التهويل مختارات بقلم د علي أحمد جديد سورية

مختارات ..
=-=-=-=-=-=

التهويل ..

د.علي أحمد جديد

التهويل هو التعامل مع القضايا بمزيد من التضخيم ، وإعطائها حجماً أكبر فتتحول إلى امر يصعب التعاطي معه .
وإن ضعف التشخيص الحقيقي للمشكلات والمبالغة في مناقشة القضايا التي يمر بها الإنسان سواء على الصعيد الشخصي والفردي أو على الصعيد الجمعي العام ، يضخم الكثير من القضايا ويؤثر على مسار الحياة وتفاصيلها كما يولّد ضغطاً حقيقياً على الأفراد والمجموعات ككل .
والواقعية في التعامل مع ما يتم تناقله من الأخبار وما يختبره الإنسان في المواقف والمشاكل التي تؤثر على تفاصيل حياته يعتبر أمراً في غاية الأهمية ، وخاصة في ظل موجة التهويل والمبالغة التي تشهدها مواقع التواصل الاجتماعي اليوم في التعاطي مع أخبار الزلازل والهزات الأرضية ، والمبالغة في التوقعات التي تزيد من حالة الإحباط والاحتقان الفردي والأسري والاجتماعي .
وليست الأخبار السياسية والاقتصادية وحدها التي تخضع للتهويل وللمبالغة في النقد ، لأن منصات التواصل الاجتماعي أيضاً باتت ساحة خصبة ومؤثرة في تهويل الأخبار المتناقلَة حول التوقعات الكارثية ، وفي مظاهر التغير المناخي ، وارتفاع أسعار المحروقات .. وحتى على مستوى تأخير دوام المدارس ، وهو ما يفضي إلى حالات من القلق والتوتر التي تنتاب الكثير من الأفراد والأسر على حدّ سواء . لأن التعامل مع الظروف والقضايا العامة وحتى الخاصة التي تواجه الأفراد والمجتمعات فن يحتاج الى الحكمة وإلى المنهج العلمي في ممارسته حتى يتم التعامل مع أي مشكلة بشكل صحيح . والتي تتطلب الاعتراف بوجودها أولاً ثم تحديد حجمها ومدى ديمومتها ، إن كانت دائمة أو مؤقتة ، وضرورة امتلاك المعلومات العلمية الكاملة عنها ، ودراسة مدى انتشارها ودرجة تأثيرها .. ثم البحث عن الطريقة الصحيحة في مواجهتها ووضع الحلول المناسبة لمعالجتها بأقل مايمكن أن تتركه من التأثيرات السلبية ، مع ضرورة المحافظة على مصالح الغالبية وذلك مايساعد على تقليل السلبيات والخسائر حين يكون التشخيص واقعياً وبعيداً عن المبالغة والتهويل ، مع الحرص على عدم التقليل او التهوين من المشكلة أوأثرها وخطورتها .
واللجوء الى التضخيم والتهويل ، يعكس صورة غير حقيقية عن حقيقة المشكلة أو حجمها ، مما ينعكس سلباً على إمكانية تجاوزها وإيجاد الحلول المناسبة ، عدا عن الآثار الأخرى .
وإن المبالغة أو التهويل بات أسلوباً معتمداً ونمطاً في التفكير عند البعض ، سواء على مستوى المؤسسات أو الأفراد ويمكن ملاحظة ماإذا كان التهويل مقصوداً أو غير مقصود ، لأن الأثر السلبي يقع على الجميع ودون استثناء .
والمقصود بالتهويل هو المبالغة و تضخيم الأمور أكبر من حجمها والزيادة عليها حتى في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية بمحاولات إبعاد الأمر عن حقيقته كما هو على أرض الواقع ، بحيث تكون صورة الأمر الجديد لا ترتبط بالقضية الأساسية إلا من حيث المسمى فقط . ويكون التهويل عند البعض أسلوباً وسلوكاً يغلب على جميع تصرفاتهم وفي جميع الظروف سواء في تصوير لحظات الفرح أو في وصف ساعات الحزن ، وكذلك في الرضا والغضب ، وفي الكلمات والتعبير وردود الأفعال ، وسواء في الظروف العادية أو في الحالات الاستثنائية .
ومن الأسباب التي تدفع إلى التهويل ، عدم القدرة على التشخيص الصحيح سواء لضعف الخبرة أو لنقص المعلومات أو لعدم القدرة على التعامل معها أو عدم الاستعداد في تحمل تبعات الحلول أو الرغبة في التأثير بالآخرين وقناعاتهم وتوجيهها نحواتجاه معين ، وصرفهم عن الحقائق لأهداف تسوقهم دون تفكير للخضوع والتسليم . وذلك مانراه في بعض المشكلات الاجتماعية التي يتم تضخيمها أكبر بكثير مما هي عليه في الواقع ، إما لأسباب عاطفية أو للتأثير في الرأي العام . ولكن وفي كل الأحوال فإن هذا التهويل وإن كان ظاهره يحقق بعض النجاح للقائمين عليه إلا أن حقيقة الأمر ليست في صالح المجتمع إذ تكون النتيجة عكسية وتؤدي إلى تفاقم المشكلة وانتشارها . وكم من قضية يتمُّ التعامل معها بالتهويل وبالتضخيم ولكنها تبقى قائمة وتزداد انتشاراً بسرعة كبيرة ، ويكون الخاسر الوحيد والأكبر هو المجتمع الذي يفتقد الحلول لما يعانيه أفراده .
ومن أسباب التهويل المهمة أيضاً هو عدم الثقة بمصادر الأخبار والمعلومات والقائمين عليها بسبب تعارض ما يطرحون من حلول فاشلة وكاذبة – أحياناً كثيرة – مع الواقع المعاش الذي يلمسه أفراد المجتمع في أكثريتهم وغالبيتهم ، فضلاً عن تأخر نشر الحقائق والمعلومات الصحيحة أو التلاعب فيها ، أو الغموض وعدم الوضوح الذي يتيح لكل شخص أن يتحدث بما يريد وبالطريقة التي يريد .
وقد يلجأ بعض الأشخاص أو المؤسسات أو الجهات إلى تضخيم بعض القضايا وحسب ما يناسب الرغبة لصالح هذه الجهات بهدف التأثير على الرأي العام وكسب تأييده وتعاطفه ، في حين يتم التقليل من شأن بعض الأمور مهما كانت ذات أهمية لتنفير الناس منها وإبعادهم عن الحقيقة وعن الواقع .
كما أن المبالغة في الانتقاد وتضخيم بعض الأخطاء والعيوب وتصويرها على أنها جالبة للكوارث ، وكذلك تعمّد التقليل من قيمة الأمور الإيجابية ، وتضخيم أثر الأمور السلبية هو صورة من صور التهويل الذي يؤدي إلى تغييب الحقائق ونشر اليأس والإحباط في النفوس ، وعدم القدرة على العمل والإنجاز الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى حدِّ التخويف ونشر الرعب دون أن يساهم في حل المشكلات بل يزيد من تعقيداتها ويعيق الإصلاح وحتى أنه يضعف الكفاءة في التعامل مع الأزمات ، إضافة إلى إرباك الجهود وإعاقة تحقيق نتائجها .
ويعتبر التهويل والمبالغة والتضخيم مرضاً من الأمراض النفسية ، وذلك لابتعاده عن ضرورة التعامل مع القضايا والمشكلات بموضوعية وواقعية تتطلب عدم إعطاء الأمور أكبر من حجمها ، وذلك لما في التهويل والمبالغة من الخطورة على أمن المجتمعات وخصوصاً في الأزمات والكوارث .
ولأن التهويل في هذه الحالات يحتوي على مايمكن تسميته (التشويه المعرفي Cognitive distortion)‏ وهو ما يُشير إلى الأفكار اللاعقلانية والمبالغ فيها ، والتي تتسبب في خلق الاضطرابات النفسية الجمعية ، وخاصة الاكتئاب والقلق ، وهو ما وضعه الطبيب النفسي (آرون بيك Arone Beck) كأساس نظري في دراسة التشوهات ، وفي البحث لموضوع التهويل كتشويه للمعرفة وللحقائق ، حيث يصف دليل الشعور الجيد من الأنماط السليمة في التفكير وتؤدي إلى كيفية القضاء على سلبياتها .
ويعتقد المعالجون المعرفيون أن (التشوهات المعرفية) هي الأفكار الكامنة وراء رؤية الحقيقة بصورة غير دقيقة أو تعمّد رؤيتها بصورة مغايرة لما هي عليه ، وغالباً ماتكون هذه الأنماط من التفكير مُعززة للأفكار وللمشاعر السلبية وهو ما يدفع التشوهات الإدراكية إلى التداخل مع الطريقة التي ننظر بها إلى حدث ما . ولأن طريقة الشعور تتداخل مع طريقة التفكير ، فإن هذه الأفكار المشوهة تغذي المشاعر السلبية ، وتقود المجتمع المتضرر من تلك التشويهات المعرفية إلى نظرة سلبية عامة تجاه الحياة ككل ، وبالتالي إلى تعميم حالة عقلية اكتئابية و قلقة لدى الغالبية العظمى .