ينبغي أن لا تتوقف الحياة ..طالما نتنفس.
قراءة بقلم / محمد البنا
لنص ( خرائط )
للقاص السوري / نزار الحاج علي Nizaar Gobokai
…………………..
ثلاثية خرائط
بوصلة
تبدأ القصة بسؤالي لكِ: من أين الطريق؟
تشيرين إلي بنظرةٍ ثاقبة إلى الأمام، لكنّي أشعر بعدم الأمان…تفزعني فكرة العبور في هذا الممر الضيق، وتفزعني فكرة اختراق العزلة…وحدكِ تنظرين إلى تلك الجهة التي تمتلكينها.
أمّا أنا فأكتبُ نصّاً…فارغاً.
ضياع
أنتِ من اقترحتِ نفسكِ بطلةً لقصتي، لكن تبيّن لي أنكِ لا تفعلين شيئاً سوى تبادل النظرات معي، ثمّ…تضحكين.
أتجوّل بالقرب منك بذهنٍ شارد.
تلوّحُ لي فكرة من بعيد، وبدلاً من أن ألوْح لها، أفكر أن أقترب منك أكثر، لكنني لا أجدك و تفوتني الفكرة، ويفوتني أن التماثيل لا يعنيها الكلام، ثمّ أشعرُ أن العالم أصبح مملاً جداً، أو بمعنى أصحّ أن المملّ الوحيد في هذه القصّة…هو أنا.
إحداثيات
أنت وأنا في هذا المكان البارد من العالم لدينا جهة ولدينا طريق، أفتفتُ لك خبز اللغة، أجرّب أن أرسمكِ؛ يهبط عصفور وينقرُ الورقة…تمزقين اللوحة و تخرجين منها؛ تتراقص القصص أمامي، أقفز لألتقط واحدة؛ تأخذيني بيديك…أركضُ خلفك في الطرقات وأنا ألوّح لك بالقصة وأنادي:
_يا مجنونة.
نزار الحاج علي ✒️
……………………..
القراءة
ويفوتني أن التماثيل لا يعنيها الكلام/ وحدك تنظرين إلى تلك الجهة التي تمتلكينها….هنا لا يسع مخيلتنا إلا أن تتصور تمثالًا لأنثى تشير/ تنظر ..إلى جهة ما محددة.
أركض خلفك وأنادي…هنا لا يسع مخيلتنا إلا تصور راكضين يلاحق أحدهما الآخر ( الراوي و الأنثى).
التباين والتضاد وعدم المنطقية واضح وضوح الشمس، فهل أخطأ القاص في حبك قصته؟..والسؤال الأهم ..هل لقاص في مكانة وأمكانات نزار حاج علي أن يرتكب مثل تلك الحماقة…ولو سهوا ؟..الإجابة قطعا لا..وألف لا.
إذًا ما الذي يحدث أو حدث؟..وكيف لنا كنقاد أن نربط بين متضادين ظاهرين ونجعلهما متوازيين أو متحدين في مسار واحد..هذا هو السؤال، وهذه هى الإجابة..
لننظر معا أولا للعناوين فهما مفتاح من مفاتيح الثلاثية،
بوصلة..والبوصلة أداة تحديد اتجاه، والتمثال قام مقام البوصلة بالإشارة إلى الإتجاه ( ممر ضيق ).
ضياع..والضياع هو فقدان البوصلة، فيجد المرء نفسه حائرًا أي الاتجاهات يسلك، فيتحمد حيث يقف هو لا غيره (الممل الوحيد في القصة هو أنا).
احداثيات..والاحداثيات..اداة لتحديد المكان وليست اداة اتجاه كالبوصلة، وتحديد المكان هنا وصّفه القاص ب ( المكان البارد) نقطة محددة احداثياتها على الحريطة الزمكانية للنص السردي، إذ هو ( الراوي) وهى ( التمثال / الأنثى) يحتلان بقعة مكانية محددة سردًا، وبقعة زمكانية محددة سلفًا هى فضاء النص بأكمله.
وهنا يجنح الكاتب المتمكن من أدواته بجدارة جنوحًا رائعًا ومباغتًا، بل وباعثًا عن التساؤل الذي طرحته في بداية قراءتي، ولا أشك للحظة أنه تساؤل سأله الكثيرون ممن قرأوا هذا النص..أقول جنح جنوحًا مباغتًا القصد منه الربط بين التمثال وبين الأنثى الحية، وما كان ذلك ليكون إلا بجنوح الخيال إلى النظر ثم الرسم ثم التوهم، لينتهي بإقرار التوهم ببعث الحياة فيه ( تمزيق اللوحة ثم الركض والملاحقة).
هذه هى خلاصة الخرائط الثلاث التى شملتها الثلاثية ( بوصلة / ضياع / إحداثيات).
برع الكاتب في مزج الواقع بالخيال منتجًا نصًا ينتمي للواقعية السحرية وليس للأنسنة كما قد يظن او يعتقد البعض، والفوارق بينهما كثيرة، ولا مجال لذكرها هنا في معرض حديثنا عن النص الموجز.
هذا عن ظاهر النص وقد استقام عوده كما نرى، فماذا عن باطنه، وماذا عن دلالاته، وماذا عن الوقفية السردية؟
هل وفق الكاتب في توصيل مراده إلى قارئيه؟.. أم تركهم في ظلمات بلا ضوء ولو حتى ضوء شمعة يتلمسون به الطريق داخل سراديب نصه، ليصلوا – ولو بعد جهد زهيد- إلى فتح أبوابه المغلقة، وبمعنى آخر..استغلق عليهم النص.
أقول – رأي شخصي – أنه تركهم بين بين، ولا أعد ذلك قصورا من الكاتب كما لا أعده أيضا قصورا من القارئ، فللنص مستويات متعددة، ابسطها وهو ما تناولته آنفا صعبا.
عندما يفقد الانسان اي انسان بوصلته؛ يضيع، وعندما يضيع؛ ينبغي ألا تتجمد الحياة داخله، فالضياع في جوهره باعث ومحفز للبحث عن مخرج أو مخارج، فإن استغلقت عليه أبواب الخروج عليه التوهم، فلربما وهو الأكثر احتمالية أن يجد في توهمه متنفسا او مخرجًا من حالة السكون المميت ( الضياع) إلى حياة نابضة ( التمزيق والركض).
اللغة مكثفة بما لا يخل بالمتعة السردية القصية، وبكفاءة ابلاغ المعنى دون تقعر لغوي لا يحتاجه النص، وإن لجأ إليه الكاتب في تناوله لهكذا فكرة صعبة؛ أفسد النص.
التصاعد الزمني متوال في هدوء وازن بين الامتداد الزماني الأفقي ( نظر/ اشارة/ تيه/ رسم/ تمزيق/ ركض)، والتمدد الزمني الرأسي ( أنظر وتضحكين، انا وأنت والمكان البارد، نصًا فارغا، ..،..،..).
محمد البنا…القاهرة في ١٩ فبراير ٢٠٢٣
Discussion about this post