رسالة عتب بين أستاذٍ وتلميذه .. فيها رقة العتب ، وجمال الأسلوب .
ما بين الوفاء وسحر البيان ، لن تغرب شمس مسقط في طهران
الوفاء من أرقى الصفات الإنسانية ، والتي إذا بلغها الإنسان ، تجسدت فيه معاني الفضيلة ، وما تحلّى إنسان بهذه الصفة إلّا لكونه صاحب سلوك قويم يمتح من نفس غلبت عليها فطرتها ، فصاحب الوفاء ، فطرته نقية لم تلوث بعد ، والوفاء يظهر في القول والفعل ، وإن أكثر ظهوره في الفعل أكثر ، وقد ينطوي قلب الإنسان على الوفاء ، لكن قد تحول الحوائل والموانع من أن يظهره البعض ، لكي يشعر به الآخرون ، ممن يستحقون هذا الوفاء ، وهذا ما تجسد لي في الواقعة التي سوف أُضَمنُها هذه المقالة، وطرفا هذه الواقعة هم ، طالب عماني أصيل النشأة والمحتد ، وأستاذ أردني صاحب أيادٍ بيضاء وفضل غزير ، كان الطالب دائم التواصل مع أستاذه ، يهاتفه ، يراسله ، يطمئن عليه الفينة بعد الفينة ؛ لكنه ولعبث الدهر معه ، وإذاقته صنوفًا من الشقاء والآلام التي رزح تحت نيرها شهورًا طوالًا ، انقطع هذا التواصل ، مما جعله يبعد عن كل الناس ، ويقطع التواصل بهم ، وانكفأ يعالج ما حاق به ،
وفي غمار هذه الأحداث وشدة وطأتها ، تناسى أستاذه ، وانقطع التواصل بينهما ، فلم يعد يهاتفه ولا يراسله ، ولا يجيبه ، ولا يرد على رسائله ، هذا الانقطاع جعل الأستاذ يُقدم على مُعاتبة تلميذه برسائل نصية عبر الهاتف ، هذه الرسائل أطلعني عليها التلميذ ، بعد أن لجأ إليّ يستفسر مني ما عساه أن يفعل ؟، فهو حزين جدًا لعتب أستاذه ، وأنه بريء من نكث العهد والوفاء له ولا سيما أنه ليس من شيمه نكث العهد ، وعدم البر بالوفاء .
طمأنته ، واستأذنته أن أتصدى بالرد على أستاذه ، وقد أقدمت على ذلك لصدق ووفاء الطالب وحبه وتقديره لأستاذه ، وما رأيت في موقف الأستاذ ورسائله من جمال إنساني يتمثل في حرصه على تلميذه ، وبقاء حبل الود موصول لا تنقطع عراه ، والسبب الأكبر في حرصي على الرد عليه هو بلاغة الأستاذ والتي وقعت من نفسي موقع حسنًا ، أكبرت فيها الأستاذ ، لتواضعه ورقة عتبه ، ودماثة خلقه ، وبديع ديباجته، وسحر بيانه فهرعت للرد عليه بلسان حال المعاتب .
وكانت رسائل الأستاذ على النحو الآتي :
“من الدكتور ….. إلى طويلب العلم العاق …….
فقد قرأت رسالتي قبل ثلاث ساعات ، ولم تتكلف الرد برسالة أو اتصال ، وأيم الله لكأنه سمعت عني سوءًا فصدقته ، فآثرت البعد عن قرب الود والمعروف .
سوف أرسل بأبحاثي إلى الجامعة الأردنية بإذن الله ، عسى الله أن يوفقنا ، فإذا صدف ورأيتك في أي مكان ولو قرب داري ، فأيم الله لا أستضيفك ولا أدخل دارك حتى تغرب شمس مسقط في طهران ، والسلام .
قال تعالى” قال هذا فراق بيني وبينك سأُنبّئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا ”
وَأَمّا ردي على رسالته ، فكان كالآتي :
إلى من أرْدَاني عتابه غياهب الحزن ، فبت حالي كحال القرية التي كان آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا فكفرت بأنعم الله .
إلى من عتبه جعلني أعض على يديَّ ، وأصبح حالي كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا .
إلى من أضناني عتبه ، وأرهقني من أمري عُسرا فطفقت أبحث في نفسي عن معانٍ وألفاظٍ أنظمها نظم النجوم في جيد السماء تستبق في فضاء روحي علّها تقع من نفسك أستاذي ومعلمي بردًا وسلامًا ، فرُبما أدَّاركُ بها ما سببته من جفوة اصطنعتها على جهلٍ ،وأسدُبها ثلمة ثلمتها بدون قصد ، وارتق ما انخرق في ثوب الود والمعروف ، واجبر ما انكسر من وصال ، اجبرت على كسره جبرًا لا حيلة لدّي فيه ولا اختيار .
أنت أستاذي ونعتني بالعاق ، وأنا لم ولن تأخذني العزة بالإثم ، وأبدي ضجرًا أو استياءً مما وصمتني به ، ولا أتنكر له ، ولا ينبغي لي أن أتنكر ، ولن آوي إلى ربوة الإحساس بالذات تعصمني من وصفك ، فأنت أستاذي ، ومعلمي وأخي ، ومنتهي أملي .
أستاذي أُ نبَّئُك – ولا يُنبّئُك مثل خبير – أن الدَّهر له من الصُّرُوف والآلام ما رزأتني ممسيًا ومصبحًا ، وفي دلجتي وغدْوتي ورواحي ، فشغلني عن نفسي وعن الناس وعن كل ما أحب ، وأنت ولا أزكيك على الله من خاصة الخاصة التي استخلصتها لنفسي ، لذلك فعتبك لي ولومك إيّايَ في رسائلك ، وقولتك التي أدمت قلبي ، وتنزّت لها روحي “ وإن صدف ورأيتك في أي مكان ولو قرب داري فأيم الله لا استضيفك ولا أدخل دارك حتى تغرب شمس مسقط في طهران “
وختمتها بقوله تعالى “ قال هذا فراق بيني وبينك سأُنبّئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا “
حقيق عليّ يا أستاذي ، أن أطلعك على ما في نفسي ربما يعالجها ما أبوح بما فيها لك ، وأن عتبك جعلني استاء من نفسي لتقصيري في حقك ، وجعلني صغيرًا كعود كلأٍ تحت سنابك الحياء منك ، إلاّ أنه ورغم قسوته أعادني إلى نفسي ، واخضرت بعد جدبٍ وأضحت مورقة خضراء يتسلسل ماؤها بعد يبسٍ ، وتروى بعد جفافٍ ، وتستقر بعد قلق واضطراب .
معلمي ، أنت لي أستاذًا إنسانًا ، وإنسانًا أستاذًا ترشفتُ من مناهل علمه كل الخير ، وما أسعدني الدهر بأحدٍ بعد أبي وأمي وأولادي إلاّ بك ، أخًا وصديقًا ومعلمًا .
أعلم أستاذي أن جهلي غلب على علمي ، لكني أعلم أن حلمك يغلب غضبك ، ولين طويتك ورقة حاشيتك وانسجام طبعك ، هم من أصغر صفاتك .
وأعلم علم اليقين أنني قد ارتقيت مرتقًا صعبًا بجفوتي إياك ، وأنني قد بلغت من لدنك عذرًا وأنا هنا لا أبرئ نفسي ، ولا أبرر جفائي بقوله تعالى “ وكيف تصبر على مالم تحط به خبرًا “ بل أقول وأطمح ان يكون غاية مناي ومبلغ أملي أن أسمع منك ما قاله يوسف لإخوته “ لا تثريب عليكم اليوم “
قرأ الأستاذ الرسالة ، ورد عليها قائلًا ” وسيبقى الود ثاويًا في قلبي ، مقيمًا في نفسي ، لإيماني بطيب أصلك ، وأن الخير لا يضيع بين الله والناس .
سعدت جدًا برد الأستاذ ، وسعدت بقيمة الوفاء التي تجلت في فرحة الطالب وسعادتي كانت ببديع الكلمة وسحر البيان أشد .
د/ هاني الغيتاوي
Discussion about this post