” خطــوبة بالانترنت ”
قصه قصيرة
الساعات الزمنية لكل خطيب أو زوج تتعانق عقاربها أحياناً أمام معاني الحب والتفاهم وتتعارض عقاربها أحيانا عند معاني الانشغال والأنانية فإيقاع الزمن قد تغير ومتطلبات الحياة أصبحت ملحة وقاسية فلم تعد الأسرة كما كانت عائلة كبيرة بل تفرقت بين عمل الأم وسفر الأب بعيدا عن الأهل والأصحاب في غربة قاسية ولم يشفع لنا في ذلك إلا اللجوء لوسائل التكنولوجيا الحديثة التي صارت أمرا حتميا لإنجاز بعض الأشياء فوجدنا الآباء يقرأون الفاتحة في التليفون ويهنئون أولادهم بالفاكس والانترنت .. وأصداء هذا فرض علي والدي درجة كبيرة من المرونة فوافق علي خطبتي بالإنترنت فظروف عمله لا تسمح له بالحضور إلي القاهرة لإنهاء هذا الأمر . كما أن والدتي بعينها الخبيرة الفاحصة قد وجدت في حازم الشاب المناسب من كل النواحي كما إنني قد اخترته ووافقت عليه بصفتي ناضجة وواعية والسير في الوقت نفسه علي ما نشأت عليه من تربية والتزام بتعاليم الدين وارتضيته بالقلب والعقل كان لابد من استثمار الوقت ففي الوقت الذي يكون والدي موجودا بالقاهرة أجد والد “حازم” موجود بالبحرين والعكس صحيح وإذا انتظرنا أن يلتقي الاثنان سويا فان الخطبة لن تتم إلا بعد شهور طويلة لا يعلم إلا الله مداها .
لم أشهد في حياتي لمعة الإشراق التي ظهرت في عيني أمي وجدتي كما شهدتها في هذه الليلة خاصة بعد أن وافق والدي علي خطبتى وزادت من تفاؤلنا بعد أن سمعنا ” زغرودة ” رنت في المنزل المجاور لنا بمناسبة كتب زواج ابن جارنا ” عادل حجازي ”
خطر لي أن أسال جدتي إلا تذكري هذه المناسبة يوم زواجك من جدي ؟
وكان فيض من الإشراق ممزوج بخليط من الحب والحنان والذكريات قد أضاء صفحة وجهها .. وراحت تحكي في انسيابية وكأنما تعيد شريط ذكرياتها بدون ترتيب : ايه كانت أيام حلوة ” عمركوا ما حتشوفوها ” جدك رحمه الله اشتري لي ” خلخال” ذهب مش فضة زى بنت العمدة وخواتم وغوايش . ازداد وجه جدتي حمره وخجل وأنا أسالها عن الحب وكأنما استذكرت السؤال : ” شفت جدك لما كنا ” صغيرين ” في البلد ولما حصل الزواج كان بقالي ثلاث سنين لم أره غير ” ليلة العمر ” كما تسمونها الآن كان وجهه ابتسامة وإشراقة وكلماته ملمسها الحنان ” ..رفض أن أحضر من بيتنا علي ” عربة عادية ” بل أحضر ” حنطوراً ” .وكان “الحنطور” مازال اكتشافاً وكأنه ” العربة الشبح ” كما يسميها أولاد اليوم ودخلت بيت جدك وسط الزغاريد وتقديم التهاني وضرب النار ..وكان أهل البلد كلهم موجودين وذبح جدك “ذبائح لاكرام المعازيم ” ..ومصمصت جدتي شفتيها وكأنها تتحسر علي ليال الماضي الجميل كأن جدك أفندي موظف في الحكومة كل بنات البلد حسدوني عليه وكأن الكلمات قد تعثرت في حلقها .. ترك الحكومة وتاجر في البقول كسب كثيراً وخسر كثيراً كان له هيبة واحتراماً كان الكبير والصغير يشاورونه في كل صغيرة وكبيرة .. رحمه الله.
قلت لجدتي مداعبة ومحاولة جذبها من مسحة حزنها وذكرياتها: أبي كان يحكي عن جدي انه رآكِ وأحبكِ لأنكِ أجمل فتاة في البلد !! عاودتْ الابتسامة وجهها مرة أخري وأطلقت ضحكات عالية ممزوجة بدموع الماضي تهز جدران الحجرة وسقفها .
قالت : عيب يا بنت أختشي جدك رجل جدع بصحيح .. رحمه الله ..
وبعد فترة صمت قصيرة قالت لي جدتي بشوق جارف : أطلبي لي أباكِ علي الإنترنت لقد أوحشني كثيراً .. وظهر والدي علي الشاشة ولكن هذه المرة رأيته متجهماً حزيناً ، تجاعيد وجهه ظهرت بوضوح وهو يطمئن علي أحوالنا ورأيت جدتي تخفي دمعة حارة من عينيها .
د. وجيه جرجس.
Discussion about this post