رغم تراجع النّقد وندرة اقبال الأكادميين على تناول النّص المقروء تطالعنا أحيانا مقاربات نقدية مبهرة تستفزنا للمشاركة والتّمعّن فيها والتّفاعل معها ..
وقد شدّتني المقاربة النّقدية للدكتورة فائزة بنمسعود
في المؤلف “رأس العين ” لسلوى الرّاشدي …وليس لي ما يمنعني رغم امكاناتي النقدية البسيطة في التّفاعل معها باعتبار أنّ النّص النّقذي لا يشذّ عن قاعدة التفاعل وإعادة إنتاجه.
وقد أكدّ أودونيس هذا بقوله “ادب الكاتب يُوجبُ أدبَ القارئ”
صنّف المهتمّون بهذه المسائل بتعريف يدخل تحت طائلة”نقد النّقد” إذ هو يدور حول المقال النّقدي وتمعّن أدواته الإجرائية وبنيته….
وحريّ بي أن أشير إلى هذا المنهج وما يتطلبه من دراية وتمكّن يضع المعني على خطّ قرائيّ معيّن واضح المعالم وفقا للتعريفات فيه ..
وأذللتّوضيح أضع جهدي هنا كقارئة تركب دوما جرأتها وولعها لإبداء الرّأي بما تيسّر لي من فهم وجمالية تلقّ..فهو جهد متواضع وابداع أدبي على ابداع نقدي….
وهذه انطباعاتي حول هذه المقاربة النّقدية القيّمة في “راس العين ” لسلوى الراشدي بقلم الدكتورة فائزة بنمسعود
استهلت ناقدتنا مقارتها بطرح لقضيّة تشغل السّاحة الأدبية وهي اعتماد اللغة المحلية في التأليف مؤكّدة أنّ للغتنا المحليّة مباهجها وأفانينها فاتحة لنا لنا كقراء واجهة نقديّة تحيّن في أذهاننا قضايا النّقد وأطروحاته واشكالاته..
تقول الناقدة في مقاربتها
(يرى بعض انصار اللغة العربية الفصحى
ان الكتابة بالدارجة تعد مسا من قدسية الفصحى باعتبارها لغة القرآن اللسان العربي المبين
وهذه في اعتقادي مقاربة عمياء صماء بكماء منغلقة والمعروف أن فعل الكتابة هو دوما رمز الانفتاح على عوالم ابداعية أخرى وغزو أجناس كتابية اخرى
وقد اختار بعض الروائيين والكتاب التونسيين
من سنوات الكتابة بالدارجة التونسية…
متخذذة لنفسها موقفا في رصد النظريات المتعلقة باللغة المحلية أو “الدارجة” في المنجز الكتابي كاشفة عن حسّ تنظيريّ ابداعيّ غير مغيّب لهذه القضية ..
ثم تتطرق الى استجلاء ماحفلت به الأساطير والحكايا في قصص الحب محقّقة فيها عبر ما ورد في “راس العين”..ليتحول التحقيق الى شكل من النّقد تجيئنا تجلياته في قولها
“في (راس العين)
إنها الاسطورة، إنها الخرافه، إنها الواقع الذي رحًله المخيال الشعبي الى عالم الاساطير
في مجتمع يعدُّ فيه الحب من الكبائر التي تدفع فاتورتها الانثى لان الرجل فوق الشبهات وهو الكائن الوحيد على وجه البسيطة الذي يحمل قلبا ومن حقه الحب واختيار من هوى حتى وان كانت هي رافضة وغير راغبة فيه وقد تصل به( الفحولة) بين قوسين الى تلويث سمعة من عشقها ورفضته ليبقى هو البطل المنقذ والمنجد ومخلص شرف عائلة الفتاة من الاذى ،عقلية شربت علقمها الانثى قرونا …
والواقع ان المراة الحرة في اي زمان وفي أي مكان تحب وتعشق لان الحب أهم ركن في ممارسة الحرية
فالمراة الامَـة والمستعبدة يُران على قلبها وهي لا تفقه ان كان لها قلب أم خلفت بدون قلب…
فالإرث الإجتماعي الثقافي والنزعات الوجدانية تستوجب تخليصا وانعتاقا من المفاهيم المتوارثة……
وتوظّف الشخصيّة المثيرة في هذا المؤلف …المانعة …بل لعلي أقول الممنوعة لابراز النّمط المجتمعي للمرأة عند أهل “راس العين” …قاذفة القارئ في متاهات التفاعل والإنفعال
أكلّما كانت البيئة بسيطة وتقليدية ابتعدت عن ادراك الحريات …؟
فالمقاربة النقدية لم تمنع عن متلقيها مرونة التفاعل مع صرامة التقاليدالتي تعتبر الحب من الكبائر والممنوعات وهو منحى حداثي للنّقد المتطور الذي لا يجعل من النّص قانونا صارما يلتبس فيه الإشكال بالابداع ..فهو يسمح بالنقاش وردّة الفعل عند وبعد القراءة …وهي مثاقفة نستشرفها من خلال وقوف الناقدة عند نمط الحياة والمجتمع …بل أراها تدعو من خلال نصها النّقدي إلى مراجعة المفاهيم السّائدة ..
تقول فائزة
والواقع ان المراة الحرة في اي زمان وفي أي مكان تحب وتعشق لان الحب أهم ركن في ممارسة الحرية
فالمراة الامَـة والمستعبدة يُران على قلبها وهي لا تفقه ان كان لها قلب أم خلفت بدون قلب
اما الحرة فحريتها تبدأ من قلبها لتشّع على العقل وبقية الحواس فترى وتسمع وتتذوق وتشمّ
فهي مالكة و متمكنة من كل حواسها وسيدة نفسها والمانعة حرة بنت حرة وبنت صناديد كما يقال
وقد ألحّ المنظّرون على النّاقد أن ينتهي نصه النقدي بعمليّة فكرية تحليلية تبرز ملامح منهجه الخاص في ضوء هذ الواقع وماشابه من تصدّعات حول امهات القضايا .
كما جاءت هذه المقاربة النّقدية حافلة بالحسّ والإمتلاء الذاتي بالذاكرة الجماعية في تناولها لمقاطع شعرية من ابداع سلوى الرّاشدي تؤرخ لحقبة تاريخية هامة عاشها اهل راس العين كغيرهم من التونسيين
تقول
-ومع —العاصفة —دخلنا غمار الصراع بين القوة والظلم المتمثلة في الباي واعوانه وبين الشعب بقيادة باي الشعب والرعية المظلومة ،ميزان قوى مخروم ولكن للحق جولاته وان طال الضيم واستفحل الجور واعوان الباي ينتقمون من الابرياء العزل قصد إرضاخ الثوار واسكات الثورة
واستشهاد عبادة على يد خائن لم يثن من عزم الثوار وان كان هو أشجع الثوار وفارس حرب يعتدّ به..
وتنحو بنا الى التّوسّع عند قولها
التاريخ من الباب الواسع للوفاء وصدق ونبل المشاعر
وما زالت أسطورة تروى على راس العين ومن اعلى شجرة التوت التي كانت مرصد المانعة تعتليها
لتراقب حركة الكون من حولها
حملتني (راس العين) لقصة قصيرةعنوانها (النبع )لتوفيق فياض -وهذا لعمري تناص
ويبقى التناص رهينا بطبيعة قراءة المتلقي والكاتب يستمد أفكاره من سعة خياله ومخزون الذاكرة والموهبة -ويستقي القارئ مرجعيته من ذاكرته ومن معارفه المكتسبة”
وهوضرب من التّنويع تمنحه لأفق القارئ دون غلق لمنافذ المنجز في علاقة بتاريخ الشعوب والأمم ..
أما فيما يتعلّق بالمقاربة الفنية البلاغية لهذا المنجز فقد جاءت ضمنية وصريحة على امتداد قراءتها
توقّفت عند جمال وبلاغة الأشعار التي انتجتها سلوى الراشدي فأسهمت في نقلها وتسريبها لنا فاتحة قراءتها في اتجهات ذات صلة
فأوردت استدلالات منتقاة باقتدار وحرفية وأردفتها بتحليل وتمعّن لغوي بلاغي دقيق
تقول الناقدة
-فالكاتبة متمكنة من قواعد البلاغة وتقنيات الكتابة وهذا ملموس في السرد والشعر على حد سواء وهذا الاثر الادبي منفتح على قراءات متعددة
يقول رولان بارت(الكتابة هي علم مباهج اللغة)
والكاتبة حسب رايي متلبسة بهذه المباهج
كل فصول(راس العين) غنية بالشعرالممسوس بالعشق وبالوطنية والمتماهي مع سحر الامكنة خاصة وعمق الشخوص وشفافية دواخلها
وكل قصائد (راس العين) حبلى بالواقع والاسطوري
وتحمل في كلماتها حقيقة تحتاج النبش فيها والوقوف على ملابساتها للتأريخ لها وتوثيقها علها تساعد يوما ما في دراسات معمقة في موروثنا من الشعر الشعبي
والشعر يعتمد على الصور والاستعارات وكل استعارة هي اسطورة مصغرة كما قال (باشلار)
وهذا حسب اعتقادي متوفر في اشعارراس العين
كما توقفت عند العناوين الفرعية باعتبارها عتبات هامّة ..
أخيرا لا آخرا أعتبر هذه المقاربة النقدية في منجز سلوى الراشدي قد حقّقت التّنوّع والإختلاف. فهي على منهج تأصيل وتحديث النّقد …وماكانت تكون بهذا المستوى والعمق لولم تكن في علاقة مع الإحساس المرهف وقدرة التفاعل مع المقروء علاوة على ماتفترضه مناهج النّقد من المام وتمكّن ….
والواضح عند الناقدة فائزة بنمسعودأنّ النّقد إبداع….مهارة تستجلي مكامن النص المشتغل عليه ويرتقي بمتلقيه الى تسام يتحيّز فيه ويستوطن في أفضية آفاق ومتاهات جمّة
تحية لك سيدتي الناقدة الدكتورة فائزة بنمسعود
تحية للشّاعرة سلوى الراشدي التي وفّرت مادة ابداعية لافتة يحلو الإشتغال عليها
دام ابداعكما ونحو مزيد من التألّق
صدبقتكم منوبية الغضباني
القصرين في 24.02.2023
Discussion about this post