تفوق المشهدية بعدسة سابرة للأحداث ولو كانت سم إبرة
قراءة لنص الأستاذ محمد البنا / من ثقب إبرة/
====================================
الرّاوي هنا تفوّق مشهديّاً بوصف حدثٍ سريع بإيقاعٍ متسارع لحفلةٍ تجري في مكان ما ( حفلة) وزمن ما (متكرّر ومتواجد في كل العصور وعلى اختلاف المجتمعات ) وكأنها فقرة مقتطعة من تصويرٍ سينمائي بالغ الدقة لشخوص مجتمعة في بهو واسع يرويه طاه اعتاد المشاهد وألفها لتجتاز قافزة من ثقب إبرة دون أي تباطؤ…
الشخوص المتنقلة أمام هذه العدسة الكاشفة على اختلافها الظاهر إلا أن مايجمعها طبقة اجتماعية لاهية يتمايل جسدها مع الموسيقا ويدخل جوفها مالذّ وطاب من سُفرتها ، لكنّ العدسة وبتقنية الزووم الذي قربها أكثر فأكثر حتى دخلت من ثقب الإبرة لتروي بصدق أكثر ماتراه دون تدخل من السارد ( الطاهي) الذي يسجل بكاميرته دون أن يكون فظّاً بإيصالِ شعورٍ يعتريه …
الشابّة الباحثة عن سعادةٍ زوجيّة مفقودة ( تختار لزوجها طعامه)
والنّادل الذي يحاول لفت نظر الطّاهي بأحاديث مقتضبة من هنا وهناك اجتزأها عن الطاولات أثناء أداء مهمّته لكنّ كاميرته لاتتأثر فهي تنقل وتوثق فقط …
غير أنّ ناحية واحدة تعرّف فيها على طبقة اعتادت الحضور – ليس للمتعة- تنسجم بجسدها فقط بينما تجمع ماتستطيع من بقايا فتات لعائلتها هذه الطبقة السارد ( الطّاهي ) وصفها بصديق / هذه دلالة على أنها تنتمي لنفس طبقته الاجتماعية /…
لكن أليست هذه هي الحياة ، أناس تعيش على فتات موائد أخرى
فالمكان ضمّ كل الصنوف من عابثٍ ولاهٍ ومستمتعٍ وضجر ، حتى المحتاج كان موجوداً أمام العدسة وبتقنية مايثبت حضوره في كل الحفلات المشابهة ، فهو فرد من طبقة مغيّبة ظاهريّا في هذه الأوساط حاضرة لتناول الفُتات
جمالية الأسلوب في القصة:
———————————-
اعتمد السّرد الأسلوب المحبّب كسردٍ تصويريّ مشوّق وكأنّ السّارد يلقي بقصّته أمام مجموعةٍ من الحضور يزيدهم تشوّقاً لمعرفة القصّة بطريقتهِ حيث يلقي الجمل بطريقةٍ محبّبة لتصل الفكرة وبمتعةِ السرد ( كالرّاوي الذي كان موجوداً في الأزمنة القديمة في المقاهي ( الحكواتي) وكان يسرد قصص البطولات القديمة على الحاضرين)
وهذه القصة على جمال أسلوبيتها وحبكتها وطرحها تعتبر مرآة إجتماعية صادقة وكاشفة…
نص جميل جدا أستاذنا
ريم
______________________
#النص
من ثقب إبرة
—————-
صخبٌ شديد يعلو ويهبط، متماهيًا مع نغماتٍ يصدح بها مكبر الصوت المتصل بآلة التسجيل الحديثة، ما بين ايقاعاتٍ نحاسية ووتريات هادئة وناعمة، ولا يتفاجأ أحدٌ من الراقصين، عندما يظن ذلك المتحكم أنه فاجأهم بأغنية شعبية بذيئة الكلمات، من تلك الأغنيات المنتشرة في كبائن وسائل النقل، فهم قطعًا ليسوا من راكبيها، لكنه الجسد عندما يجد متنفسًا ليجهر بعطشه، والنفس عندما تُتاح لها الفرصة للتحرر من القيود، فهنا والآن كل شيءٍ مسموح، بل ومرغوب ايضًا.
الليلة ليلةٌ قمرية، والسماء صافية، ولم يعد صعبًا على أحدكم التكهن، أنني متواجدٌ في حفل زفاف، بالطبع سأل أحدكم ..من أكون ؟..لا بأس..سأخبركم الآن وليس لاحقًا، لسبب بسيط، ألا وهو أنني لست من هواة التشويق، كما أنني أمقت الإنتظار…أنا يا سادة..الطاهي المُوكل إليه تجهيز البوفيه، وهمّي الرئيس الآن هو الانتهاء من إعداد البوفيه قبيل دقات الساعة العاشرة.
لم يكن هذا الحفل هو باكورة حفلاتي، فقد سبقه العشرات من مناسبات شبيهة ومختلفة كُلفت بإعداد أطعمتها، كما أتمنى ألا يكون الأخير، فلا مصدر رزقٍ لي غيره.
أنظر إلى عقارب ساعتي، ترد النظرة مبتهجة، ووالد العريس يقترب، ويرسل نظرته تسألني، فتجيبها إيماءةُ رأسي، فيدير رأسه صوب المتحكم في آلة النغمات، ويشير له إصبعه – يبدو أنها إشارةٌ اتفقوا عليها مسبقًا – لُيعلن الأخير افتتاح البوفيه.
وكالعادة تترى الوجوه، وتتراص الاجساد في طابورٍ شبه منتظم.
وجوهٌ ألفتها، فهم ضيوف شرف، ووجودهم في هكذا حفلات ضرورة لابد منها، ومنهم هذا الرجل الأنيق – سبق أن التقيت به في مكتبه – أتذكره جيدًا لكنه لا ولن يتذكرني، دعاني لمقابلته منذ ما يزيد عن العشر سنوات، كانت مظاهر الثراء الفاحش تحيط به من كل جانب، بدءًا من أفراد الأمن وانتهاءً بأثاث مكتبه، ظننت ليلتها أنّ الجنة أتت اليّ تحبو، لكنه قاتلني على كل قرش، ولم يبتسم ويهدأ إلا عندما وافقت على نُصيف ما عرضته ابتداءا.
ما بدا عليه من ارتياح لانتصاره وهزيمتي- ولم أكن مهزومًا بالطبع – مشهدًا عالقًا بمخيلتي حتى هذه اللحظة، وهو يضع في طبقه القليل من السلاطة، وقطعة لحم صغيرة، ثم ينتقل خطوتين ويضع ملعقتي أرز.
ووجوهٌ أخرى أراها للمرة الأولى، وربما تكون الأخيرة ايضًا، غالبيتهم من أهل العريس وأهل العروسة، ومنهم..تلك الشابة التي وشى بها إلىّ أحد مساعديّ، عندما همس قائلًا: أنها تكاد تُفرغ السلاطة من قطع الجمبري.
أشرت له ألا يهتم او يتدخل ويتركها لشأنها، لكنني تابعتها عن كثب، وكما توقعت ذهبت ووضعت الطبق المتخم بقطع الجمبري أمام زوجها الشاب، وعادت لتنتقي ما يحلو لها من طعام.
أما هذا الذي تروّنه للمرة الثالثة أمام البوفيه، وأثار استغرابكم تصرفه المشين، هذا الرجل المهندم في بساطة، الذي يحمل وجهه ملامح هادئة، وتحمل يده طبقه الثالث، وقد اتخمته قطع اللحم المشوي، هذا الرجل…صديقي، نعم صديقي الذي لا أعرف اسمه، وما كان بيننا حديث، فمنذ أول لقاءٍ جمعنا – لا أتذكر متى على وجه التحديد – سألته عيوني ممتعضة..لم ؟، فأجابتني عيونه راجيةً متوسلة، فما كان مني إلا أن غضضت الطرف عنه، فانصرف مبتسمًا شاكرًا، ومضى إلى طاولةٍ شاغرةٍ في زاويةٍ ضوؤها خافت وجلس، كما سيمضي الآن أمام أعينكم ويجلس، وتظاهر بتناوله الطعام إلى أن هدأت الحركة المكوكية لوالد العريس، فأخرج خلسة أكياسًا بلاستيكية، وأفرغ فيها ما اجتمع في أطباقه الثلاثة من لحوم، ونهض وقبل أن يستدير أودع في عيني – كنت ليلتها أتابعه كما أتابعه وتتابعونه الآن – نظرة امتنان، كانت رسالته الأخيرة قبل أن يبتلعه الظلام.
محمد البنا
Discussion about this post