🖋📜قراءة في(حذاء اسباني) للأديب التونسي
@ محمد عيسى المؤدب
——————————————————————-
اذا لم تقرأ(حذاء اسباني) فانت خسرت نصف عمرك
واذا قرأته فأنت ربحت النصف الثاني…
مزيج طفولة بريئة الى حد…
وشباب جامح الى حد ،كخيل عادية ضبحا
وغبار الحياة يلاحقها…
وتختفي الطفولة ويولّي الشباب
ويعوضهما ثقل منطق الكهولة وعقلنة الظواهر والاشياء…. وتبدأ حقبة الذكريات واسترجاع (الذي كان..)هذا انطباعي قبل ان اسمع هاتفا يردّد
اخلعي نعليك انك في حرم(حذاء اسباني)
وهذه الاحداث تراوغني وتربكني
فعندما اظن أنني في اسبانيا أجد نفسي اجوب شوارع تونس العاصمة او قليبية أو واقفة أترحم على مانويل في مقبرة بورجل
والعكس صحيح عندما أظن انني اسير في شارع من شوارع قليبية مثلا أراني أسير على خطى
اجدادنا الأندلسيين في اسبانيا أو أطرق باب منزل ماريا في كرتاخينا…..
اتعبت توقعاتي ايها (الحذاء الاسباني)
القلعة تضعنا وجها لوجه مع -مانويل ——
قريقوري -البطل الضحية-والحقيقة أن كل شخوص الرواية مهمين لانهم يتحركون في أفق التكامل وكأنهم يعملون بنظام الفريق ومبدأ الكل من أجل الواحد والواحد من أجل الكل-وحسب رايي المتواضع لا يمكن الاستغناء عن اي منها ولا يمكن إقصاء أي منها وكم نجح المؤلف في جعلها
كالبنيان المرصوص رغم تفاوت مده ظهورها بين السطور
احببت هؤلاء أعني شخوص (حذاء اسباني )بظهر الغيب
أحببت مانويل وبطولاته
وانور ومصالحته مع ذاته
وهذا التوازن -والبذخ الفكري الذي يدوزن حياته
رايته عازفا ماهرا على كل الالات
يجيد النفخ في الناي ساعات الذكريات الحزينة
وقرع الطبول في ساحات الوغى
ويتقن النقر على الدربوكه تعبيرا عن الفرح والرضى
وحتى النشيد الوطني وتحية العلم…
انه الخيال الذي يسحبك الى الواقع
انه الواقع الذي يجنح بك ويسكنك براح الخيال
تمنيت في -لحظة ما -وانا سائحة في دروب هذا المنجز
أن يوجد من بين الكتاب الاسبان من يكتب عن مسيرة تونسي وهو في بلد (البحر وراءكم والعدو أمامكم)
ولا علينا من هذا (البحر وراءنا )ما دامت الانسانية أمامنا وما يجمعنا أكثر ممّا يفرقنا نحن بنو الانسان
وانسانية الشعب التونسي الذي فتح احضانه لهؤلاء، لابناء الحرية لا تضاهى…
وهذا ليس غريبا والتاريخ يذكر عملية استقبال الموريسكيين وتوطينهم -والمدن التي تحمل اسماءهم شاهد على كرم هذا الشعب…
—-الكاتب
جمع بين احداث في توليفة ادبية فريدة من نوعها
حيث مزجت الاماكن والازمنة والحب والحرب
وعظماء النضال والحرية والثقافات التي تكوِّن
الحضارة الانسانية لان الحضارة انسانية
ونتاج تعدد وامتزاج وتشابك الثقافات
—كابوس مانويل
رايته حقيقة ماثلة اماني وعشت حركية المشهد
بكل تفاصيله لحظة لحظة وحتى عند اسدال الستار
على هذا الكابوس بقيت تحت وطأة تخييل الواقع..
-وهذا الاثر هو عبارة عن خطوة الى الامام
وعدة خطوات الى الوراء لنغوص اكثر في حقبة فرانكو وسياسات خنق الحريات والقضاء على الاحرار واخماد جذوة الحرية في النفوس العزيزة
الراوي الاستاذ أنور ما نسي نفسه في خضم الاحداث
بل اورد لنا تفاصيل دقيقة تشي ببعض نقاط ضعفه وفلسفة حياته وبعض طقوسه
كتغزله بالقهوة التي يقول عنها حرفيا(. رائحة القهوة تمنحنا إحساسا بالهدوء والتركيز)
ونقاط ضعفه(الانبهار بمؤخرة الانثى لدرجة انني أحسست انه ينفذ الى روح المراة من هذه النافذة
ثم قوة ذاكرة حاسة الشم حيث عطر صوفيا
سحبه الى عالم مارسيلا والحب المقدس…
وبتداعي الذكريات وتماهيها مع خيط الحاضر الذي يعيدنا اليه او ياتي بها الينا اعني مارسيلا …
ويرحل بنا أنور في منعرجات حياته يستحضر اباه وأمه وكذلك من مثلت امه بالحنان والاحتواء
ونزور معه الكاف حيث نقف على قبر والديه ونترحم عليهما في خشوع…
فنجد انفسنا نقاسمه مساحة من هذا التاريخ الحافل بجحافل الذكريات التي حتى وهي مؤلمة وحزينة في وقتها بمرور الزمن وتعتق حزنها
تصبح مصدر سعادة من نوع آخر نعجـز عن التعبير عنه فنعيشه ونحسّه بعمق وبكل وجداننا فقط..
سرد شريطا مفصلا عن حياة البحارة الماجنة وكأن هذه الحياة ردة فعل وثورة على اليابسة التي تلقي بهم في كل مرة بين فكي البحر -وفي هذه الحانات يشنون هجوما معاكسا على ما يلاقونه من معاناة في عرض البحر — ويتزودون من الشرب والحب والجنس لمجابهة قادم الأيام العجاف وهم بين السماء والماء..
ونستحضر في خشوع صبرهم على مواجهة الموت مع كل تجديفة او مع كل صرخة نحيب صوت محرك القارب ،ومع كل نسمة تغري وقد تتحول الى عاصفة تنقل كل القارب الى حافة الموت
-نتعرّض لشخصيات تحمل نفس الاسماء(خوسيه) الطفل الذي مات في مغامرة البحث عن الحديد
وخوسيه الملازم رفيق رحلة الهروب من الموت اعداما بتهمة معارضة حكم فرانكو ،شخصيات تلتقي في الاسم ،تختلف في مسيرة الحياة ،وتعود لتجتمع على حافة الموت-إنها سخرية القدر…
تداخل عجيب بين الاحداث ولكنها تجري كل في حلبة وتتجمع لتتفرق وتتفرق لتتجمع وهنا نلمس قدرة الكاتب على التلويح بالقارئ حيث يريد هو وعن وعي تام
وفي كل باب يرفدنا الكاتب بحكاية لا ادري كيف
يغوص لمحيط الاساطير وياتي بها فيشدنا اكثر
لهذا(الحذاء الاسباني)(كقصة اختطاف القراصنة الطليان النساء من مقعد العرائس هذا في الهوارية
تلك العروس الغافية على صدر البحر
وبكل اريحية وصفاء ذهني يصف لنا ليلة عاصفة
في لقاء روحي مر عبر عناق جسدي بين
ايزبيلا ومانويل على لسان مانويل نفسه ولا احد اقدر من نقل لغة الجسد بكل امانة الا صاحب الجسد نفسه الذي حج لبقاع مقدسة في جسد آخر احتواه وجاس خلال مساماته واتحد معه وانصهر وذاب فيه(ص 151- لم تكن عينا ايزابيلا عيني مومس تفتح ساقيها لرجل عابر،انها امرأة بقلب حر وجسد ساخن الجسد الساخن يمنحنا الحب بلا توسل سخيف يمنحنا ارتعاشة الباطن،لا ارتعاشة أنصافنا السفلى…)
وأما ماريا فهي المرأة التي تدور حول أمومتها أرض مانويل ،هذه الأم العظيمة ككل أم ماريا التي تنط من وجدان مانويل في كل مرة مع الصليب ومصباح الكيروسين
(وصليب ماريا اصبح قطعة من روحي فيه عاصفة من الحنين والحب والالم)
والكاتب تحدث بحنكة المطلّع على خبايا تاريخ
البلد وبعض الافات الاجتماعية التي نخرت القيم
والاجساد(كالتكروري) الذي كان مرخصا فيه ومعروضا للبيع في المحلات العمومية بلا اي حرج
صور حالة مجتمع هارب من نفسه وسابح في عالم وهمي بفضل الافيون
كما صور الكاتب قليبية موطن لقاء الغرباء الذي اجبروا على الرحيل من مواطنهم الاصلية وقادهم القدر الى هذا البلد الأمين تعدد الأسماء وتعدد الجنسيات وتتعايش في انسجام تام وبدون اي فوارق ولا خلفيات ولا أحكام مسبقة الكل يركب قاربا واحدا ولا بد من إيجاد استراتيجيات تعايش لتجنب غرقه في عرض الحروب والانظمة والاستعمار وعلى هذه الوتيرة كانت تسير الحياة في قليبية وفي نزل فلوريدا بالذات ،والعنوان لا يخذل المضامين….
—كما نلاحظ اهتمام الكاتب كثيرا لنفسيات الشخصيات لعلمه ان الباطن مهم وله اولوية في تحريك ردود الأفعال واتخاذ القرارات وشد القارئ لهذه الشخوص التي تتحرك في مساحات وامكنة وأزمنة كما حددها لها ولا أحد يتجاوز مساحة حركته حتى وان تعالقت الأحداث…فالكاتب جعل منجزه قابلا جدا ليصبح فيلما أو مسلسلا لان اسلوبه في السرد احتوى ضمنيا سيناريو جاهزا للتنفيذ طبعا مع رؤية أهل الذكر…
وهذا العمل الروائي الناجح أتمنّى أن يشد أنظار صناع الدراما، من أجل أن يعاد إنتاجه دراميا، وقطعا سينجح مسلسلا أو فيلما كما نجح أدبيا
—كما لمست جرأة الاديب على اعطاء اسماء للشخصيات قد تكون لناس حقيقيين عاشوا
على مسرح الأحداث وألقاب عائلية معروفة في البلاد التونسية…
وعرج على موجة التكفير التي عبرناها وما زلنا نعبرها كمنطقة ارتجاجات بفضل العقول الجاهلة والنفوس المريضة التي عمل على شحنها دعاة الدين المنافقين الذي يتاجرون بالدين ويغسلون العقول الفارغة
وما نسي التعريج على الحرب العالمية الثانية والالمان في تونس
ومقاومة الاحتلال الفرنسي وأورد ذكر زعماء كالثعالبي وبورقيبة وصالح بن يوسف والانشقاق في الحركة الوطنية
وعلى لسان مانويل ابدى إعجابه بشخصية الزعيم بورقيبة
(هذا الرجل القصير القامة وصاحب العينين الزوقاوين رجل ذكي وله حضور ساحر ينبعث من عينيه وميض غريب) فنلمس شدة الاعجاب لاحقا
(الزعيم رجل خطير ….لا يقف الا مرفوع الرأس وكتفيه الى اعلى يصوب نظره الى مخاطبه كانه يصوّب نحوه مسدسه)
كما غاص في بعض تفاصيل الحياة العائلية للزعيم
وذلك بذكر حادثة وفاة والدته وماتيلدا الزوجة الخ
لــذا
(حذاء اسباني )هو تلاشي الجغرافيا وهو عبق التاريخ والحب والبطولة والنضال والحرية المنشودة -واذا كانت النفوس كبيرة تعبت في مرادها الاجساد
في كل مرة يعود مانويل الى نفسه ليسبراغوار ذاته
تاتي سيرة الحذاء(لبثت أجرحذائي ص 228)
وعبارة الحذاء عبر الاثر تظهر فجأة وتختفي فجأة
تظهر بوزن وثقل معنويين ظهورا صارخا تلفت
نظر القارئ وتشد انتباهه لان ظهورها مدروس
ومقرون بالف رسالة مشفرة ( فرانسيسكو رجل هادئ وجادّ ….يعتقد ان علينا التقيد بالقوانين حتى إن كانت ظالمة وفي اعتقادي قناعته تلك قادته الى معسكر القصرين وربما أنهت حياته تحت أحذية لا ترحم ص236)
ثم ينجلي للعيان سر الحذاء ورمزيته في خطبة الضابط مانويل في حضرة الملك (لقد حاولت بكل ما اوتيت من جهد أن أحول الحذاء الحديدي الذي يقعد الانسان الى حذاء من الجلد الناعم يضيء له الطريق وحاولت ان أجعل من المراة آلتي سكنتني أعوامًا مأوى انا سعيد بحياتي في تونس)
وكاني بالكاتب يقول تونس هي الأمان وموطن الطموح والحضن الدافئ للقريب والغريب
ولعل الاقصى على المغترب قسرًا العودة
الى موطئ قدمه الاول ليجد الموت لعب لعبته
ومارس غطرسته على احب الناس الينا(الام)
هذا الوطن الاول الذي حوانا نطفا
ونجح الكاتب بامتياز في استفزاز دموع القلب قبل دمع الاحداق
ويعود الراوي ويستحضر الحذاء في لحظة التحام الاحياء بالاموات(احسست بنعل حذائي باردا كأنني أقف حافيا)قد يحول الى نار ابراهيم بردا وسلاما
إنها فصول حب وعشق حتى وهي تحكي عن بشاعة الحرب والظلم انها أحافير ذاكرة انها جسد وروح. ..والكاتب مميز وسباح ماهر وهو يمخر عباب اللغة العاطفية بكل شاعرية وعنفوان
وكم حضور المرأة راقي في كل ادوارها
أم وزوجة وحبيبة وعشيقة وبنت وأخت ومناضلة(صحفية) وباحثة
ولعل عظمة البطل استمدت جذور الحياة من كل النساء اللاتي عرفهن بمختلف علاقته بهن
—عودة مانويل الى كرتاخينا كانت عبارة عن زحف للذكريات واستعادة شريط ما قبل رحلة اللجوء الى تونس…شريط يمر امامه بكل التفاصيل المضمخة بالألم والاوجاع وكل حب ووفاء للماضي واحتفاء بالحاضر ورضى بالمستقبل….
وبقرار حكيم عاد الى فلوريدا في قليبية هذا المهد الذي احتضنه لاجئا خائفا تطارده كوابيس النظام يعود الى تونس اختيارا حتى بعد تغيير النظام في اسبانيا ورحيل الطغاة ويموت ويدفن في تربتها…وليس أروع للأرض ان يكون اديمها من رفاة الاوفياء من الغرباء والبررة من الابناء
(مانويل قريقوري الحذاء الاسباني الذي هزم حذاء فرانكو) هكذا تم توصيفه
—فلوريدا الحاضرة الغائبة عبر كل فصول الرواية
تظهر آخر المطاف ظهورا سلسا كطيف شفيف
ويرفع ستار الغموض عن قصة حب تواصلت عمرا وما زالت وحتى موت الحبيبين ما جعلها تتلاشى بل ظهرت وتواصلت على هيئة ديوان شعر بات له مكانة في متحف أنور الاستاذ
هناك امتزاج عجيب وتعالق روح السارد بروح شخصية مانويل
وكان انور هو مانويل
أخلص للمؤلف الاديب الكبير محمد عيسى المؤدب قدرة عجيبة على ايجاد مواقف ومخارج للالتقاء شخوص تربطهم علاقات متنوعة فيختلق ما يمكن ان نطلق عليه(الصدفة الميعاد)
كالتقاء مانويل بريثيوسا في رحلة البحث عن رامون -ليعلم انه قتل يوم ودعه على الرصيف والسفينة تقله الى بنزرت في رحلة الفرار من نار
فرنكو…
—-لغة الكاتب شاعرية الى حد كبير ترحل بالقارئ الى مدن العشق الآهلة بالحب والوفاء-كما أن
عنفوان اللغة يسحبنا ويعلمنا الغوص في اعماق النفس البشرية حيث استطاع النفاذ إلى دواخل الكائنات الروائية واستبطان أغوارها النفسية في اللحظات العصيبة بالإضافة الى الحس الابداعي المتطور والراقي ،وجماليةانتقاء الكلمات المعبرة عن مشاعر ومواقف الشخوص….
رواية عابرة للقارات تحلق بين حوضي المتوسط على بساط من الإبداع….
(حذاء اسباني )هو رحلة بحث شاقة للكاتب وممتعة جدا للقارئ الذي يهوى السفر عبر قراءة الكتب التي يتماهى فيها الحب الكبير مع الفقد الكبير والحاضر الآني مع الماضي القريب والبعيد
شكرا الاديب -محمد عيسى المؤدب -على جمال ما تكتب وعلى رحلة الفكر والوجدان على بساط
[حذاء اسباني]
ملاحظة :أنا لست ناقدة ولا أمتلك أدوات وآليات النقد أنا مجرد قارئة يستهويني جمال ما أقرأ—-
فائزه بنمسعود
Discussion about this post