“البطالة”
رواية الأسئلة والحيرة بامتياز .
قراءة بقلم : الشاعر عمر دغرير .
“البطالة” رواية للكاتبة سناء الحرابي صدرت في 125 صفحة من الحجم المتوسط عن دارألف للترجمة والنشر سنة 2021 .
تتوزع الرواية على تسعة فصول مختلفة صدّرتها صاحبتها بالعديد من المقولات لبعض المشاهير بحيث نقرأ لبنجامين فرانكلين وفرانس كافكا ومحمد الغزالي ومحمود المسعدي ومصطفى صادق الرافعي وفلادمير لينين والإمام علي وغاندي ومحمود درويش ومكسيم غوركي وأبيقرو وآخرين وهم كثر . و في اعتقادي كثرة هذه التصديرات المختلفة لم تخدم الرواية بقدر ما شوشت فكرالقارئ ودفعته إلى منحى آخرغيرالنص .
وأذكر على سبيل المثال ما ورد في صفحة 55 :
” عندما لاندري ما هي الحياة , كيف لنا أن نعرف ما هوالموت ؟” وبلغة أخرى في معرفتنا للحياة معرفتنا للموت . أي عكس ما حدث في الرواية . الموت من أجل الحياة . سرقة وقتل شخص من أجل بقاء شخص آخر على قيد الحياة .
هذه الرواية انطلقت احداثها بمدخل مؤثر جدا حددت فيه الكاتبة الزمن والمكان دون أن تذكرهما . المكان سجن والزمن في كل حين . بحيث في كلمات معدودات صورت البطل وهو يستيقظ من كابوس ظل يلازمه طيلة المدة التي قضاها في السجن .
(… أيها السارق القاتل ستحاسب لن أسامحك, لن تهرب من عقاب الله, لن تهرب سآخذ حقي منك , سأنتقم لن تنام مرتاحا لن ترتاح في حياتك… لن ترتاح …)
(… أتركني … أتركني … أنت تخنقني ستقتلني …) .
وعلى هذا الحزن والرعب والخوف من العقاب في آن بنت سناء الحرابي هيكل روايتها مستندة على مجموعة من الأسئلة التي بقيت بدون إجابة .
وعبر طريقة الفلاش باك اسعرضت الكاتبة في مرحلة أولى حياة عائلة فقيرة تتكون من الإبن (شوقي) الشخصية الرئيسية وهو واحد من الشباب المهمش الذي أفنى حيزا كبيرا من عمره في طلب العلم حالما بالحصول على عمل يحفظ كرامته ويضمن له ولعائلته العيش الكريم ولكن تجري الرياح بما لايشتهي السفن . ويرتكب شوقي جريمة قتل ويقضي بقية عمره في السجن .
هذه العائلة تتكون من الأب (الشيخ محمود) والأم (خديجة) وثلاثة أخوات ( ريم ورهام والثالثة لم يذكر اسمها في الرواية ).وتعتبر هذه العائلة مثالا للعديد من العائلات المهمشة والمنتشرة هنا وهناك في هذا الوطن . وقد قال الراوي في صفحة 112 :
(…حياتي كانت بسيطة للغاية ,كنت أعيش مع أفراد أسرتي المتكونة من ستة أفراد في أحد أرياف هذا الوطن , في مكان لم تطله التنمية , هناك حيث يحيا المواطنون حياة قد تبدو بسيطة إلا أنها متعبة , ففي الريف عليك أن تعمل من بزوغ الشمس وحتى المغيب …).
ونلاحظ هنا اعترافا بلسان شوقي بأن العمل أمر لابد منه لضمان العيش ,وهو يؤكد بأنه لا يروم إلى البطالة والتقاعس . ليبقى السؤال هل البطالة وحدها كانت سببا في تشتت وضياع هذه الأسرة ؟
شخصية أخرى كان لها تأثير كبيرفي أحداث الرواية وساهمت في جزء كبير من التقلبات التي طرأت على حياة شوقي ومعاناة عائلته ,هي حبيبته وعد . هذه الفتاة المعشوقة جعلها في مرتبة الكواكب وقد قال عنها في صفحة 23 :
(…هي كوكب من الجمال والرقة . شعرها أشقر منسدل على كتفيها كأنه أشعة الشمس في وضح النهار , جسمها رشيق نحيف , أما عيناها فتشبهان المعبد في قداستهما …) .
ومرة أخرى يمكن أن نطرح نفس السؤال : هل البطالة وحدها كانت سببا في وضع نهاية لهذه العلاقة العاطفية بين شوقي ووعد .والحقيقة أننا نكتشف من خلال تصريحات شوقي أن هذه العلاقة كانت تشوبها بعض الخلافات التي لا تبشر بدوامها .بحيث نقرأ في صفحة 75 :
(… بقدر ما كنا متشابهين في العديد من الطباع والسجايا كنا متناقضين في أشياء أخرى ,فبقدر ما كانت وعد إجتماعية كنت أنا من النوع المنطوي على نفسه , كنت أميل إلى الوحدة ولم أدخل أحدا إلى عالمي الخاص عدا وعد لأنها لم تكن جزءا منه بل هي كانت عالمي وملجئي …) .
وهذا ما يؤكد على أن هذا الحب هو من جانب واحد ومصيره الفشل مهما طال الزمن .
شخصية أخرى قد لا ينتبه إليها القارئ العادي وأعتبرها هامة في جزء من الرواية .فهي التي ساعدت شوقي في أيام محنته بالسجن ,وهي العنكبوت (كروكينا) التي أنشأ معها علاقة صداقة متينة وظل يحكي لها ذكرياته بكل التفاصيل , حتى أننا نقرأ في صفحة 93 :
(…كنت أحدث (كروكينا) عن أيام كانت سعيدة في عمري فأضحك ولكن سرعان ما أتذكر السنوات الأخيرة منها فأبكي, فتحاول أن تهون عليّ وتواسيني فترقص وتتحرك …).
والسؤال المحيرهنا كيف للبشر أن يتحاور مع حشرة ؟ وكيف يفضلها عن باقي البشر؟ ولعل الإجابة نجدها في المثل الشعبي الذي يقول : (الغريق يتعلق بقشة ). بحيث يبحث الإنسان عن طوق النجاة, إذ أنه فجأةً ما يجد نفسه في بحرٍ متلاطم الأمواج, وقد يبذل كل ما بوسعه للعوم فيه ولن يقدر, لكونه لم يجد قاربا للنجاةِ, وكم صرخ (شوقي) في محنته ولكن لم يجد منجياً, فرأى قشة صغيرة, فحاول التمسك بها لعلها تنجيه من الغرق, لكن القشة لن تنجيه, والعنكبوت أيضا لن تنجيه , لأنها هي الأخرى ماتت وبقيت عالقة بشبكتها في السقف .
نعود الآن إلى العنوان ( البطالة) . ومن الوهلة الأولى نفهم أنه عنوان لدراسة أو تحقيق حول ظاهرة اجتماعية منتشرة في كل المجتمعات حتى المتقدمة . وفي اعتقادي أن الكاتبة لم تفلح في اختيار العنوان المناسب لروايتها .وأن هذا العنوان (البطالة) لم يخدم الصراع النفسي لكل الشخصيات وكذلك المعاناة التي أرادت الكاتبة إيصلها للقارئ . ولو أنها اكتفت بكلمة (البطال) لكانت أفضل .
في هذه الرواية نكتشف عالم السجن بكل جزئياته وتفاصيله , والكاتبة لم تكتب نصها إلا بعدما توفرت لديها المعلومات الكافية عن الحياة داخل السجون ,ولعلنا نفهم ذلك من خلال ما رواه شوقي داخل زنزانته وهو يقول في صفحة 14 :
(… كل شيء هنا خال من الحياة . الزنزانة الضيقة , الجدران السوداء , الفئران , العناكب التي احتلت المكان , وأنا , لاشيء هنا يوحي ببصيص من النور أو نفس من أنفاس الحياة …).
والثابت أن الرواية طرحت العديد من الأسئلة التي تنتظر من يقف عندها ويبحث لها عن اجابات . ولعل الكاتبة انحازت إلى الرأي القائل :
(…الكتابة هي فن طرح الأسئلة لا فن الإجابة عنها…).
ومن أهم هذه الأسئلة ما جاء على لسان شوقي في صفحة 20 :
(… لماذا ندرس إذن ونفني نصف أعمارنافي الدراسة إن كنتم تنتدبون أشخاصا لم يتحصلوا على شهادة الباكالوريا …؟).
ونفس السؤال ولكن بصيغة مغايرة في صفحة 21 :
(…لماذا تبني الدولة الجامعات ونتفق عليها أموالا طائلة إن كانت غير قادرة على تشغيل خريجيها؟…).
سؤال ردده شوقي في ذهنه عديد المرات وهو في قمة اليأس , جاء في صفحة 82 :
(… ما الخطأ الذي ارتكبه والداي حتى يعاقبهما الله بإنجابي ؟…).
أسئلة أخرى حول مرض والده زادت في حيرته وفي أحزانه في صفحة 32 :
(…كيف سياعالج والده إن صحّ شكّ الطبيب ؟ وكيف له أن يتدبر مصاريف عيش أسرته ؟ …).
أسئلة حارقة أوجعته كثيرا وهو في زنزانته بالسجن ,وردت في صفحة 87 :
(…أتساءل كيف سأكمل سنين حياتي وأنا بين أربعة جدران , لا يقبع خلفها سوى أنفاس الشر واليأس , ولا يوجد في زواياها سوى شبح الموت ؟ كيف سأكمل حياتي مع هذه الكوابيس التي تنفرد بي كل ليلة ؟ …).
إضافة إلى أسئلة أسال من أجلها دموعا غزيرة بعد أن تركته حبيبته وتجاهلت حبه الكبير لها حتى أنه قال في صفحة 26 :
(…ماذا عن ذلك الحب الذي بيننا ؟ وعن تلك الأحلام التي رسمناها معا ؟…).
سؤال مثير يبقى عالقا في ذهن كل قارئ : لماذا أقدم شوقي على ارتكاب هذه الجريمة وهو يعلم أن عواقبها وخيمة خاصة بعدما نقرأ ما قاله في صفحة 47 :
(…صحيح بأن هناك ظروفا تجعلنا ضعفاء وتجعلنا ننجرّ وراء وسوسة الشيطان ولكن علينا في كل الأحوال أن نتذكرالعاقبة الوخيمة , نتذكر عقاب الله لنا , ونتذكر دموع آبائنا , وأمهاتنا إذ لا مبرر للجريمة ؟…).
وهذا يؤكد على أنه يمتلك الوعي الكافي لتجنب الجريمة , ورغم ذلك ارتكبها وعاد إلى البيت وكأنّ شيئا لم يكن … حتى أننا نقرأ في صفحة 40 :
(… دخل غرفته بكل هدوء خوفا من أن يوقظ أخواته ووالديه , و تهالك على سريره متعبا مرهقا , ثم غط في نوم عميق …).
فهل هذا سلوك طبيعي لشخص ارتكب جريمة فظيعة قبل وقت قصير ؟
وقبل أن أنهي هذه الملاحظات حول رواية (البطالة) لا بد أن أشيرإلى نقطتين سلبيتين في اعتقادي:
الأولى في عدم اعتماد الدارجة المحلية في الحوارات التي وردت في النص . الحوار في السجن , والحوار في المقهى بين شوقي ووعد , وكذلك الحوار بين أفراد العائلة . والحال أن الكاتبة اعتمدت على هذا الأسلوب في الحوار الذي دار بين شوقي ووالديه بحيث نقرأ في صفحة 115 :
(… إش هو الوطن يا يما ؟
تنهدت أمي ثم قالت وقد برقت عيناها ورفعت رأسها إلى السماء :
(…الوطن يا كبدي هو ريحة الأرض اللي تعطينا من خيرها ,هو ريحة البحر و الفل و الياسمين , الوطن يا وليدي هو الأرض اللي نتوالد فيها و نعيش فيها و نموت فيها . هي أمنا اللي تجود علينا بالخير كيف نخدمها ونحبها بقلوبنا …).
أما النقطة الثانية فهي موجودة في صفحة 69 , حيث تكررت كلمة (جثة) أكثر من مرة وكان من الأفضل استعمال كلمة جثمان عوضا عنها .
وفي المجمل شكلت رواية ( البطالة) صرخة ألم . ورسمت عديد التساؤلات ونقاط الإستفهام التي لم تقدم لها سناء الحرابي إجابات جاهزة, وتركت أمرها للقارئ …وهي في النهاية رواية الأسئلة و الحيرة بامتياز .
Discussion about this post