأفعى، القط الأسود، الشبح، السعالي، الجنيّة، المَلاك، الوحش، المواجهة مع الشيطان، الكف الأسطوري..)
حدثته جدته عن “مدينة مسحورة مظلمة في عمق البئر لها أسوار حصينة، وأبواب ضخمة .. يسكنها ثعبان رهيب. لا أحد يدخلها من الأنس .. الثعبان له حراس يرتدون ملابس سود .. الثعبان ينتقل من بئر إلى بئر في آبار النجف، وله أيضاً جنيات شريرات يخرجن من الآبار ليصطدن الرجال..” ص15.
لقد عمل الكاتب على الاقتراب من الموروث المقدس الذي تضج به مدينة مثل النجف، واقترب أكثر من الميثولوجية الشعبية التي تضرب بعمق في المكان بكل سحرها وتمظهراتها، حيث عبق التاريخ المضمّخ بأريج الشهادة والتضحية والفداء الذي ناله رجالات أهل البيت، ومن ذلك الموروث الذي جاء في الرواية:
1ــ (حمام الرواعب) : “فقد حظيت بحب عند النجفيين، فهي التي توجعت وغضبت لاستشهاد الإمام الحسين، وتناثر الدمع من عينيها، وتمرغت في دمه الطاهر، فتحول لونها من الأبيض إلى الأحمر، لذلك لم يجرؤ أحد ما على مطاردتها أو اصطيادها أو ذبحها. إن العادة النجفية تحرّم ذلك” ص51.
2ــ وكذلك الحديث عن شجرة السدرة التي نبتت وسط المقبرة، والتي يتحدث عنها أهل المدينة بأنها: “راسخة في مكانها، حبلى بالسنين، بالشموس، بالليالي الباردة، بالغياب والتوديع، حتى حسب البعض أن جنيّة تسكن فوق أغصانها، تلهو، وتنام، وتستفيق، تجوب المقبرة، تتفحص السراديب، تعاقب العابثين بالقبور ..” ص62.
3ــ وكذلك الحديث عن أحد قتلة الإمام الحسين، الذي مُسخ كلباً: “الشمر بن ذي الجوشن، أسودّت بشرته، مُسخ كلباً أسود مسعوراً، وظل لاهثاً يبحث عن ماء لم يجده، وتدلى لسانه خارج فمه، وهرب في البراري ككلب مسعور منبوذاً، متروكاً يعوي لوحده.” ص104.
4ــ والحديث عن الكف الذهبي: “قبل ألف وخمسمائة عام، وهذا الكف لم يتغير، في عينه قيوم تذكر، وكل إصبع فيه يدل على شيء، وأية حركة منه تشير إلى شيء، ضاع منذ زمن بعيد، ولم يستطع أحد العثور عليه، فهو مدفون في سرداب سري في وادي السلام، محفوظ في صندوق من ذهب خالص .. يحرسه ثعبان ضخم هائل له عدة رؤوس، ومن يحاول الوصول إليه يأكله الثعبان” ص112.
ولأن الكاتب ينتمي إلى مدينة النجف وغادرها في منتصف السبعينيات إلى الخارج، فقد ظلت ذكرياته عن المدينة تجول في ذاكرته، ولا شك فقد تسرّب جزء منها إلى روايته بشكل أو بآخر. وأستعير هنا مقولة عالِم النفس فرويد: (العمل الأدبي هو عبارة عن مخرجات لمكبوتات داخلية كمنت بعقل الكاتب مثلها مثل الأحلام ولذلك يجب على الناقد أن يفسر النص الأدبي ولا يحكم عليه).
نجد في الرواية وفي أكثر من نص استدعاء لواقعة عاشوراء ومقتل الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه، مما يحيلنا هنا إلى ثلاثية الروائي المصري جمال الغيطاني (التجليات) الزاخرة باستدعاء أحداث وفاجعة عاشوراء كثيراً. كذلك عمل الكاتب على توظيف واستدعاء طقوس عاشوراء في أكثر من نص في الرواية.
لقد عمد الروائي حمودي عبد محسن إلى مقبرة (وادي السلام) في النجف التي تعد من المقابر الكبرى في العالم، ليجعل منها فضاءً مكانياً للكثير من مَشاهد وأحداث روايته، بما في ذلك المَشاهد والأحداث الغرائبية: (أرى نفسي في وادي السلام، ساقطاً مثل برق هادر. لقد هالني أن أقف بين قبور مزدحمة غير منتظمة، أرض تربتها رملية، وحصبها ناعم جاف، سجدت رموشي، وخشعت أجفاني لها بأسى يبعث أسى.. كم مر على ثراها الزمان؟ أحجار فوق أحجار، كومة رملية فوق كومة أخرى، أجيال قد ثوت فيها، وآثار مرت عليها قرون كلها تفصح عن هموم في الأرض أو فوقها، كم ضم هذا الوادي من جموع في الثرى، ووجوه البشر التي تعفرت في التراب؟) ص88.
يبدو لنا أن رواية (حكاية من النجف) قد سعت إلى تقديم نص روائي يختلف عما هو سائد وشائع في النصوص الروائية التقليدية الأخرى، حيث تمظهر هذا الاختلاف من خلال الاستعانة بالخيال المفرط الذي تجلى بتقنية ما وراء الرواية (الميتا سردية) من جهة، بتوظيفها (المخطوطة) التي تمثل إحدى صور (الميتا سردية) . وتقنية الواقعية السحرية من جهة أخرى، عندما تداخلت وتشابكت الأحداث والصور والمَشاهد الواقعية باللا واقعية والغرائبية.
الهوامش:
1ــ د. ماجدة هاتو هاشم، الرواية العربية ما بعد الحداثية، ص66 ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد – 2013.
Discussion about this post