فى مثل هذا اليوم 25مارس1199م..
إصابة ملك إنجلترا ريتشارد الأول وذلك أثناء محاربته لفرنسا مما أدى لوفاته في 6 أبريل.
ريتشارد الأول (8 سبتمبر 1157 – 6 أبريل 1199) ملك إنجلترا منذ 6 يوليو 1189 وحتى وفاته. كما حكم كدوق لنورماندي (باسم ريتشارد الرابع) ودوق أقطانية وغاسكونية وسيد قبرص وكونت أنجو ومين ونانت وسيد عموم بريتاني على فترات أثناء عهده(1). وقد عُرف بلقب ريتشارد قلب الأسد، حتى قبل تتويجه بفضل سمعته كقائد عسكري ومحارب عظيم. وسمّاه المؤرخون المسلمون ملك الانكتار.
في عمر السادسة عشرة، قاد ريتشارد جيشه، وأخضع التمردات على عرش أبيه هنري الثاني ملك إنجلترا في بواتو. كما كان ريتشارد القائد الرئيس خلال الحملة الصليبية الثالثة، بعد أن رحل فيليب الثاني ملك فرنسا، وحقق انتصارات معقولة على منافسه المسلم صلاح الدين الأيوبي، بالرغم من عدم استطاعته الاستيلاء على القدس.
تحدث ريتشارد لهجة (Langues d’oïl) وهي لهجة غالو رومانسية، إضافة إلى القسطانية وهي لغة أيضًا رومانسية كانت منتشرة في جنوب فرنسا والمناطق القريبة منها. لم يُمض ريتشارد وقتًا طويلاً من حياته في مملكة إنجلترا، حيث عاش في دوقية أقطانية في جنوب غرب فرنسا، مفضلاً جعلها حائط صد لحماية مملكته. كان أتباعه يعتبرونه بطلاً تقيًا. كما أنه من الملوك القلائل في إنجلترا، الذي غلب لقب شهرته (ريتشارد قلب الأسد) على لقب ترتيبه (ريتشارد الأول)، كما يعتبر من أيقونات إنجلترا وفرنسا.
أعلن ريتشارد رسمياً دوق نورماندي في العشرين من يوليو عام 1189 ثم توّج ملكاً في دير وستمنستر في الثالث من سبتمبر من نفس العام. منع ريتشارد جميع اليهود والنساء من حضور مراسم التتويج. على الرغم من ذلك، حضر بعض قادة اليهود مقدمين له الهدايا. وفقاً للمؤرخ رالف ديكيتو، قام أتباع ريتشارد بضرب وجلد اليهود وتجريدهم مما بحوزتهم ومن ثم طردهم إلى الخارج.
انتشرت شائعة بأن ريتشارد قد أمر بقتل جميع اليهود. فقام سكان لندن بارتكاب مجزرة بحقهم. تعرض الكثير منهم للضرب حتى الموت، وللسرقة، كما حرق بعضهم أحياء. هدمت العديد من منازلهم، وتعرض بعضهم للتعميد قسراً. اتخذ بعضهم من برج لندن ملاذاً، بينما فرّ الآخرون للحفاظ على حياتهم. ادّعى البعض أن مرتكبي هذه الجرائم كانوا مجرد مواطنين غيورين ومتعصبين، وأن الملك ريتشارد قام بمعاقبتهم. كما قام بالسماح لليهود الذين أجبروا على ترك دينهم بالعودة إلى اليهودية. يشار إلى أن مشاركة ريتشارد في الجرائم ضد اليهود لم يثبت قط.
شعر ريتشارد بأن هذه الاعتداءات قد تزعزع من استقرار مملكته قبيل رحيله للمشاركة في الحملة الصليبية الثالثة. لذلك أمر ريتشارد بإعدام المسؤولين عن أفظع جرائم القتل والاضطهاد. من ضمنهم من أحرق بعض منازل المسيحيين عن طريق الخطأ. وأصدر مرسوماً ملكياً يطالب بترك اليهود بشأنهم وعدم الاعتداء عليهم. على الرغم من ذلك، استمرت الاعتداءات في شهر مارس مثل مجزرة يورك التي وقعت في 16 مارس 1190 والتي تعتبر واحدة من أبشع المجازر وأشرسها.
التجهيز للحملة الصليبية
تمثال لريتشارد الأول (حوالي 1199) في دير فونتفرود ، أنجو.
بعد أن أصبح ريتشارد ملكًا، وافق هو وفيليب، على الذهاب في الحملة الصليبية الثالثة، لأن كليهما خشي أن يغتصب الآخر أراضيه في غيابه. وبدأ في تجهيز الجيش الصليبي الجديد، فأنفق معظم ما في خزانة والده (الممتلئة بالأموال التي جمعتها عشور صلاح الدين)، وزاد الضرائب، وحتى وافق على إطلاق سراح الملك ويليام الأول ملك إسكتلندا نظير قسمه بأن يدفع لريتشارد 10,000 قطعة فضية. ولجمع المزيد من الأموال، باع العديد من الألقاب الرسمية والامتيازات والأراضي للراغبين. كما اضطر من يحملون ألقابًا بالفعل لدفع مبالغ ضخمة للاحتفاظ بمناصبهم. فدفع ويليام لونغشامب أسقف إيلي ومستشار الملك 3,000 قطعة فضية للاحتفاظ بمنصبه كمستشار للملك.
كما قام ريتشارد بعض الترتيبات النهائية في أراضيه في القارة، فعيّن ويليام فيتزرالف حاكمًا على نورماندي. وفي أنجو، أقال ستيفن التوري من منصبه كحاكم، وسجنه مؤقتًا لسوء إدارته المالية، واستبدله بباين دي روشفور. وفي بواتو، عيّن بيتر بيرتن حاكمًا، وفي غاسكونية، اختار لها هيلي دي لا سيل حاكمًا. ثم انطلق في الحملة الصليبية في صيف 1190. وعيّن هيو دي بوسيه أسقف دورهام وويليام دي ماندفيل إيرل إسكس كأوصياء على العرش، لكن سرعان ما توفي الأخير وخلفه مستشار ريتشارد ويليام لونغشامب، وهي القرارات التي لم ترض جون شقيق ريتشارد.
انتقد بعض المؤرخين ريتشارد لقضاء ستة أشهر فقط من حكمه في إنجلترا، ومصّ موارد المملكة لدعم حملته. فيقول المؤرخ ويليام ستابس:
ريتشارد الأول ملك إنجلترا كان ملكًا سيئًا. إلا أن مآثره العظيمة كمهارته العسكرية وسخائه وتذوقه للشعر وروحه المغامرة، لم تشفع له ليتعاطف معه شعبه. لم يكن إنجليزيًا، لكن ذلك لا يعني أنه منح نورماندي أو أنجو أو أقطانية الحب أو الرعاية التي حرم منها مملكته. كان طموحه كمحارب: أن يقاتل من أجل أي شيء أيا كان، لكنه على استعداد لأن يبيع أي شيء قاتل من أجله. كان المجد الذي سعى خلفه هو النصر لا الفتح. ريتشارد الأول ملك إنجلترا
تذرع ريتشارد بأن إنجلترا «باردة والسماء تمطر دومًا»، وعندما كان يجمع الأموال لحملته، قال أنه «على استعداد لبيع لندن لمن يشتري.» ومع ذلك، على الرغم من إنجلترا مثلت قيمة كبيرة وجزءً كبيرًا من أراضيه، وبالأخص لأنها منحته لقب ملكي جعله على قدم المساواة مع الملوك الآخرين، لم توجه إنجلترا له أي تهديدات داخلية أو خارجية كبيرة خلال فترة حكمه، على عكس أراضيه في القارة، لذا لم تتطلب حضوره الدائم هناك. وكمعظم ملوك بلانتاجانت قبل القرن الرابع عشر، لم يكن في حاجة لاستخدام اللغة الإنجليزية على نطاق واسع. وبتركه البلاد في أيدي عدة مسؤولين (بما فيهم والدته)، أصبح ريتشارد أكثر قلقًا على أراضيه الفرنسية الواسعة. وبعد كل تجهيزاته تلك، أصبح لديه جيشًا من 4,000 رجل مثقل بالأسلحة، و 4,000 جندي مشاة وأسطولاً من 100 سفينة.
احتلال صقلية
توج تانكريد ملكاً على صقلية عام 1189 بعد وفاة ويليام الثاني على الرغم من أن كونستانس زوجة الإمبراطور هنري السادس كانت الوريثة الشرعية للحكم. زج الملك تانكارد الملكة جوان بالسجن ورفض إعطائها ميراثها المستحق، وهي أرملة ويليام وشقيقة ريتشارد. وفي سبتمبر 1190، وصل كل من ريتشارد وفيليب إلى جزيرة صقلية. وفور وصول ريتشارد طالب تانكارد بإطلاق سراح أخته وإعطائها الميراث. خرجت جوان من السجن في 28 سبتمبر ولكن تانكارد رفض إعطائها ميراثها.
شعر سكان مسينا بالضيق نتيجة تواجد قوات أجنبية على أرضهم، فثاروا مطالبين بخروجهم. فهاجم ريتشارد مدينة مسينا واستولى عليها في الرابع من أكتوبر عام 1190. وبعد سلب ونهب وحرق المدينة، أسس ريتشارد قاعدة له فيها. خلق هذا العمل حالة من التوتر بين ريتشارد وفيليب. بقي ريتشارد في صقلية حتى وافق تانكارد أخيراً على توقيع معاهدة. تم توقيع المعاهدة في 4 مارس 1191 بين كل من ريتشارد وفيليب وتانكارد. كانت شروطها الأساسية:
تحصل جوان على 20,000 أونصة من الذهب تعويضاً لها على الميراث الذي لم يعطها إياه تانكارد.
أعلن ريتشارد رسمياً ابن أخاه آرثر دوق بريتاني ولي عهده ووريث حكمه، وعلى تانكارد أن يعده بتزويج آرثر إحدى بناته عندما يبلغ سن الرشد.
بقي ريتشارد وفيليب في صقلية بعضاً من الوقت، مما أدى إلى زيادة حدة التوتر بينهما، حتى أن فيليب أراد التآمر مع تانكارد على ريتشارد. لكن الخصومة انتهت عند لقائهما حيث توصلا إلى اتفاقية تضمنت إنهاء خطبة ريتشارد لأليس شقيقة فيليب.
غزو قبرص
الشرق الأدنى إبّان الحملة الصليبية الثالثة (قبرص بارزة باللون البنفسجي)
في أبريل 1191، خرج ريتشارد بأسطوله الكبير من مسينا متوجهاً إلى عكا. لكن الأسطول تعرض إلى عاصفة أدت إلى تفريقه. وبعد البحث، اكتشف ريتشارد أن القارب الذي أقلّ أخته وخطيبته برنجاريا قد رسى على الساحل الجنوبي لجزيرة قبرص جنباً إلى جنب مع حطام بقية السفن. وتعرض الناجون من الحادث للأسر من قبل الحاكم إسحاق كومنينوس.
وصل أسطول ريتشارد في الأول من مايو عام 1191 إلى ميناء ليماسول في قبرص. طلب ريتشارد من إسحاق إطلاق سراح السجناء، إلّا أن طلبه قوبل بالرفض. ردًا على ذلك، استولى ريتشارد على ليماسول. ثم وصل عدد من الأمراء إلى ليماسول، وكان من ضمنهم غي دي لوزينيان. وأعلن الجميع دعمهم لريتشارد الذي قام بدوره بدعم غي دي لوزينيان ضد غريمه كونراد من مونفيراتو.
نبذ البارونات المحليون إسحاق، الذي اعتبروه صانع السلام مع ريتشارد والذي وافق على المشاركة في الحملة الصليبية وعلى تزويج ابنته من ريتشارد. لكن إسحاق غير رأيه وحاول الهرب. أما ريتشارد فبدأ حملة الاستيلاء على الجزيرة بأكملها مستعينًا بقواته تحت قيادة غي دي لوزينيان، فاستسلم إسحاق. ومع حلول الأول من يونيو، كان ريتشارد قد سيطر على قبرص بأكملها. ثم باع ريتشارد الجزيرة لفرسان الهيكل، ثم أصبحت قبرص في عام 1192 تحت حكم غي دي لوزينيان الذي جعل منها مملكة إقطاعية مستقرة.
كان الغزو السريع لقبرص مهماً جداً بالنسبة للأوروبيين، لكونها تحتل الجزيرة موقعاً استراتيجياً واقعاً على الممرات المائية على طريق الأراضي المقدسة، والتي كان من المستحيل احتلالها بدون الدعم القادم من البحار. وقد ظلت قبرص معقلاً للمسيحية حتى معركة ليبانتو عام 1571. وقد ساهم غزو ريتشارد لجزيرة قبرص في زيادة شهرته، كما أنه أمده بمكاسب مالية كبيرة. ثم غادر ريتشارد مع حلفائه إلى عكا في الخامس من شهر يونيو عام 1191.
الزواج والحياة الجنسية
قبل مغادرة قبرص، تزوج ريتشارد من برنغاريا الابنة الكبرى لـ سانشو السادس ملك نافارا(2)، التي تعرف عليها ريتشارد في بادئ الأمر من خلال مسابقة كانت قد أقيمت في موطنها نافارا. عقد حفل الزفاف في 12 مايو 1191 في كنيسة القديس جورج في مدينة ليماسول القبرصية، بحضور أخته جوان التي كان قد أحضرها ريتشارد من صقلية. كان حفل الزفاف ضخماً، وغايةً في الروعة والفخامة، محتوياً على الكثير من الولائم والأطعمة، ووسائل التسلية. كما تبعه احتفالات ومسيرات عامة، من ضمنها التتويج الملكي المزدوج، حيث توّج ريتشارد ملكاً على قبرص، وتوجت برنجاريا ملكةً على كل من قبرص وإنجلترا. أراد ريتشارد هذا الزواج من أجل الحصول على نافارا وجعلها إقطاعية، كما حصل أبوه على أقطانية بزواجه من إليانور. كما أن والدته دعمت زواجه من برنجاريا، من أجل تأمين حدود أقطانية الجنوبية حيث تقع نافارا. وبعد الزواج بوقت قصير، ذهب ريشارد إلى الحملة الصليبية برفقة زوجته الجديدة، لكنهما عادا بشكل منفصل. وقد واجهت برنجاريا صعوبات جمة في طريق العودة كما حدث مع ريتشارد. ولم ترَ إنجلترا إلّا بعد وفاته. وبعد إطلاق سراح ريتشارد من الأسر الألماني، أبدى ريتشارد بعض الأسف على ما فعله سابقاً لكنّه مع ذلك لم يعد إلى زوجته. ولم ينجبا أطفالاً من هذا الزواج.
منذ خمسينيات القرن الماضي، أصبحت قضية حياة ريشارد الجنسية مثيرة للاهتمام والجدل. مع أنه من النادر ما عالج المؤرخون الفيكتوريون والإدوارديون هذه المسألة، إلّا أن المؤرخ جون هارفي تحدى عام 1948 ما كان ينظر إليها على أنها مؤامرة الصمت التي تحيط بشذوذ ريتشارد الجنسي. اعتمدت تلك الفكرة في المقام الأول على الوثائق التاريخية التي تخص سلوك ريتشارد، حيث تؤكد بعض السجلات التاريخية أن ريتشارد قام بالاعتراف والتوبة مرتين. كما أنه لم ينجب أطفالاً طيلة فترة زواجه من برنجاريا.
ويتحدث المؤرخ روجر الهوديني عن راهب كان قد حذّر ريتشارد من خطر اللواط وطلب منه عدم القيام بالأعمال غير المشروعة، وبناءً على ذلك كان ريتشارد قد حصل على الغفران، فعاد إلى زوجته التي هجرها زمناً طويلاً، وابتعد عن الفاحشة التي كان يقوم بها، وظلّ مخلصاً لزوجته حتى أصبحا كالجسد الواحد. لكن هذه النظريات تناقض حقيقة أن ريتشارد أنجب طفلاً غير شرعي واحد على الأقل (فيليب)، وكذلك تناقض المزاعم التي تفيد بأن ريتشارد أقام علاقات جنسية مع النساء المحليات خلال الحملات التي كان يقوم بها.
وما زال المؤرخون حتى اليوم منقسمين حول هذه القضية، حيث يوجد بعض المؤيدين لنظرية جون هارفي، في حين هناك مؤرخون لا يوافقونه مثل جون غيلينغهام، الذي يعتقد أن ريتشارد كان طبيعياً. أما المؤرخ جان فلوري، فيقول بأن معظم المؤرخين في الوقت الحاضر يعتقدون بأن ريتشارد كان مثلي الجنس، مستدلاً بذلك على توبة ريتشارد (عام 1191 وكذلك 1195)، التي يقول فلوري أنها كانت توبة من اللواط. كما يقول فلوري بأن ريتشارد أقام علاقات مع النساء بالقوة. ويعتقد جون فلوري أن ريتشارد أقام علاقات مع كل من النساء والرجال خلال مراحل مختلفة من حياته. إلّا أن فلوري يوافق غيلينغهام بعدم تصديق الإدّعاءات التي تقول بأن ريتشارد كان على علاقة مع فيليب الثاني ملك فرنسا، والتي يصدقها بعض المؤرخين في الوقت الحاضر.
في الأرض المقدسة
تصور لريتشارد (يسار) وصلاح الدين (يمين) يعود للفترة بين عامي 1250-1260.
رسى ريتشارد بقواته في عكا في 8 يونيو 1191. وقدّم دعمه لابن مقاطعته البواتوي غي دي لوزينيان، الذي أرسل له الجنود لمساعدته في قبرص. كان غي زوجًا لأرملة ابن عم أبيه سيبيلا ملكة أورشليم، وكان يحاول المحافظة على مملكة أورشليم، وبوفاة زوجته أثناء حصار عكا في العام السابق. نافسه كونراد من مونفيراتو زوج إيزابيلا شقيقة سيبيلا وابن عم لويس السابع والد فيليب الثاني في المطالبة بالعرش. تحالف ريتشارد مع هيمفري الرابع لورد تورون زوج إيزابيلا الأول الذي أرغم على تطليقها عام 1190. كان هيمفري يدين بالولاء لغي ويتحدث العربية بطلاقة، فاستخدمه ريتشارد كمترجم وكدليل.
ساهم ريتشارد وقواته في الاستيلاء على عكا، رغم مرضه الشديد. في النهاية، تفاوض كونراد من مونفيراتو مع صلاح الدين على شروط الاستسلام ورفع رايات الملوك على المدينة. اختلف ريتشارد مع ليوبولد الخامس دوق النمسا حول مشاركة إسحاق كومنينوس حاكم قبرص في الحملة الصليبية. رفع ليوبولد رايته في مستوى الرايتين الإنجليزية والفرنسية. ففسر ذلك ريتشارد وفيليب أنها غطرسة، فليوبولد تابع للإمبراطور الروماني المقدس (على الرغم من أنه الزعيم الأعلى رتبة من بين القوات الإمبراطورية). مزق رجال ريتشارد الراية، ورموها في خندق عكا. فغادر ليوبولد الحملة الصليبية الثالثة فورًا. ثم غادر فيليب بعد ذلك بوقت قصير، وهو في حالة صحية سيئة، وبعد مزيد من النزاعات مع ريتشارد حول وضع قبرص (طالب فيليب بنصف الجزيرة) وتملك أورشليم. ليجد ريتشارد نفسه فجأة، بلا حلفاء.
استبقى ريتشارد 2,700 أسير مسلم كرهائن ضد صلاح الدين الأيوبي للوفاء بجميع شروط استسلام الأراضي حول عكا. وقبل أن يغادر فيليب، سلّم أسراه إلى كونراد، لكن ريتشارد أجبره على تسليمهم له. خشي ريتشارد أن يعرقله الأسرى عن التحرك بقواته من عكا، فأمر بإعدامهم جميعًا. ثم اتجه جنوبًا، وهزم قوات صلاح الدين الأيوبي في معركة أرسوف في 7 سبتمبر 1191(3). وفي نوفمبر 1191، بعد الاستيلاء على يافا، تقدم الجيش الصليبي نحو القدس. وصل إلى بيت نوبا، على بعد 12 ميل من القدس. كانت معنويات المسلمين في القدس منخفضة جدًا خشية سقوط المدينة بسرعة. إلا أن الطقس الذي كان سيئًا باردًا مع أمطار غزيرة وعواصف، وهذا بالإضافة لخوفه من أن يحاصر جيشه في القدس، دفعاه للانسحاب والعودة إلى الساحل. ثم حاول التفاوض مع صلاح الدين الأيوبي، إلا أنه لم ينجح في ذلك. وفي النصف الأول من عام 1192، حصّن هو وجنوده عسقلان.
اضطر ريتشارد بقبول كونراد كملك لأورشليم بعد أن تم انتخابه، ثم باع قبرص لغي دي لوزينيان. وبعد أيام في 28 أبريل 1192، اغتيل كونراد على أيدي الحشاشين قبل تتويجه. وبعد ثمانية أيام، تزوج ابن شقيقته هنري الثاني كونت شامبين من الأرملة إيزابيلا ملكة أورشليم، رغم حملها في ابن كونراد. لم يُعرف من وراء الجريمة، إلا أن المؤرخين يشتبهون في تورط ريتشارد.
تقدم الجيش الصليبي مرة أخرى نحو القدس في يونيو 1192، ورغم أن المدينة كانت على مرمى البصر، إلا أنهم اضطروا للانسحاب بسبب الخلافات بين قادة الجيش. كان ريتشارد ومعظم قادة الجيش يريدون إجبار صلاح الدين الأيوبي على التخلي عن القدس من خلال مهاجمة قاعدة سلطانه مصر. في حين أصر قائد القوات الفرنسية هيو الثالث دوق بورجوندي على أن الهجوم المباشر على القدس يجب أن يتم. قسّم هذا الشقاق الجيش الصليبي إلى فصيلين، ليس في قدرة أحدهما فرض رأيه على الآخر. وقال ريتشارد أنه سيصاحب أي هجوم على القدس فقط كجندي بسيط، ورفض قيادة الجيش. ودون قيادة موحدة، اضطر الجيش للانسحاب والعودة إلى الساحل.
بدأت فترة من المناوشات البسيطة مع قوات صلاح الدين في الوقت الذي تفاوض فيه ريتشارد وصلاح الدين الأيوبي على تسوية الصراع. كما علم ريتشارد بأن فيليب وشقيقه جون بدئا في التآمر ضده. ومع ذلك، أصر صلاح الدين على هدم تحصينات عسقلان، التي صنعها رجال ريتشارد، وعدد قليل من النقاط الأخرى. حاول ريتشارد محاولة أخيرة لتعزيز موقفه التفاوضي بمحاولة غزو مصر، لكنه فشل. في النهاية، نفد الوقت أمام ريتشارد، وأدرك أنه ليس بإمكانه تأجيل عودته. وتوصل مع صلاح الدين الأيوبي على تسوية في 2 سبتمبر 1192، اشتملت على هدم تحصينات عسقلان، والسماح للحجاج والتجار المسيحيين بدخول القدس، كما تضمنت هدنة لمدة ثلاث سنوات.
الأسر والعودة
تصور للإمبراطور هنري السادس وهو يسامح ريتشارد، تعود لنحو عام 1196.
أجبر الطقس السيئ سفينة ريتشارد على أن تحط في كورفو، في أراضي الإمبراطور البيزنطي إسحاق الثاني، الذي اعترض على ضم ريتشارد لقبرص التي كانت أرض بيزنطية مسبقًا. متنكرًا في زي فرسان الهيكل، أبحر ريتشارد مع أربع مرافقين من كورفو، غير أن سفينته تحطمت قرب أكيليا، مما أجبره على رحلة خطرة في وسط أوروبا. وفي طريقه عبر أراضي زوج شقيقته هاينريش الأسد، أسر ريتشارد قبل عيد الميلاد عام 1192 بوقت قصير قرب فيينا من قبل ليوبولد الخامس دوق النمسا، الذي اتهم ريتشارد بالترتيب لقتل ابن عمه كونراد من مونفيراتو. وعلاوة على ذلك، أهان ريتشارد ليوبولد شخصيًا بإنزال رايته من فوق أسوار عكا.
سجن ليوبولد ريتشارد في قلعة دورنشتاين، وصل خبر تحطم سفينة ريتشارد إلى إنجلترا، إلا أن الأوصياء على عرشه ظلوا لعدة أسابيع غير متيقنين من مكان وجوده. أثناء وجوده في السجن، كتب ريتشارد أغنية “Ja nus hons pris” («لا يوجد رجل مسجون»)، التي وجهها إلى أخته غير الشقيقة ماري كونتيسة شامبين. كتبها بالفرنسية والقسطانية، للتعبير عن مشاعر الهجر من قبل شعبه وأخته. كان احتجاز المشاركين في الحملات الصليبية مخالفًا للقانون العام، وعلى هذه الأسس حرم البابا سلستين الثالث الدوق ليوبولد كنسيًا.
أطلال قلعة دورنشتاين، حيث احتجز ليوبولد ريتشارد.
في 28 مارس 1193، تم تسليم ريتشارد للإمبراطور هنري السادس، الذي كان متضررًا من دعم أسرة بلانتيجانت لأسرة هاينريش الأسد، وأيضًا من اعتراف ريتشارد بتانكريد ملكًا على صقلية، فسجنه في قلعة تريفلز. كان هنري السادس في حاجة للمال لتجهيز جيش للمطالبة بحقوقه في جنوب إيطاليا، فاحتجز ريتشارد لكي يحصل على فدية. مما دفع البابا سلستين الثالث لحرمان هنري السادس أيضًا كنسيًا لاحتجازه غير المشروع لريتشارد. رفض ريتشارد تقديم التحية للإمبراطور، وقائلاً: «لقد ولدت في رتبة لا تعترف بأن أحدًا يفوقها إلا الله.» وعلى الرغم من شكواه، لم تكن ظروف احتجازه شديدة.
طلب الإمبراطور 150,000 قطعة فضية فدية لإطلاق سراح ريتشارد، وهو ما يعادل ما جمعته عشور صلاح الدين قبل ذلك بأعوام، ومن 2–3 أضعاف دخل إنجلترا في ذلك الوقت، وهو ما قدره المؤرخ ديفيد بويل بحوالي ملياري جنيه إسترليني بأسعار عام 2011. عملت أمه على جمع الفدية، حتى أنها صادرت بعض ممتلكات الكنائس. وفي الوقت نفسه، عرض شقيقه جون والملك فيليب الثاني ملك فرنسا على الإمبراطور 80,000 قطعة فضية لتأخير إطلاق ريتشارد حتى نهاية سبتمبر 1194، لكن الإمبراطور رفض العرض. أرسلت أموال الفدية مع سفراء الإمبراطور عبر ألمانيا، وفي 4 فبراير 1194، أطلق سراح ريتشارد. فأرسل فيليب إلى جون قائلاً: «انتبه إلى نفسك، فقد أطلق الشيطان.»
السنوات اللاحقة والوفاة
ريتشارد وفيليب، مخطوطة فرنسية من عام 1261
في الفترة التي غاب فيها ريتشارد، ثار أخوه جون بمساعدة فيليب الثاني، الذي كان قد استولى على نورماندي بينما كان ريتشارد في السجن. غفر ريتشارد لجون على فعلته عندما التقيا مرة أخرى; تماشياً مع الضرورة السياسية. كما جعل جون وريثه بدلاً من ابن أخيه آرثر.
فتح سقوط قلعة غيزور (بالفرنسية: Château de Gisors) بيد القوات الفرنسية عام 1196 فجوة في الدفاعات النورماندية. بحث ريتشارد عن موقع جديد يبني فيه قلعة جديدة من أجل الدفاع عن دوقية نورماندي، ولاستخدامه كقاعدة يبدأ منها حملته لاستعادة مقاطعة فيكسين من الفرنسيين. واختير هذا الموقع على ضفاف نهر السين، في قصور أنديلي. بموجب شروط صلح اللوفر بين ريتشارد وفيليب في ديسمبر عام 1195، لم يكن مسموحاً لكلا الملكين بتحصين هذا الموقع. على الرغم من ذلك، أراد ريتشارد بناء قلعة غايّار (بالفرنسية: Chateau Gaillard) هناك. حاول ريتشارد الحصول على تلك القصور من خلال المفاوضات، لكن رئيس الأساقفة والتر دي كوتانس كان متردداً في بيعها، حيث كانت تلك القصور إحدى أكثر الأبرشيات ربحاً للأموال. كما أن بقية الأبرشيات كانت قد تعرضت للدمار خلال الحروب. وعندما حاصر فيليب الثاني منطقة أومال في نورماندي، نفذ صبر ريتشارد واستولى عليها، على الرغم من معارضة الكنيسة لذلك. أصدر والتر دي كوتانس حرماناً بحق دوقية نورماندي ومنع من تقديم الخدمات الكنسية فيها. يقول المؤرخ روجر الهوديني: «ظلت جثث الموتى ملقاة في الشوارع دون أن تدفن في مدن نورماندي». لكن الحرمان ألغي من قبل البابا سلستين الثالث في شهر أبريل من عام 1197 بعدما قدم ريتشارد هدايا لوالتر كان من ضمنها أبرشيتين وميناء كبير في دييب.
في عهد ريتشارد، انخفض الإنفاق الملكي على بناء القلاع مقارنة بعهد والده هنري الثاني، ويعزى ذلك إلى تركيز إنفاق الموارد على حروب ريتشارد مع ملك فرنسا. إلّا أن بناء قلعة غايّار كلّف 15-20 ألف جنيه إسترليني في الفترة ما بين 1196-1198، فكانت بذلك واحدة من أكثر القلاع كلفة في ذلك الوقت، حيث كانت تكلفة القلاع التي بناها ريتشارد في إنجلترا حوالي 7 آلاف جنيه إسترليني، وهي بذلك أقل من نصف تكلفة قلعة غايّار. كما أن سرعة بنائها لم يسبق لها مثيل، حيث بنيت في عامين تقريبا، بينما كان بناء القلاع الأخرى يستغرق حوالي العقد من الزمان. ووفقًا للمؤرخ الإنجليزي ويليام بارفوس، أنه في شهر مايو من عام 1198 هطل على ريتشارد والعاملين بالبناء مطر غزير من الدم; فظنّ البعض أنه نذير شؤم، إلّا أن ريتشارد لم يأبه به. يقول ويليام «لم يتأثر الملك بما حصل، ولم يسمح بالتهاون في العمل ولو بمقدار ذرة، بل واصل عمله بسعادة. وإن لم أكن مخطئًا، حتى لو نزل ملك من السماء ليؤخر البناء لاضطر للعن ريتشارد لأنه لن يوافق على ذلك.»
مظهر بانورامي لقلعة غايّار
لم يذكر شيء عن المشرف على عملية بناء القلعة. تقول المؤرخة ألين براون أن المشرف على البناء كان الملك ريتشارد بنفسه; يدعم هذا الرأي الاهتمام الذي أبداه ريتشارد خلال زياراته المتكررة للقلعة أثناء بنائها. أصبحت القلعة في سنوات ريتشارد الأخيرة مكان إقامته المفضل. وكانت قلعة غايّار سابقة لعصرها، متضمنة ابتكارات اعتمدت في عمارة القلاع لقرن تلاها من الزمان. وصفتها المؤرخة ألين بأنها أحد أفضل قلاع أوروبا في زمانها. يقول المؤرخ العسكري البريطاني تشارلز أومان: «تعتبر قلعة غايّار تحفة عصرها. ستبقى سمعة ريتشارد كمهندس عسكري عظيم ثابتة بسببها. لم يكن ريتشارد مجرد مقلد لما رآه في الشرق، بل ابتكر بنفسه تفاصيل أدخلها على بناء هذه القلعة.»
عزم ريتشارد على مقاومة أطماع فيليب الثاني بالأراضي المتنازع عليها مثل مقاطعة فيكسين، حيث أخرج كل ما في جعبته من خبرة عسكرية وموارد هائلة في وجه ملك فرنسا. فقام ريتشارد بصنع تحالف ضد فيليب مكون من بالدوين التاسع كونت فلاندرز، ورينو كونت بولوني، وسانشو السادس ملك نافارا الذي داهم أراضي فيليب من الجنوب. والأهم من ذلك كله، استطاع ريتشارد تأمين ميراث فلف في ساكسونيا لابن أخته أوتو حاكم بواتو، الذي أصبح إمبراطوراً رومانياً مقدساً (باسم أوتو الرابع) عام 1198. ونتيجة لهذه التحالفات وغيرها من المكائد، انتصر ريتشارد على فيليب في عدة مناسبات. فرّ فيليب من فريتفال (الواقعة في وسط فرنسا) عام 1194 فور عودة ريتشارد من الأسر تاركاً أرشيفاً كاملاً من المراجعات المالية والوثائق التي حصل عليها ريتشارد. وفي معركة غيزور (تسمى أيضاً بمعركة كورسيل) عام 1198، اتخذ ريتشارد من عبارة الرب وحقي (بالفرنسية: Dieu et mon Droit) شعاراً له (وهو ما زال مستخدماً كشعار للملكية في المملكة المتحدة).
في شهر مارس من عام 1199، قام ريتشارد بقمع الثائرين في ليموزا. وعلى الرغم من أن ذلك الوقت كان وقت الصوم الكبير، إلّا أن ريتشارد «دمّر الأرض بالنار والسيف». ثم حاصر قلعة شالو شابرول التي كانت ضعيفة ومنزوعة السلاح تقريباً. يقول بعض المؤرخين أن ريتشارد حاصرها لأنّ أحد الفلاحين المحليين كان قد أخبره عن وجود كنز مدفون من الذهب الروماني، الذي ادّعى ريتشارد أحقيته في الحصول عليه بصفته سيداً أعلى على الإقطاعية.
وفي مساء اليوم الخامس والعشرين من مارس عام 1199، كان ريتشارد يتجول حول محيط القلعة بدون ارتداء درعه، يتحقق من وضع جنوده المتواجدين فوق جدران القلعة. كان الملك ريتشارد يقضي وقتاً ممتعاً وهو ينظر إلى أحد الجنود الذي كان يحمل القوس والنشاب بيد واحدة. صوّب هذا الجندي القوس تجاه ريتشارد، وقد لاقى هذا الفعل استحساناً من قبل الملك. إلّا أن رجلاً آخر رمى الملك بسهم ضرب كتفه الأيسر بالقرب من عنقه. أٌدخل الملك خيمته وقام الجرّاح (الذي وصفه البعض بالجزّار) بإزالة السهم بطريقة غير احترافية على الإطلاق، ما أدى إلى تحول الجرح بشكل سريع إلى غنغرينة. يقال أن ريتشارد طلب إحضار قاتله إليه الذي اختلف في اسمه، فقيل بيير أو بيتر، وقال البعض أن اسمه جون. وعندما وقف بين يدي ريتشارد، اتضح له (وفقاً لبعض المصادر وليس جميعها) أنه مجرد صبي. ادّعى هذا الصبي أن ريتشارد كان قد قتل أباه وأخويه؛ فأراد قتل ريتشارد انتقاماً لذلك. اعتقد الصبي أنه سيتعرض للإعدام، لكن ريتشارد أراد أن يكون رحيماً وهو على وشك توديع الحياة، فسامح الصبي على فعلته وقال له: أكمل حياتك، وبفضلي سترى نور الغد. وقبل إطلاق سراح الصبي، أمر بإعطائه 100 شلن. قام ريتشارد بتوريث جميع أراضيه لأخيه جون، أما المجوهرات فورثها لابن أخته أوتو.
الملك ريتشارد الأول
توفي ريتشارد في السادس من أبريل عام 1199 في أحضان والدته. وصفت وفاته بمصطلح الأسد الذي قٌتل من النملة وذلك يعزى إلى طريقة قتله. يقول أحد المؤرخين: «أثبت ريتشارد في آخر أعماله أن الشهامة كانت غير مثمرة خلال العصور الوسطى بهمجيتها ووحشيتها. حيث قام المرتزق الشائن ميركادير بسلخ جلد قاتل ريتشارد وتعليقه على القلعة فور وفاة ريتشارد.»
دُفن قلب ريتشارد في روان في نورماندي. ودُفنت أحشاؤه في شالو (المكان الذي توفي فيه). أما باقي جسده فدُفن في كنيسة فونتفريد في أنجو بجانب أبيه. في عام 2012، قام العلماء بتحليل ما تبقى من قلب ريتشارد واكتشفوا أنه قد تم تحنيطه باستخدام عدة مواد من ضمنها اللبان، وهي مادة ذات أهمية رمزية وذلك لأنها قُدمت عند ولادة المسيح وتحنيطه تم وفقاً للمسيحية.!!!!!!!!!!!!!!!
Discussion about this post