صدمة الأنجليزي
– طاق، طاق….
ما هذه الطرقات على رأسي؟ لماذا يضعني على هذه القطعة الحديدية بعد أن ثبتها بين ركبتيه؟
من كان يظن أنني أنتقل إلى هذا البلد الآسن المعنّف اللاهث، أمثلي يفعل به هذا الصنيع ؟
وكيف تخوّل لهم نفسهم أن يكيلوا الضربات هكذا لأنجليزي مثلي وكأنهم يأخذون بثأرهم من بريطانيا العظمى! تبا لهم ،
فتحنا لهم أبوابنا على مصراعيها استقبلناهم ووفرنا لهم مواطن شغل ورفاهية لم يحلموا بها قط، ووطأوا بيوت الأثرياء والمترفين وتعلموا عاداتنا وقيمنا حتى استنكفوا من عاداتهم وتقاليدهم، لكنهم لم ينسوا أبدا أنهم دوننا،وما زالوا ينبشون القمامة ويجمعون كل ما ألقينا به ليعرضوه للبيع في بلدانهم بأبهظ الأثمان، الكل يعترف لنا بالجودة العالية والأناقة، طوابير العالم الثالث تنتظر ما جمعوه طيلة سنوات الغربة .
طاق، طاق، طاق…
آي! آي ! يكفي، يكفي آلمني صنيعك أيها المغفل الخشن! ما خلقت للضرب و التطريق، دعني وشأني أيها المعتوه المتجبر مثلك مكانه السجن و الزنازن العفنة، ماذا تنتظر حتى تطلق سراحي؟ جواز سفر أم تأشيرة؟!
اللعنة على من انتقل بي من خزانتي الفاخرة، كنت مرصوفا لسنوات بين أهلي وعشيرتي ملمعا هانئا إلى هذا الضيق العاتم. لم يكن يخطر ببالي هذا المصير أبدا .
يوم شحنت في تلك العلبة مع مختلف الأغراض كنت أحلم بعبق الشرق و لفح الشمس الدافئة ونعومة الصحاري ، وازداد شوقي عندما سمعتهم يتحدثون عن حنينهم لأوطانهم وتعطشهم لتراب مواطنهم الطيبة الندية ، لقد خدعوني !
بالرغم من الألم و اللطم كنت سعيدا لمصافحة وجوه جديدة في ذاك المستودع، وزادت سعادتي بمداعباتهم و لمساتهم رغم خشونة أكفهم المتشققة ، صحيح أنني انزعجت من رائحة أجسادهم المتعرقة و انعدام تعطرهم و تأنقهم، لكنني انبهرت بهذه الفوضى وهذا الضجيج، وإطرائهم لجودتنا العالية و لمعاننا، شعرت بالفخر من أصولي و حضارتي وطربت زهوا مع إخوتي وعائلتي، حتى انتهى بي المطاف في كيس أسودَ منفردا معزولا ! احتدم النقاش بين صاحبي و المشتري ، أقنعه بصعوبةأن ثمني لا يقل عن عشرين دينارا، استأت لحالي وأن يبخسوا قدري شيء لا يحتمل، من أين لهذا المغفل أن يعرف أنني أثمّن بمئات الدينارات بعملتهم تلك؟ وأن راحتي لا أجدها إلا مع الأثرياء و المترفين !
تجولت بين الأزقة حتى ارتطم رأسي بحائط، وقتئذ تفطنت أن رحلتي الجديدة ستبدأ مع هذا المتعجرف، نمت على غير العادة متخوفا من المجهول، و استيقظت، على سعال محموم و روائح نوم كريهة، أدخل قدمه النتنة في بطني بكل قسوة حتى كاد يغمى علي، لم يغير جوربه، لم يتحمم، وطئ مرحاضا مبللا ودخل بي مطبخا ، زكمت انفي روائح توابل نفاذة لم استسغها. ثم وجدت نفسي أتجول في الطرقات، أُخرج إلى معترك الحياة دون تلميع أو حتى مجرد تنظيف، يالشقائه لم يتعطر، يستسهل الحياة دون تكلف، دون تمظهر، ربما سأكون سعيدا معه، سأكتشف الجديد المبهر،.
طال بنا السير و شق علي حمل هذه الجثة الضخمة، أخذ جلدي يتمطط ويتمدد حد الانفجار، آلمتني نتوءات الطريق، خنقني الغبار المتناثر وأصمني هدير السيارات و ضجيج المارة ، استنكرت سبابهم وشتائمهم المشينة .. ثم دلف الحي العتيق حيث الأزقة الضيقة و الثنايا الملتوية و الأوحال المقززة وأكياس القمامة المكدسة هنا و هناك.
انتهت جولتي داخل مكتب مغلق، خلعني ورمى بي في زاوية لاعنا بائعي و أهلي، حز في نفسي ذلك، استانست بصحبة تافه مثله فشتمني، استأت كثيرا ولن أرحمه، سأنتقم شر انتقام.
بعد الدوام انتعلني مسرعا وعاد بي من حيث أتينا، تفننت في إيذائه، أسالت دماء كعبيه وجعلته يعرج، قد يتعلم احترام أسياده، لكن هذا الأخرق شوهني، دعس على حافتي وحولني إلى مداس.
صاح به حلاق الحي حين رآه يقترف جريمته :
-كيف تفعل هذا بحذاء فاخر لماع يحسدك الأثرياء عليه؟
– ظننتُني بالأمس محظوظا عندما اقتنيته، تحدثوا عن جودته العالية، وبعضهم قال أنه يقدر بما يفوق المليون في مغازاتهم الأوروبية.
ثم أردف المعتوه
– هات عشرة دنانير و مبروك عليك .
تمت المبايعة دون نقاش يذكر. فرح بي الحلاق وفرحت أن تخلصت من تلك الجثة المكومة. انتعلني، وليته ما فعل، كل من عاينتهم خلال رحلتي قرف ونتانة جوارب، لم يخلعني إلا لحظة نومه، استمرت رحلتي في هذا البلد، شاقة متعبة، حين استريح في ركن ما، أحلم طوال الليل بالعودة إلى أمجادنا و حضارتنا العريقة بعد لؤم هؤلاء القوم ودهائهم ، وأستيقظ كل مرة على وقع كابوس جديد، يمر شحاذ بائس أمام المحل ويجدني على عتبة الدكان استنشق بعض الهواء الندي ينتعلني ويفر هاربا.
لم أصدق أن بينهم بشر يحملون مثل تلك الجلود و الحوافر، أجسادهم لا تعرف النظافة و أنوفهم لا تستنكف العفن!
تمزقت أوصالي وكدت اشتعل غبنا،
وقف أمام معلم أثري كبير يستجدي عطف السياح، فانفرجت أساريري متطلعا إلى غد مشرق و عادت إليّ روحي ومهجتي حينما اشتممت عبق العطور الفاخرة الغربية، وعلمت أنني بين أهلي و عشيرتي، أخذت أستغيث بلغتي الأصيلة حتى لفتّ نظر سيد محترم اقترب من الشحاذ وأمره بخلع الحذاء مقابل قطعة نقدية صغيرة، فعل الأبله غير آبه بقيمتي.
دخلت كيسا أسودَ من جديد مودعا الحياة بشموخ، بعيدا عن تعجرفهم و قلة نظافتهم.
عاد بي إلى بيت أنيق بضاحية هذه المدينة. قلبني بين يديه، جون لوب؟ قال مستغربا.. تقدم نحو المدفأة بكل احترام وألقى بي حيث أبّنتني النار و طهرتني من العار .
سيدة بن جازية
تونس
Discussion about this post