دراسة نقدية في رواية ” مدينة النساء” للروائي التونسي “أمين السعيدي”
بعنوان” خصائص الخطاب السردي في رواية مدينة النساء”
الدكتورة الناقدة “مفيدة الجلاصي
(مدينة النساء)
التقديم :
ستبقى الكتابة الإبداعية من خلال الراوية فعلا تواصليا على أساس من الفهم الذي يبذل فيه القارئ المتلقي جهدا في التغلغل في ثنايا النص الذي يمثل مشروعا لإنتاج إبداعي أخرجه صاحبه بأدوات فنية معينة و من هذا المنطلق رمنا الوقوف على التفاصيل التي تميز رواية “مدينة النساء) للكاتب الروائي ” الأمين السعيدي ” التي صدرت عن دار عليسة للنشر و التوزيع المقر الاجتماعي / الطبعة الأولى 2021- و كمدخل أول ارتأينا أن نبدأ بالنظر في العنوان كعتبة أساسية و منه يكون ولوجنا إلى المضامين دون أن ننسى الإهداء (ص5) و الذي فيه ما فيه من الدلالات التي تأخذ بعدا ذاتيا يكاد يكون رومانسيا لما اتسم به من شاعرية في مستوى القول المعبر عن معان لها أبعادها الوجدانية , الروحية و النفسية بخطاب مباشر التبس بخطاب غير مباشر تضمن مراوحة بين التخصيص (إليك أخي سليم) و التعميم (إلى من ينشد السلام للإنسانية و يحلم بعالم بلا خرائط ولا خيام و لا فقراء و لا مشردين =انه إهداء قد يختصر للقارئ في اختزال شديد مضمون الراوية فالمؤلف يحمل حلما إنسانيا يقض مضجعه في مدينة صامته لأنه يحترف الفرح و لأنه “سيظل شمعة تضيء غدنا على مملكة التذكر المقدسة”.
-العنوان ” مدينة النساء”
ورد العنوان في تركيب إضافي “مدينة مضاف و هو إطار مكاني يوحي بمعان ترتبط أساسا بمفاهيم معينة باعتبارها رمزا للتمدن و الرقي و التحضر بكل ما تجده فيها من مقومات الحياة المرفهة ماديا و معنويا / فالمدينة عادة تكون ذات كثافة سكانية بكل ما فيها من تحديات كبيرة لا تواجهها القرى و الأرياف في مستوى الاختلافات الاقتصادية و السياسية و الفكرية بين الناس – وهنا يمكن التذكير بتعريف “ابن خلدون” للمدنية التي يراها في انتقال الإنسان من طور الهمجية و التوحش إلى طور الرقي الأخلاقي الإنساني أما “النساء” فهو المضاف إليه = و هذا ما يثير اهتمامنا فليست المدينة عند الكاتب الروائي في هذا الاختلاف في الطبقات الاجتماعية التي تمثل السكان بل هي خاصة بالنساء
و هنا نقف على المفهوم الكلاسيكي أو الإنشائي للباحث “جينت Genette” للعنوان كعتبة بديهية و منها يبدأ تفاعل المتلقي مع النص إجمالا- فهو جسر عبور لذلك النص –
كل ذلك يدفعنا الى التساؤل “لم اختار الكاتب هذا العنوان في تخصيص المدينة للنساء؟ لم يختر مكانا آخر ( القرية / الريف مثلا ؟) و من هذا المنطلق سعينا الى الاهتمام بما أسميناه “خصائص الخطاب السردي في رواية “مدينة النساء”
في مفهوم الخطاب :
يعرف الباحث ” عبد الملك مرتاض” الخطاب معتبرا إياه من المصطحات الألسنية الحديثة ” التي استعملت في دلالتها الجديدة عن طريق الترجمة (Discours) مع أن اللفظ موجود في اللغة العربية منذ القدم و قد تبنى هذا اللفظ النقد العربي المعاصر و صار من أكثر المصطلحات تردادا حين التعرض لدراسة نص من النصوص الأدبية شعرا أو نثرا دون أن ننسى أنه ورد في القرآن بمعان مختلفة و لكنها تنطلق في أساسها من وضع اشتقاقي واحد وهو “إقناع المخاطب” بمضمون الخطاب ” .
-وقد تعددت أنواع الخطاب و أساليبه (خطاب سياسي/ديني/تاريخي/أدبي…) ثم يغدو الخطاب ذلك النص الكامل المتكامل أو ذلك المنجز الإبداعي المهيأ للقراءات التأويلية مثلما هو الحال في الرواية كجنس أدبي و يصبح لكل كاتب نصوصه الروائية التي تتسم بخطاب روائي له خصائصه و لغته و مقوماته السردية و تقنياته و أدواته الأسلوبية (فتقنيات الروائي نجيب محفوظ مثلا تختلف عن تقنيات محمود تيمور أو حنامينا / عبد الرحمان منيف/يوسف السباعي/إحسان عبد القدوس…) .
-قامت رواية “مدينة النساء” على أربعة فصول:
-الفصل الأول : رحلة صفوان
-الفصل الثاني : من مأمون الى مريان
-الفصل الثالث : بين عبودة و صفوان
-الفصل الرابع: عقاب بلا جريمة
-وقد تنزل الخطاب السردي عبر كل الفصول في أطار زمني و إطار اجتماعي ارتبط كلاهما بما سمي بفترة المخاض الثوري و ما بعده (او ما سمي بالربيع العربي أو ثورة الياسمين من سنة 2011) بأقول النظام القديم .
ومن كل هذه المعطيات ينطلق الكاتب الروائي “الأمين السعيدي” لكتابه راويته ليتخذ السرد المطعم بالوصف محورا أساسيا بل جوهرا تقوم عليه الأحداث .
وكما يبين الأستاذ الناقد “أحمد السماوي” فإن الرواية تشكل من حيث هي مشروع على الدوام حقلا معرفيا و مشغلا نقديا شديد الخصوبة و التنوع في الفكر الأدبي المعاصر ”
كما عمل” ميخائيل باختين” على دراسة جمالية الخطاب الروائي و أسلوبيته في ضوء مفاهيم نقدية مستحدثة “كالحوارية” و التعدد الصوتي أو البوليفونية Dialogisme Polyphonie و ماسماه بالضحك الكرنفالي Le rire carnavalesque و كلها مفاهيم نقدية أثرت البحوث النقدية و عمقت الرؤى و زوايا النظر الى الجنس الروائي في النظريات الحديثة لذلك يقول “باختين” ليس للزاوية أي قانون فهي بطبيعتها ذاتها بلا قانون في كتابة esthétique et théorie du roman
-وإذا ما تأملنا بداية الفصل الأول من رواية( مدينة النساء )نلاحظ أن المؤلف استهله بخطاب مباشر من خلال ضمير المتكلم عندما يفصح عن حلم في عملية أسلوبية ارتبط فيها الزمان بالمكان فهذا المتكلم و هو “صفوان” ينشد الرحيل و من هنا كان وضع البداية الذي في العادة يكون هادئا , انها بداية مفاجئة مخاتلة تعكس وضعية متأزمة “لصفوان” الذي يقول :”سأغادر مدينتي إلى أرض لا أحد من أهلي يعرفها, أرض يسكنها الإنسان و ينمو فيها النخل و القمح و العنب , بلا أعمدة (ص7) – و يستمر في التعبير عن طموحه باستعمال (الفعل المضارع المقترن بالسين سأغادر/ سأجازف / سأغير /سأخبر ) للتعبير عن المستقبل القريب و إذا بالأم تقطع عليه حبال التفكير ليدور حوار بينها و بين ابنها الذي يبين سبب تفكيره في الهجرة ليتحول السارد من الحوار إلى قصة النساء بالحي (ص8) وما يعانينه فمدينة النساء لم تكن أبدا ملكا للنساء بل هي القيد الأسر و السجن القاهر و الظلم القاتل , في هذه المدينة تصبح فيه المرأة عبدة مستغلة أبشع استغلال وهي كما يقول ( ص 12 ) “كائن لطيف قد حملته الطبيعة ما لا يقدر على تحمله , لا ذنب ارتكبته محجوبة في هذا الحي غير أن الأقدار رسمت لها الحياة على هذه الشاكلة ( في حديثه عن محجوبة أم عبد اللطيف الذي قتله مأمون بحجر قذفه به فوق رأسه) .
و هكذا نجد الروائي و قد وضع إستراتيجية سردية مخصوصة حين يضع مواقفه على لسان “محجوبة التي تعيش العذاب و الحرمان ومرارة الفقدان و التي تواجه رجل الشرطة بحقيقته حين طلب منها مغادرة المكان فصاحت قائلة ” أنت الابن الحقيقي للبؤس , أنت وسيلة الحاكم التي تتقن جيدا التنكيل بالإنسان , أنت العاجز, أنت ابن العهر أنت الفاشل في القبض على اللصوص و الخونة و قطاع الطرق , أنت من ساعدت قاتل ابني على الهروب, == أنها الإدانة لرجل الأمن المتواطئ مع السلطة انه الأحمق المأمور كما تقول (ص14) و في غضون ما انتهجه الروائي من إستراتيجية سردية تتعدد الأصوات في مختلف مستوياتها المركبة و البسيطة لتعلن لنا حضورها الفاعل و الفعال سلبا أو إيجابا أو عبر نوعية الخطاب الصادر عنها إن شكلا أو مضمونا مما يعكس المستوى الفكري و الأخلاقي لا سيما في الحوار بنوعيه الثنائي أو الباطني.
و كل تلك الأصوات مسيرة بمحض إرادة الروائي العليم بها ينطقها حسب هواه وقد أطر كل صوت في خانة معينة ( فماجد مثلا هوا ابن الحرية و التفكير السليم لا يعرف الحقد و لا يرى قيمة في حياته إذا لم يكن لسان شعبه و الفقراء و المشردين ص45) (و أما تيم) فهو الشخصية المثيرة للجدل و قد صار من رجال الدولة في دولة البوليس –(ص41)
ولا يتورع السارد عن وضع مواقفه على لسان محجوبة مثلا هذه المرأة التي تواجه جبروت البوليس بحقيقته (ص14) لتدين أفعاله الإجرامية في حق الشعب البائس كما أننا نجده يقوم بعملية تطعيم السرد بأفكار ذات بعد وجودي فلسفي (ص15) ليعبر عن شعور بالنقمة على الأوطان و الإدانة للمجتمع تلك الأوطان التي أنجبتنا و جعلتنا غرباء على أرضها لا نستطيع نسيانها أو كرهها , ولكن هذا المجتمع هو الذي قتل الحلم فيها و هذا الحاكم و حراسه الأغبياء هم من جعلوا منها شبح إنسان في الكون (ص15) –
-لقد شحن السارد الرواية بمقاطع عدة تلتبس فيها ذاته بذوات الشخصيات فيعبر عن هواجسه و همومه و ما يؤرقه من أفكار من قبيل تعبيره عن تعاطفه مع الشخصيات الضعيفة المنكسرة في استطرادات داخل السرد من ذلك تمجيد المرأة كأم خاصة (ص16- الأم عاطفة ساحرة قلبها وطن لا يعرف الكره و الخبث…) و يعطي لذلك مثالا لمحجوبة تلك الأم العربية و جل نساء العرب يحملن من الألم في قلوبهن ما لا تقدر الجبال على حمله ” إنها المرأة التي تضع كل شيء في هذه الأرض, إنها تبني الوطن بجمال قلبها و روعته “غير أن الحاكم المعتوه ” و الأقارب الحاسدين و المجتمع المتوحش يضع في قلبها أشياء ما فكرت في اختيارها يوما (ص16) و يستمر السارد في الدفاع عن المرأة في الحي فهي تلك التي تحب الحياة طاهرة الطبع بعاطفتها النقية بينما “يمثل الرجال ميلا عجيبا للمال والجاه و يتنافسون في الحقد و جلهم لا يرى في المرأة غير جسمها , و هؤلاء هم المفلسون حقا” (ص17)
-وهكذا بدا السرد ملغما بالوصف للشخصيات و رصد أفعالها وأحوالها و أقوالها في أرض تلفظ أبناءها و كان “صفوان” أنموذجا لذلك الشاب الذي عانى الأمرين و هو الذي لم ير في أرضه غير الظلم من اهلها رغم حبه لها (ص17) انه ابن الطهارة و حب الحياة لا يستطيع العيش في ارض يسودها الخوف و يطغى على تفاصيلها الجفاف و العقم ” (ص18) .
إن رصد السارد لأحوال الشخصيات مرتبط بوضعيتهم النفسية و لعل الانتقال في المكان يساوي انتقالا نفسيا و كأن المكان يتحكم في تلك الأحوال سلبا و إيجابا بأسلوب لغوي و تعبيري ينسجم معه بخطاب لا لبس فيه لأنه يعكس ما يفكر فيه مما يدفعنا إلى القول إن السارد يوجه تلك الشخصيات حسب أهوائه وأفكاره و توجهاته السياسية و الوطنية فالمرأة عنده وطن يرحل إليه “صفوان” و قد وجده في فاطمة التي هي رمز الوطن و بالحب سيقع تعمير الأرض و هو الذي “يريد أن يملأ الأرض بالإنسانية و لا إنسانية خارج الحب تولد الشعوب السليمة في الحب و تعيش به و تتكاثر في كنفه فتعمر الأرض و تنشر السلام و الصفاء ” (ص24)
-كل ذلك يجعلنا نؤكد على هيمنة صوت السارد الذي يقوم بإخماد أصوات الشخصيات عندما يصبح هو المتكلم بلسانهم في دولة قاهرة للحريات لذلك يكشف المستور عبر نماذج من الأفراد الذين سيطروا على مفاصل الدولة (عبودة مثلا) و هو الذي “يتصرف في ميزانية الدولة كما يريد و يشتهي فبعض الموارد التي تذهب إلى الشعب و الموظفين يجب أن تعود إليه لا خير في مال يذهب إلى الفقراء” (ص26)
-و هنا نقف على العجيب و الغريب في بعض الشخصيات من قبيل حكاية عادل (ص28) و كيفية وصوله للسلطة و تسربه إلى مراكز النفود في الدولة العميقة (ص26) و كيفية تنشئته على المبادئ السياسية “و يكون منهجه في الحياة الكسب بالخبث و التحيل و أن يكون أقرب في طباعه إلى الحيوان منه إلى الإنسان المهم هو جمع المال يجب أن يكون “عادل” أقوى من الدولة و من السلطة في نظر أبويه (رباب و عبودة) و على الجميع أن يذعنى له –(ص27)
هكذا يكون المجتمع في عالم انهارت فيه القيم فلا عدل فيه لشعب همشته السلطة و قست عليه الطبيعة , في أرض ثرواتها طائلة و لكن قسمتها غير عادلة (ص33).
وهنا يعيش المثقف غربة بل هو أكثر الناس غربة حيث اجتمع سبات الشعوب و غباء الحكام على ضعف الفقراء , فعم الفساد و الجمود” (ص33) و لذلك يقع القبض على “ماجد” المثقف الفيلسوف المفكر والأديب و ما تعرض إليه من تنكيل و وحشية في السجن (ص44-45)
إنه مجتمع منخرم على كل المستويات متصدع تبدو فيه الشخصيات على تباين كبير فكريا و أخلاقيا و اجتماعيا و ماديا و سياسيا لذلك اعتمد السارد على نهج سردي ارتكز على الأمكنة أساسا التي وزعها على عالمين رسمهما بأبعاد متنوعة عبر تصنيفها أخلاقيا في درجة أولى .
1-عالم السلم و السلام المتمثل في ” الصحراء” التي يعتبرها منبعا للقيم إنه عالم الفضائل المتجسمة في صفوان / فاطمة/ ابنتها = انه عالم النقاء و الطهر. (ص33)
2-عالم الظلم و انهيار القيم انه عالم الرذائل في المدينة (ص32) (رباب / عبودة و ابنهما عادل) حيث نجد المثقف نفسه غريبا (أحمد المكشر ذلك المفكر الذي و لد سليما انجب فاطمة لتواصل مسيرة المجد و هو الخالد رغم موته “هو لم يمت لأن الأجيال التي تؤمن بفكره و فلسفته منتشرة في الكون (ص34)
في مقابل “أحمد المكشر ” نجد شخصية “تيم” الذي صار رجل دولة مع أنه مجرم قاتل
-وعبر هذين العالمين نلتقي بشخصيات تمثل الضحية (عبد القادر الذي توفي قبل أن يتم تسجيله في قائمة جرحى الثورة ذلك الذي لم تقدم له الحكومة يد المساعدة ” ولعله مات من شدة الغضب و الشعور بالإهمال ” (ص10) = لذلك يحمل المسؤولية لرجال السياسة و تلك الأحزاب الذين ركبوا على الثورة و عادوا من الدول الأجنبية و لم يحققوا شيئا من مطالب الشعب بل عاثوا في الأرض فسادا و تفاقمت مشاكل الدولة و تعكرت الأوضاع الاجتماعية واتسعت بقعة الفقر” إنه الفشل و الفساد في تسيير دواليب الدولة أنتج غضب المجتمع في القرى و المدن (ص10) .
و مع عبد القادر توفيت “نوة” و الكل من رئيس هذه الأرض –
-هكذا كان اعتماد السارد على المزج بين التعريف بالشخصيات و الإشارة إلى قضاياهم و همومهم في نقد لاذع لرجال السياسة و تشهير بفظاعة ما يقترفونه من جرائم في حق شعب ضعيف مستضعف و هو في كل مناسبة يعبر عن تعاطفه مع المرأة التي فقدت ابنها “عبد القادر” (ص12/13)-
و مع هذا التعاطف يبدو المؤلف مفتخرا بانجازات المرأة التونسية فيشيد بها هذه المرأة التي حققت وجودها و ذاتها في تقليدها لمناصب حيوية في كل المجالات بما تمتلكه من قدرات و طاقات أهلتها لأن تكون فاعلة و فعالة و مع ذلك فهي مازالت تناضل من أجل تحقيق الحريات لا سيما المرأة المهمشة .
-إن النساء “ملح الأرض” هن السعادة كما يقول ” (ص85)
-إننا نجوب تخوم الرواية صعودا و هبوطا عبر مضامين لها صيرورتها و سيرورتها غير الثابتة تحركها الشخصيات التي تخيرها الكاتب لتكون صدى لفكره و قناعاته فبدت شخصيات إشكالية لها تحدياتها في واقع متأزم في حبكة قصصية تأسست على إستراتيجية سردية انطلقت من ذلك الواقع لترسم لنا عالما خارجيا منفتحا و عالما داخليا نفسيا مهزوزا و مع ذلك فقد استطاع الكاتب الروائي “الامين السعيدي” أن يخلق نوعا من الـتلاقي بين العالمين من خلال التحاور بين الشخصيات رغم تنافرها و بكل ما تضمره كل شخصية من مواقف من غيرها ليجسد نوعا من الصراع بينها و هو صراع بدا محتدا عنيفا لاسيما في المستوى السياسي عبر تكثيف المقاطع التي تؤكد ذلك الصراع (عندما يلتقي المناضل بالأمن / التعذيب و كل ذلك يدفعنا إلى القول إن الروائي السارد العليم قد عاين الوقائع عن كثب في خطاب سردي انتقى له تقنيات و أساليب دججها بعمليات الرصد الوصفي المبني على التفاصيل المطعمة بالتعليل و الشرح و التفسير والتوضيح و كأنه يبرر بخطابه الواقعي الواضح في استعراض القضايا الحارقة فتنساب الأحداث و فق نسيج سردي له أبعاده و غاياته و مقاصده التي يدركها القارئ المتلقي عبر تفهمه لرؤية الكاتب و مدى تفاعله معها في إطارها الواقعي و التخييلي في بنية سردية مخصوصة لها أشكالها المتنوعة التي انبنت عليه الرواية “مدينة النساء” لا سيما أسسها المتفق عليها ( المكان / الزمان/ الشخصيات / نوعية السرد / بعيدا عن تلك الزخرفة اللغوية التي تخفي شخصية المؤلف الملتزم بإثارة قضايا مجتمعه على أساس رؤية المثقف الذي يؤمن بأن له مسؤولية خطيرة و هي التعبير عن العالم و عن نفسه في عمل إبداعي يثير انفعالات و أفكارا و إمكانيات جديدة و هو بذلك قد يختصر ما قاله “سارتر” في فلسفته العميقة عن مفهوم الالتزام = انه المبدع الذي يرسم حلما ينشد تحقيقه في مدينة فاضلة ” هي “مدينة النساء” إنها المدينة التي تمثل الوطن من خلال المرأة رمز الخصب و العطاء و العدل و كل قيم الخير و الحق و الجمال بعيدا عن كل ما يكدر سلامها من ظلم و قهر و قبح و شر يؤذن بزلزلة كيانها و وجودها أو زعزعة استقرارها و أمنها .
و لذا نجده يفك اللغز حين يصرخ “صفوان” بأعلى صوته في الفصل الرابع و الأخير من الرواية و هو في سيارة الأمن نحو القرجاني “ص102″ يا أهل المدينة هل تحول كل الرجال إلى نساء ” و هو يرى جمعا غفيرا من النسوة المجتمعات أمام المسرح البلدي يطالبن بحرية الرأي و حرية المعتقد و قد أجبن “صفوان” المتسائل في حيرة و بصوت واحد قائلات :”إنها مدينة النساء” مدينة الحرية رغم بطشكم يا دولة البوليس” و قد ظنن أن الصوت المنبعث من السيارة هو صوت البوليس صوت السلطة المتجبرة في أرض تراكم عليها السواد فضاقت النفوس و انهارات القيم و صعبت الحياة (ص99)
الخاتمة
إن رواية “مدينة النساء” من الجدية بمكان إذ يلقى مؤلفها الضوء على مسائل اجتماعية و قضايا و مشاكل تفشت بعد الثورة في المجتمع التونسي طرحها بجرأة ووقعها بأسماء مستعارة مطبوعة بطابع الرواية النفسية المتوترة ، و هنا نجد دعوة منه إلى تأمل الواقع الاجتماعي البائس في تضاريسه المكانية الجغرافية بواقعيتها و تضاريسه النفسية الباطنية في استجلاء المعالم الفكرية للشخصيات .
بدت لنا الرواية محاولة من المؤلف لأن يجد ذاته عن طريق الشخصيات التي يغوض في دواخلها يصحبها في قلقها و توترها و في استقرارها و هدوئها و هو يتوغل في كل زاوية من زوايا طبيعتها البشرية لا سيما المرأة التي نالت حظا كبيرا من التعاطف و الإشادة بمآثرها فهو في كل مناسبة نجده يتحدث عن مزاياها فهو أيضا ذاك الذي لا يحيط نفسه بحواجز فكرية أو عاطفية قد تمنعه من الإفصاح عن مواقفه لأنه يعرض الشخصيات بنوع من التميز (مثلا في حديثه عن قصة الحب بين فاطمة و صفوان) و كأنه يريد أن يبرز أن القارئ في حاجة إلى أن يجد في الرواية جانبا رومانسيا يبعث فيه الإحساس بالاطمئنان أو جانبا يمنحه شعورا من الراحة النفسية إزاء واقع متعفن .
فالمسالة هنا ليست مسألة تفحص الراوي لذاته فحسب بل هي مسألة تفحص عوالم الشخصيات الخفية و هنا فالمؤلف يكتب من باب التعاطف مع تلك الشخصيات ولا سيما المرأة بطريقة طريفة في عرض مشاكلها في رسم فوتغرافي لواقع مرير على كل المستويات انه يحمل هم الوطن الذي تردى إلى أرذل درجات التدهور السياسي و الاقتصادي و الأخلاقي و الفكري لينقل لنا صورة غاية في القرف و الاشمئزاز ( أنموذج عبودة الذي يطمح إلى الاستقلال عن الحاكم بعد أن أصبح ثريا يمتلك المصانع و المتاجر و أرقي أنواع السيارات (ص26) .
لقد وزع الروائي الأمين السعيدي مادته السردية أو خطابه السردي عبر مجموعة من الأحداث التي أوردها في نظام زماني خطي في شكل دائري إذ نجد أنفسنا في عود على بدء و انتهاء من حيث الابتداء حيث صفوان الذي و جدناه في البداية يصرح برغبته في المغادرة و الهجرة أو الارتحال إلى ارض أخرى هو نفسه يهتف قائلا ” التقت الأوطان في لحظة سبات حراس النظام (ص129) و لهذه الجملة رمزيتها و كأن الحلم يوشك على التحقق لذلك لم يخف إحساسه بالتفاؤل في قوله “سيعود هذا الوطن إلى شعبه” (ص 129) .
انه التأسيس لمشروع وطني سيبدأ من انقلترا بلد الحرية حيث يحترم الإنسان و انه الحلم بالعودة للحكم و تحقيق العدل و المساواة بين كافة أطياف الشعب (ص130) انها رواية اللحة و الموقف لان الكاتب لا يمكن ان يكون محايدا .
و هنا تتساءل “فاطمة” قائلة “ستحكمها النساء” فتجيبها نوال نعم” النساء” و يؤكد “صفوان” ذلك بقوله : (إذن ستكون” مدينة النساء”) و هو الذي يرى ذلك في المستقبل القريب (السين + فعل مضارع) غير أن “فاطمة” لا ترى ذلك لتقرر الأمر بقولها : ” نعم و لكن بعد عقود” لتنغلق الأحداث بالعودة إلى البداية عندما ” شرع في حديث البداية (ص 130) .
هكذا اتخذت الأحداث نسقا تصاعديا لا سيما في مستوى العلاقات بين الشخصيات التي مثلت العصب الأساسي للحبكة السردية في مختلف حالاتها النفسية و الوضعيات الفكرية و الأخلاقية و الاجتماعية توترا أو انسجاما في مستوى الأفعال و الأقوال و الأحداث و بذلك تشكل خطاب الرواية عبر تعرجات و منعطفات تشي في مجموعة من الأهداف التي سطرها الكاتب فهو المؤلف الذي فهم دوره في تشكيل خطابه السردي و استوعب دوره في التأليف بين عناصر القص و قد جمعها و صاغها صياغة المدركى للعملية الإبداعية التي يتقاطع فيها الواقعي بالتخييلي ليبني عالم روايته .
و عبر كل ذلك لا يمكن أن تفوتنا الإشارة إلى ما شاب البنية السردية للرواية من اضطراب في الأحداث أحيانا في مستوى التنظيم في الزمن مما يضطرنا إلى أن نعيد القراءة لنتبين الخط الزمني لها الذي يتداخل مع الخط الزمني للشخصيات ذاتها في مستوى تفاعلها مع الواقع الاجتماعي و السياسي عندما يسقط السارد في العديد من المواطن في نوع من الاستطراد في التعبير عن مواقفه من السلطة و الحاكم و رجال الأمن و من جملة من القضايا الحارقة في تونس و العالم العربي بعد ما سمي بثورات الربيع العربي من ذلك قضية المرأة و تحررها الفكري أو قضية الحريات في المجتمع العربي بين السلطة الغاشمة القاهرة بقمع الشعب الطامع للتحرر / قضية التعذيب في السجون / معاناة الشعب التونسي من الحكومات المتعاقبة الفاشلة و الفاسدة / قضية المخدرات /المثلية الجنسية / الحرقة و قد يكون مقصودا من الروائي “الامين السعيدي”
=== الغوص في الواقع الاجتماعي المتعفن بكل ما فيه من بؤس و مرارة على كل المستويات .
-يدخل السارد عالم المرأة التونسية و المرأة العربية ليجعلها نافذة يطل من خلالها على تلك القضايا الحارقة بأسلوب روائي تقاطع فيه السرد بالوصف و الحوار بلغة كانت في المتناول متداولة كانت فيه المرأة قطب الرحى و هي التي حملت على عاتقها حلم مجتمع بأسره إلى جانب المثقف الذي يتحمل مسؤولية إجهاض هذا الحلم و هنا سيطر صوت المؤلف الباحث عن أرض تسودها القيم و المبادئ الإنسانية النبيلة فعبر عن وجهات نظره من عديد القضايا الحارقة مما يجعل الرواية متسمة بذاتية صاحبها المؤلف .
إنها صرخة يطلقها بصوت عال تعبر عن إحساس ممض بالألم و وجع في نفسه امتزجا بمشاعر الإحباط و الخيبة إزاء واقع مترد متدهور على كل المستويات لا سيما بعد الثورة .
الدكتورة “مفيدة الجلاصي”
1
Discussion about this post