التجسير الحضاري اللغوي للعربية وملامحه
بقلم: الأستاذ الدكتور رجب إبراهيم أحمد
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية
إننا لا نستطيع أن ننكر أن المد الثقافي العربي ظهر وسط موجات ثقافية عاتية ظهرت قبله متمثلا في الحضارات الهندية والفارسية والصينية، بيد إن سطوة العربية كانت أقوى حتى إنها أجبرت الفرس مثلا على الكتابة بالعربية والتأليف فيها وبها، حتى إن أشهر البلاغيين من فارس، والعجيب أن الفرس تحولوا إلى العربية لقرون طويلة على الرغم من حبهم الشديد للغتهم الأصل وهي الفارسية.
وللأستاذ أحمد حسن الباقور كتاب يتحدث فيه عن القرآن الكريم وأثره في اللغة العربية، كتب له مقدمة الكتاب الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي فيشير إلى هذا فيقول: “وما كاد العرب بعد الفتوح يدخلون في بلاد فارس ويستقرون فيها حتى تعلم الفرس هذه اللغة الجديدة، وغلبت على ألسنة كثير منهم وأقلامهم، وما أكثر الفرس الذين شاركوا في إنشاء علوم اللغة العربية وتدوينها، وما أكثر الفرس الذين استأثروا ببعض هذه العلوم حتى أصبحوا كأنهم أصحابها، وكلنا يعلم أيضا استئثار الفرس بتدوين علوم البلاغة العربية” .
ويستمر الدكتور طه في التدليل على أثر العربية الحضاري في الفارسية ذاكرا لأمثلة واقعية “ومع أن الفرس قد أحبوا لغتهم الفارسية ونظموا فيها الشعر منذ أواسط القرن الرابع للهجرة فقد ظلت اللغة العربية لغة العلم والفلسفة عندهم إلى أواخر القرون الوسطى (!!) وانظر إلى كتب ابن سينا والتفتازاني والسيد الجرجاني والطوسي وغيرهم. وكل هذا بفضل القرآن الكريم، فبفضله انتشر الإسلام”
لكننا وبكل بوضوح نعلنها أن العربية لم تنتشر بالسيف فهي قرينة الإسلام الذي أيضا لم ينتشر بالسيف، فنحن ضد كل دعوة من شأنها إثارة تلك الشبهة الواهية التي تتجاهل وعن عمد الأثر الشديد التي أحدثته العربية وقدرتها في تجسير جسور التواصل الحضاري بين الشعوب التي انصهرت انصهارا كاملا في بوتقة الإسلام والعربية من خلفه.
لقد استطاعت العربية أن تقهر اللغة الفارسية والرومانية والبيزنطية بما فتح الله لها من قلوب أهل هذه البلاد التي كان من المتصور أنهم سيتخذون الإسلام دينا مع الإبقاء على لغتهم الأم، لكنَّ هذا لم يحدث كما تقول بنت الشاطئ في كتاب ” لغتنا والحياة”:” وكان من المتصور أن تجمع هذه الشعوب بين العربية لغة دين، وبين لغاتها القومية التي صانتها طويلا ضد الغزو، لغة حياة، ولكن لم يمض جيل أو جيلان، حتى كانت العربية اللسان المشترك لشعوب أمة واحدة، هجرت إليها ألسنتها القومية دون أن يجبرها أحد على ذلك، كما لم يكرهها مكره على أن تتخلى عن عقائدها وأديانها لتعتنق الإسلام، بل تركت لغة العرب تخوض معركتها مع لغات الشعوب الداخلة في الإسلام” .
ومن ملامح هذا التجسير الحضاري اللغوي للعربية أيضا قدرتها على ترسيخ معنى العروبة الشامل في قلوب معتنقي الإسلام من غير العرب حيث جعلتهم عربا شعورا ولغة وتفكيرا ورأيا.
ولقد أورد الشيخ محمد الغزالي في كتابه” الخديعة حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي” ما يجلي هذا التماهي من الحضارات الأخرى في العربية وملمح هذا التماهي الديني والثقافي واللغوي فيقول:” إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألحق المسلمين الصادقين بالعرب فقال على ما روى ابن كثير عن معاذ بن جبل: ” ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان”. ووضح ذلك بحديث شريف آخر رواه الحافظ بن عساكر بسنده عن مالك. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ” ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي “. بل ذهب إلى أبعد من ذلك فألحق أهل السابقة والجهاد من المسلمين غير العرب ببيت النبوة فقال: ” سلمان منا أهل البيت، وبلال منا أهل البيت، وصهيب منا أهل البيت “. ولهذا طابت نفوس المسلمين بهذه القيادة العربية العادلة، التي لا ترى فضلاً لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، والتي لا يمكن أن يدوم للإسلام حكم صحيح وشمل جامع إلا بها”
فالعربية بعد هذا الكلام لا علاقة لها بنسب أو حسب إنما علاقتها اللسان، فمتى تحدث بها غير العربي فهو عربي، وهذا من أهم ملامح التقارب الحضاري بين العربية وغيرها تقارب يصل إلى حد التماهي والذوبان فيها.
إن العربية لغة تتسم بالمرونة مما يجعل اندماج الشعوب الأخرى في تعلمها وتقبلها والحديث بها أمرا سلسا للغاية، وكم رأينا من مثقفين وكتاب غير عرب لكنهم أتقنوا العربية وتكلموا بها وألفوا بها.
وإنّه لمن الصعب أن تبقى أي لغة بمنأى عن التأثير في غيرها أو التأثر بها، وهذا ما أكده الدكتور رمضان عبد التواب قائلا: “من المتعذر أن تظل لغة بمأمن من الاحتكاك بلغة أخرى” . ولأن العربية أضحت قبلة؛ حيث قصدها الكثير من المسلمين الجدد من كل حدب وصوب؛ ليشهدوا بها منافع لهم دينية وعقدية وروحية، ودورها الفعال لم ينقطع على مرّ السنون والأزمان، ولكنه في العصر الحديث كان أكثر وأعمق؛ وذلك بفضل ما تنضوي عليه العربية من أسباب التقدم والرقيّ، والسعة والغنى، والقوة والفخامة، والفصاحة والجزالة، والتأثير والتغيير فيمن يتعلمها على جميع الأصعدة، ولعله في الوريقات التالية نرى أثرها في بعض اللغات العالمية.
٣١ مارس ٢٠٢٣
Discussion about this post