أحلام جائعة مقاربة إلى الحرية للقاص المصري رضا يونس بقلم الناقد منير عتيبة

أحلام جائعة إلى الحرية
مقاربة المبدع
منير عتيبة.. لمجموعتي القصصية ( أحلام جائعة)

“في مجموعته القصصية الجديدة (أحلام جائعة- دار المفكر العربي للنشر والتوزيع2023) يقدم القاص المصري رضا يونس خلطة ممتعة من الكوابيس والأحلام المتراوحة بين واقع مهترئ بكل مكان بالعالم، وروح طموح لعالم أفضل، وذلك في إطار فني يجمع بين الواقعية والفانتازيا وروح الأدب الساخر، ليس في المجموعة فقط، بل ربما في القصة الواحدة، متوسّلًا بلغة تتراوح بين الفصحى المتناصّة مع القرآن الكريم والشعر الفصيح وبين اللغة المحكية اليومية بتوجيه لغوي. يغلَّب السخرية المُرّة في تركيب الجمل إضافة إلى معانيها،
ربما تكون الموضوعات الأساسية التي تدور حولها موضوعات قصص المجموعة هي: الهمّ العربي متمثّلًا في قضيته الكبرى وهي فلسطين، ولكنها هنا تتوسّع لتشير إلى تغوّل العدوّ؛ ليوسّع من مساحة ما يحتلّه من أرض بالفعل البدني إلى الاحتلال الاقتصادي والسياسي والنفسي. وقضية التكنولوجيا الحديثة وتعاطي الإنسان العادي معها، وكيف أنها وسيلة كبار العالم لتحويل الإنسان المعاصر إلى مسخٍ يتحكّمون فيه ويوجّهونه كيفما يشاؤون. كما تتناول ببعض القصص العلاقة بين الرجل والمرأة من منظورٍ ساخر.
الهمّ العربي:
من قصص هذا المحور قصة “من يشتري الوطن؟”، فبطل القصة يريد أن يبيع وطنه بدرهمين، لكنه لا يجد من يشتريه، هو يحبّ الوطن ويعشقه، لكن الوطن لم يعد هو وطنه القديم، لقد تغيّر كل شيء فيه، شكلًا وموضوعًا، حتى أنه يكتشف في النهاية أنه لم يجد المشتري المطلوب لأن وطنه مباع بالفعل، لكن الكاتب لا يتوقّف عن الحلم المستوحى من قصّة يوسف عليه السلام (من خلف الدخان الغارق في الطوفان تخرج، تحمل في ملامحها سبع سنبلات خضر من رحم اليابسات، يمناها تتشبّث بكتاب فوق رأسها، بصوت ناضر: أنا أشتري الوطن) فهو يشير إلى الواقع الحالي بوصفه طوفان نوح والمستقبل المأمول يتناصّ فيه مع تفسير يوسف لحلم الملك. أما قصة “نصف الكوب الفارغ”، وفيها يكون البطل متفائلًا بنظّارته الجديدة، فيقرأ في الصحف الأخبار التي يريد ويتمنّى أن يقرأها (زلزال بقوة 9 ريختر يدمر السد.. مصر أول دولة تصل إلى كوكب الزهرة عبر سفينة الفضاء خوفو3….. الجنيه يعود إلى قيمته قبل خمسينيات القرن الفائت.. خروج آخر صهيوني من فلسطين.. الأسد يتنازل سلميًا للحكومة المنتخبة)، لكنه يشارك الصبية الذين يصغرونه في العمر كثيرًا في مباراة كرة قدم، فتُكسر نظّارته، فيقرأ الأخبار كما هي بالصحف (أثيوبيا تبدأ الملء السادس.. إلغاء مجانيّة التعليم.. الدولار يكسر حاجز الخمسين جنيه.. إسرائيل تنقل عاصمتها إلى القدس باعتراف جامعة الدول العربية.. 2% لا ينتخبون بشار). وبرغم بعض المباشرة التي تتطلّبها قصص هذا المحور، إلا أن الكاتب استطاع أن يجعلها ممتعة ببنائها الفنتازي ولغتها الساخرة وتناصّها مع الموروث الديني والثقافي للقارئ.
ومن قصص هذا المحور أيضًا (حارس المبولة) و(آمال حبلى).
الإنسان المسلوب:
قصص هذا المحور تتحدث عن الإنسان الذي لم يعد يملك ذاته، سواء بسبب الفقر كما في قصص (معدة لقيطة) (ثلاثة أصفار) (نشيد القطيع)، أو بسبب تدنّي مستوى التعامل الأخلاقي بين البشر وبعضهم البعض وطمعهم في بعضهم البعض، حتى أنهم مستعدون لافتراس الآخرين مثلما في قصة (المسافة صفر) أو بسبب الصعود الطبقي والاقتصادي والإداري للمنافقين و”الطبالين” وليس للمجتهدين والأسوياء مثلما في قصتي (اللفافة) و (اغتيال طبلة)
وكذلك بسبب استخدام التكنولوجيا الحديثة للتحكم في عقول ومشاعر البشر وتحويلهم إلى آلات طيّعة مثل قصتَي (ميتافيرس) و(كريرا)، أو المستلبين إلى الخرافة التي استعبدتهم حتى أنهم يعزون انقطاع الكهرباء إلى شبح قتله عمدة منذ عشرات السنين كما في قصة (رعب محمود). وتشير قصة (السقوط لأعلى) إلى تعامل سلطة الجهل ممثلة في صاحب المزرعة توفيق الذي لا يعرف أن حصانه المتمرّد حصان عربي أصيل لا يقدّر بثمن، فيعذّبه، ويحاول إذلاله بالتجويع، لكن الحصان يأنف الذلّ ويصمد، حتى تصعد روحه عزيزة كريمة.

الرجل والمرأة:
تتعقد العلاقة بين الرجل والمرأة في المجموعة التي تعرض بعض قصصها لمحات سلبية لأبعاد هذه العلاقة، فالمرأة ليست سوى موضوعَا للشهوة يتحرّش بها الرجال والنساء في قصة (المسافة صفر). والرجل الذي أحيل للتقاعد يسبب مشكلات صغيرة لزوجته بالبيت، ثم يشغل وقته بالزواج من امرأة ثانية يقضي معها وقت عمله، فيريح الزوجة الأولى التي تظنُّ أنه وجد عملًا ما، لكن الزوجة الثانية تحال هي الأخرى للتقاعد، فتبدأ المشاكل بينها وبين الزوج، الذي لا يفكّر سوى في حلٍّ واحد وهو البحث عن زوجة جديدة لا تزال تعمل؛ قصة (وظيفة أربعينية).
أما قصة (العتبة الحمرا) فهي تقدّم الانتقام الوحشي لزوجة تعدّدت خيانات زوجها لها، فتقتله (مسمومًا مخدرًا محروقًا مشنوقًا مطعونًا ممزقًا دون دمعة وحيدة تنحدر ولو بطريق الخطأ من مقلتيها المتحجّرتين) لكنها تكتشف؛ ونحن أيضًا، أنها كانت تحقق بخيالها ما لا تستطيع تحقيقه في الواقع؛ إذ يربت الزوج على كتفها ويناديها باسمها.
لكن قصة (أحلام جائعة) تعرض حالة نادرة لرجل يعشق زوجته، ويبدو أنه سيموت جزعًا عليها وهي بالمستشفى، يحرص على عمل كل ما يسعدها، يقول للطبيبة (أحبها يا سيدتي، هي كل حياتي)، والمريضة تقول لها:(من فضلك يا دكتورة لا تخبريه بألمي). ننتظر في نهاية القصة مفاجأة تنسف هذا العالم الجميل وتلك العلاقة الرائعة، لكن المفاجأة فعلًا أنه حبّ حقيقي صادق وعميق وممتد، ويفاجئك الكاتب بأنه حالة شديدة الندرة، فزوج الطبيبة؛ التي عاشت يومين جميلين تتابع حالة الزوجين العاشقين؛ اللذين مرّ على زواجهما تسعة عشر عامًا ولم يفتر الحب، يتّصل بها (يلا بسرعة مستنية إيه، هوا انا السواق بتاعك يا هانم؟! بقالي ساعة مستنيكي في العربية.. مش كفاية طفّحتيني امبارح أكل بايت). لنهبط من علياء المحبة إلى قبح الواقع اليومي.
غير أن بعض القصص لم تكن سوى طرفة معروفة، مثل قصة (باريسية) التي تتحدث عن رجل تعرّف بفتاة جميلة على النت، ثم قابلها في الواقع فاكتشف أنها عجوز وقبيحة. وقصّة (مساحيق الغربة) التي جاء تناولها لموضوع تدريس الدين بشكل غير مناسب مما ينتج عنه نماذج مشوّهة لا تعرف دينها؛ مباشر يخلو مما تحمّله القصص الأخرى من دهشة. أما قصة (الخيط الأبيض) فهي أقرب إلى ملخص رواية مليئة بالأحداث الميلودرامية المعتادة.
أحلام رضا يونس في هذه المجموعة جائعة إلى الحرّية بكل معانيها ومستوياتها، الحرّية على المستوى الشخصي من قيود الواقع اليومي الخانق بما فيه من إحباطٍ وجوعٍ ماديٍّ ومعنويٍّ وفقدانِ أمل، وعلى المستوى الإنساني؛ تحرّر الإنسان ممن يتحكّمون فيه عن بعد بكل الوسائل والمخترعات التي نعرفها والتي لا نزال نجهلها، وتحرّر الوطن العربي الكبير مما يكبّله من قيود عديدة تفتّته وتعوقه عن المستقبل..”